تصدر عن دار نشر المصرية اللبنانية - لا بد أن لك مكانة كبيرة لدى الريِّس أبو دياب.. بهذه العبارة عبَّر بعض رجاله عن وصف ما يعتمل بصدورهم عندما رأوه يترأس الغارة التى انتوى شنَّها على قافلة عائدة من السودان، حاملة الكثير من الذهب والأقمشة حسبما كان يبلغهم رضوان الدليل أولًا بأول عن تحرُّكات القوافل التجارية ومواعيدها التى يقف عليها من تجار الصعيد، جاهدت كثيرًا كى أثنى أبو دياب عن قراره باصطحابى معهم رغم أنه لم يعد يخرج للإغارة فى الآونة الأخيرة معتمدًا على رجاله المدربين جيدًا؛ لكنه أبى تمامًا.. لن أنسى أبدًا نظرته المتشككة لى فى ذلك اليوم قائلًا بعد فترة شرود طويلة: - يداك ليستا ناعمتين، وأنا لا أصدق أنك كنت كاتبًا فى الدواوين حسبما أخبرتنا، ورغم ضآلة جسدك ومظاهر تدينك إلا أن مهاراتك فى ركوب الخيل وإطلاق البارود وصيد الأرانب البرية والرماية بالقوس والسهم تشى بأنك مغامر قديم من الشُّطَّار، حتى طريقتك المتفردة فى صيد العقارب بالحربة لا يمكن أن تصدر عن كاتب ديوان.. أنت مثل عقرب صغيرة الحجم كالحلزون، لكنك عظيم الأثر؛ فلدغتك مميتة.. تعجَّبت من وصفه لى ولم أعلِّق على كلامه. كان السير فى الصحراء بجوار سليم أبو دياب، وفى معيته، متعة حقيقية، أنستنى مؤقتًا ما أنا ذاهب لأجله، فلم أكن أتوقع أبدًا أن أتحول يومًا ما إلى قاطع طريق.. طوال الرحلة بين الكثبان الرملية والجبال والدروب الصفراء القاحلة كان أبو دياب يسير بتلقائية مثلما نفعل تمامًا فى حارات المدينة وطرقها، يحفظ المسالك عن ظهر قلب مع أنها متشابهة، لم يكن يحتاج إلى دليل أبدًا رغم انقطاعه عن السرقة منذ عامين مكتفيًا بجمع الغنائم وتقسيمها، أعيتنى مراقبته ولم يكِل هو من الشرح والتفسير طوال الرحلة التى استغرقت ساعة أو يزيد سيرًا على الأقدام فى اتجاه الغرب حسبما قدَّرت، وبعدها فقدت بوصلتى تمامًا.. كل عشرة أمتار كان سليم أبو دياب يشير لى على عشرات العلامات المحفورة بالرمال.. هذا أثر لقدم رجل كان يحمل ثقلًا.. انظر كيف غاصت قدمه فى الأرض، وهذه لأقدام رجال كانوا يهرولون خوفًا لأنها عشوائية، ربما هاجمتهم ذئاب، وتلك لثعلب، وهذه لضبع، أما هذه فلثعبان سام من النوع الذى يدفن نفسه فى الرمال، ولعل جحره غير بعيد، فعلينا أن نأخذ حذرنا.. حتى فضلات الدواب لم تسلم من تمييزه! اقتربنا من مكان به تبة عالية، فأشار لرجاله الراكبين ليترجَّلوا عن دوابهم، وبعضهم يسحب حصانين لنا من المقدر أن نستخدمها فى العودة، أو هكذا كنت آمل.. راح الرجال يعملون فى صمت مكتفين بإشاراته الصمَّاء، أنزلوا جذوعًا ضامرة لنخل عجوز من على ظهور البغال وراحوا يثبتونها قائمة كالأوتاد على مسافة كبيرة متباعدة حتى غاب الرجل الذى يحمل الجذع الآخر عن نظرى تمامًا، بينما انهمك آخرون فى تركيب وفرد شِباك من الدُّوبار بينهما.. وعلى مسافة تقترب من خمسين مترًا حفر بعضهم حفرة عريضة غير عميقة فيما يبدو أنه قد سبق لهم حفرها من قبل، فاكتفوا بتسوية حوافها وإزاحة بعض الرمال عنها، ثم وضعوا عليها ألواحًا من الصاج متجاورة لتغطى فوهتها.. اصطحبنى أبو دياب إلى تبة عالية، ثم أشار ناحية رجاله وهم يرصُّون الألواح الصاجية قائلًا: - ماذا ترى من هنا؟ دقَّقت النظر، ثم أجبته فى دهشة: - بركة عظيمة من الماء.. فأكمل وهو يضحك بثقة: - وتوحى بوجود واحة قريبة تستحق التوقف للراحة من عناء السفر.. أليس كذلك؟ هززت رأسى بالإيجاب.. على مقربة منَّا كان عشرة رجال أو يزيد قليلًا منهمكين فى زرع ألغام صغيرة تبدو مسروقة من معسكرات الجيوش، على شكل شريط يقطع الطريق عرضيًّا لكنه متعرِّج نوعًا ما، وضعوا قطعًا حديدية دائرية الشكل بعضها بيضاوي، وراحوا يدفسونها فى الرمال بغير عمق، صدق ظنِّى عندما علمت بعدها من أبو دياب أنهم استولوا عليها من العسكر الفرنسيس عندما أسروا كتيبة كاملة وقتها، لكن أبو دياب خاف غضبة الجنرال نابليون فيما يبدو، فأطلق سراحهم جميعًا بعدما جرَّدهم من كل أسلحتهم وعتادهم، نزلت خلفه من التبة وانحرفنا يسارًا ثم لحق بنا بقية الرجال لنستقر فى سهل يحتضنه جبلان أحدهما صغير، وراح هو يتسامر معهم ويضحكون ويحكون نوادرهم كأنهم فى نزهة، بينما كان القلق والتوتر يفتكان بى ببطء.. مضى الوقت ثقيلًا حتى انتصف النهار، كان الجو دافئًا فى تلك الفترة من العام فلم نشعر بالقيظ أبدًا لكن تطايُر الحصى والرمال الناعمة جعلا أبو دياب يشعر بالقلق ويأمر أحد رجاله باستطلاع الأمر من فوق التبة كل فترة حتى حانت اللحظة التى حاولت تجنبها وفشلت وتمنيت ألا تحدث فوقعت.. صاح الرجل قائلًا: - إنهم على مرمى البصر.. هبَّ سليم أبو دياب ورجاله كنمور جائعة ظلَّت راقدة وسط الحشائش تترقب فريستها، ثم ركضت فجأة لتنقض عليها، اعتلوا تبة أخرى قريبة بحيث تصبح القافلة أمامهم وقد أخرجوا طبنجاتهم، وقفوا جميعهم خلفه فى صفٍّ ملتوٍ على شكل هلال، بحيث يرى كل منهم ما يراه الآخرون.. اقتربت القافلة الكبيرة المكونة من الجمال والدواب الصغيرة المحملة بالبضائع، كان يقودها رجال بشرتهم سمراء وقد تلفَّحوا بشيلان من الصوف، تغطى رقابهم حتى أنوفهم اتقاءً لذرَّات الرمال الناعمة وغدر عواصف الصحراء، كانت تلك القافلة الضخمة القادمة من بلدة سنار تربو على الألف جمل، ويبدو أنهم قد تلقوا تحذيرًا شديدًا من قُطَّاع الطرق، فزُودت القافلة بحراسة مزدوجة من الجانبين من عربان العبابدة المعروفين بالغلظة والشراسة، ورغم كل ما رأيته فى حياتى من مغامرات وقتال ومعارك، إلا أننى شعرت بعدم الاطمئنان، وبالطبع لم أخبر أبو دياب بمخاوفى، فقد سبق السيف العذل، ونظرة واحدة من بعيد لكمِّ وحجم البضائع التى تحملها القافلة سيجعلان كلامى يذهب أدراج الرياح حتى قبل أن يصل إلى مسامعه، راحت الدواب تتهادى فى السير كسفينة ضخمة تشق سطح البحر برفق.. مئات الجِمال تقطع دروب الصحراء ومسالكها فى صبرٍ هائل، اقتربوا حتى لمعت ألواح الصاج أمام أعينهم على أشعة الشمس، فأرشدهم ظنهم بقرب الواحة منهم، مؤمنين بأنها بركة ماء ضخمة، انحرفوا جميعًا خلف قائدهم ودليلهم.. فلما اقتربوا منها بمسافة كافية هدَّأوا من سرعتهم، انتظرنا جميعًا حدوث الانفجار وتطاير أشلاء الرجال وجمالهم لكنَّ شيئًا من ذلك لم يحدث وعبرت القافلة شريط الكبسولات بأمان تام، تطاير الشرر من عينى أبو دياب وهو يتوعَّد مَن يُدعى مرزوق بحسابٍ عسيرٍ بعد أن فطن إلى أنها قد عطبت من الرطوبة بسبب سوء التخزين، ثم أشار بيده لواحدٍ من رجاله خلفنا بإشارة معينة، فأطلق الرجل البارود من طبنجته بكثافة حتى فرغت، ثم راح يحشوها فى همة.. تحوَّلت المساحات الصفراء الهادئة إلى ساحة حرب ضروس، بعد أن اضطربت صفوف القافلة تمامًا وأخرج أحدهم بندقية صوَّبها فى اتجاهنا والارتباك باديًا على حركة يديه، سمعت صوت البارود يُطلق بكثافة من كل اتجاه، ثم شاهدت الرجل المرتبك وهو يسقط من فوق بعيره قبل أن يضم إصبعه على الزناد، تبع ذلك سقوط مَن كانوا بجواره من جرَّاء بارود أسلحة أبو دياب ورجاله الذين كانوا لا يخطئون الهدف أبدًا.. تلطَّخت الرمال ببقعٍ حمراء داكنة فى مناطق كثيرة، وراحت عشرات الجثث تتناثر فى المكان بعشوائية.. تفرَّقت القافلة فتراجعت مؤخرتها واختفت عن الأنظار، وهرب بعضها من الجانب الغربى، بينما فرَّت مقدمة القافلة فى الاتجاه الشرقى بأقصى سرعتها لتصطدم البعير بالشباك العريضة العالية التى نصبها رجال أبو دياب خلف التبة بمحاذاة الجبل، فأجبرتهم على التوقُّف لفترة كانت كافية لكى يقوم رجاله بالإجهاز على مَن رفض التسليم منهم رافعًا يديه لأعلى وهو يجلس فى وضع القرفصاء.. أهؤلاء هم الناجون؟ سرحت لوهلة فى أمرهم متسائلًا مع نفسى: - وماذا هم فاعلون؟ بالطبع سيتركهم أبو دياب مع بعض الدواب فى الصحراء وقد لا يكون من بينهم دليل، وقد ينفد طعامهم وشرابهم، فهم هالكون لا محالة.. ليس أمامهم سوى تقديم فروض الطاعة والولاء لأبو دياب كى يقبلهم ضيوفًا بالعزبة، ومن ثم يصيرون لصوصًا مثله فيصبحون كالمستجير بالرمضاء من النار.. يا ألله! ما هذا المصير التعس! ثم سرحت قليلًا.. هل كانت بدايات أبو دياب مشابهة لما أراه الآن؟! لم أجد إجابة قاطعة.. أخرجنى صوتُه الأجشُّ من أفكارى الغريبة، وهو ينادى على دون ذكر اسمى كى أقترب وأعاون رجاله، فأشرت له رافضًا بيدي، ثم علا صوتى قائلًا بحزم: - بيننا اتفاق ألا أشارك، وأنت وعدتنى بذلك.. نظر لى نظرة حادَّة يختبئ الغدر خلفها بمهارة، فَسَرت معها رجفة غريبة بجسدى وشعرت بعدم الأمان وتذكَّرت مقولته عن الذئاب، وأدركت أننى هالك لا محالة، فلست ذئبًا مثلهم، وقد يأكلوننى فى أى لحظة.. لكن فليكن ما يكون.. فى لمح البصر تقلَّب الحال.. علا صفير الريح وتصاعدت الرمال الناعمة لتتناثر فى ثورة عارمة.. هبَّت عاصفة رملية شديدة واستحالت الرؤية إلى لون أصفر داكن، وفجأة لم أرَ أمامى غير ستارٍ كثيفٍ من الرمال، فرحت أُهرول على غير هُدى حتى اصطدمت بصخورٍ فوقعت، ثم نهضت متحاملًا لكننى فقدت سلاحى ولم أكترث للبحث عنه، حاولت أتعوَّد الرؤية فلم أستطع، اختفت صحبتى، وفقدت أثرهم جميعًا لكنَّ أصواتهم لا تزال الرياح تحملها إلى أذنى خفيضة آتية من بعيد لكنها مسموعة.. خُيِّل لى أن أحدهم ينادى على مَن يُدعى مرزوق، وبعدها تبينت أنها مسعود.. ذات الأسماء التى كانوا ينادون بعضهم بها وقت جمع الغنائم.. احمل هذا يا مسعود.. أحضر هذه الدابة يا مرزوق.. افتح هذا الصندوق يا مسعود.. ما هذا العبث؟ أليس هناك رجال آخرون سوى مسعود ومرزوق؟! أين الباقون؟ بعدها تأكدت أننى أسمع مَن يقول: لقد تاه مسعود، فقدنا أثره.. شعرت لوهلة أننى قد فقدت صوابي، وما يحدث ليس سوى كابوس طويل، وتلك أصوات الجان والعفاريت.. خيَّم الظلام على المكان، وهدأت العاصفة إلا قليلًا، فجاهدت لكى أستجمع كل ما يحفظه ذهنى عن معالم الطريق، وبدأت أسير فى كل درب أظنه سكة السلامة، لكننى سرعان ما كنت أعود أدراجى بعد أن يتبين لى خطئي، فقد تشابهت المناظر أمامى وفقدت القدرة على الاهتداء، ظللت أدور فى مكاني، والدائرة تضيق وتصغر حتى أعيانى البحث وأدركنى التعب، فجثمت على ركبتَى، ثم شعرت برأسى يدور فاستلقيت على ظهرى، وحاولت جاهدًا ألا يغمض لى جفن أبدًا، سمعت من بعيد عواء ذئاب يعلو ويقترب، تراقصت أشباح غريبة أمام عينى وشعرت بأنفاسٍ ساخنةٍ تلفح وجنتَى، وبعدها أسدلت جفونى رغمًا عنى وساد ظلام كثيف، ثم رحت فى شبه غيبوبة ولم أدرِ بنفسى وبما حولى. *** رفع حارس الحمَّام قطعة القماش الزرقاء المطرَّزة واستبدل بها سجادة متوسطة الحجم ذات شراشف طويلة معلنًا بذلك أن هناك زيارة خاصة لحمَّام الجيزة عصر اليوم لا يُستقبل معها رواد آخرون.. دقائق قليلة ثم ظهر على قارعة الطريق ركب صغير من ثلاثة فرسان يتوسطهم نائب المحتسب كمال سيف الدولة، الذى ترجَّل من على ظهر جواده فى تكاسل كشيخ عجوز، ثم دلف إلى الحمَّام تاركًا حراسته بالخارج.. استقبله الخادم بترحابٍ بعد أن قام بتعطير الحجرات التى سيمر عليها سيده، لم ينتظر كمال الدين الوصول إلى الغرفة المخصصة لتغيير ملابسه، بل شرع فى نزعها أثناء سيره حتى بلغ المغطس المليء بالماء الساخن، فألقى بجسده به على مهل، وظل برهة غامرًا جسمه كله تحت سطح المياه، ولما خرج ظلَّ مغمضًا عينيه وهو يزفر فى ضيق والهواجس تفترس ما تبقَّى له من عقلٍ منذ أن اكتشف غياب زوجته وردشان منذ صباح أمس.. جُنَّ جنونه لما أرسل رسولًا لأهلها فلم يجدها، فحاول لقاء شقيقها لكنه رفض لقاءه.. كبرت الوساوس فى رأسه عندما أبلغه العبد صالح أنها أخذت كل ملابسها فى صناديق كثيرة ضخمة حُملت على عربة خشبية كبيرة ومضت إلى مكانٍ غير معلوم.. أمر بجلد صالح خمسين جلدة لتقاعُسه عن منعها، ورغم توسُّلات العبد الطيب إلا أن قلب كمال لم يلن، أطلق خلفها مرتزقة فلم يجيبوه حتى الآن.. فتح عينيه فى تكاسل وهو يتأمَّل خطوط كفِّه ويلعن أخاه بعد أن كبر الهاجس فى عقله الباطن حتى تضخَّم، وصار يُعلِّق كل مصائبه برقبة الحسن ويلعنه مع كل صباح.. - لو كنت قتلت هذا العقرب من زمن، لما وقعت فيما أنا فيه الآن! قالها وهزَّ رأسه آسفًا وعضَّ شفته السفلى ندمًا، ثم خرج من المغطس مستفسرًا عن وصول قنصل إنجلترا فأجابوه بأنه لم يصل بعد.. لفَّ بشكيرًا كبيرًا حول وسطه وذهب إلى حجرة فى نهاية الممر، لفحه فى ممرها الهواء الساخن، جلس بها متكئًا على مرفقيه لفترة، ثم خرج منها إلى أخرى وُضعت بها حَشيَّات خشبية على محامل عالية ترفعها عن الأرض، استلقى على بطنه شاردًا، بينما راح الخادم يُدلِّك جسده بقطعةٍ من الصوف الخشن، ويطقطق مفاصله المتخشبة من فرط توتره.. اقترب أحد فرسانه من باب الغرفة دون أن يجرؤ على دخولها وقد علا صوته قليلًا معلنًا عن وصول القنصل الإنجليزى.. هبَّ كمال الدين فورًا وقد دبَّت فيه الحياة مرة أخرى ليغتسل من صنبور ينساب منه ماء بارد، ثم ارتدى قميصًا طويلًا حتى ركبتيه وسروالًا واسعًا من ذات اللون وغادر دون عمامة متعجلًا إلى حجرة القهوة حيث كان القنصل قد ذهب إليها مباشرة.. كان الرجل جالسًا يضع ساقًا فوق ساقٍ، يحتسى مشروبه الساخن ويدخن لفائف بُنيَّة غليظة ينفث منها دخانًا كثيفًا أثارت دهشة كمال وحيرته فى طريقة إشعالها، حيَّاه بترحابٍ فردَّ له القنصل التحية باردة.. دار حوار طويل بينهما قوبلت فيه كل توسلات كمال الدين بترقيته لمنصب المحتسب بالرفض.. - أنت لم تستطع أن تحفظ أمن دارك.. ولم تُحكم سيطرتك على أخيك الحسن، وهربت منك زوجتك.. فكيف نأتمنك على بلدٍ بحجم المحروسة أو حتى نرقيك؟ هل يكافأ المقصر فى بلادكم؟ ارتبك كمال الدين وأطرق، ثم حاول التبرير فخرجت كلماته متعثرة بسبب تلعثمه الواضح.. عرض خدماته لصالح ما يراه القنصل مناسبًا وكأنما يُنعش ذاكرته بتاريخه القديم معهم، فردَّ عليه الأخير بصلفٍ: - أعتقد أنك فى حاجة إلى العمل للحفاظ على منصبك الحالى بدلًا من التطلُّع إلى منصبٍ آخر.. لا تدعْ أوهامك وأحلامك تُنسك مشاكل واقعك.. - الألفى بك هرب وهو قائدى، وكان رجلكم وهو فرصتنا الأخيرة فى معركتنا مع محمد علي، ولا يوجد لدى الآن سند سواكم، ومحتسب مصر رجل ضعيف ومريض وأنتم تعلمون ذلك، ولا تنسوا أننى قدَّمت لكم خدمات كثيرة، وأيضًا... قاطعه القنصل وهو يهبُّ واقفًا: - مثلما كان الألفى رجلنا فمن الممكن أن يكون لدينا رجال آخرون غيره من البكوات، هذا ليس شأنك على أى حال.. احسم أمرك مع أخيك إذا ما أردت أن تبقى فى منصبك فترة أطول، ولا تنشغل بالتفكير فى موضوع الترقي؛ فالأمور فى مصر الآن متقلِّبة، والرياح كل يوم تسير فى اتجاه مغاير، وإذا لم تعرف متى تخفض رأسك.. سيطير فجأة.. شعر كمال الدين بالقلق من عبارته الأخيرة فقال بارتباكٍ شديدٍ: - وماذا نحن فاعلون؟ أطلَّت ابتسامة استنكار كبيرة من بين شفتى القنصل وهو يجيبه: - نحن؟! لا أظن أننى أستطيع أن أجيبك عن سؤال يبدأ ب.. نحن؛ لأننا لسنا فى قارب واحد، أنت يجب أن تعتمد على نفسك وتثبت أنك جدير بثقة التاج البريطانى.. ثم أردف بنبرةٍ شبه آمرة وهو يغادر دون أن يصافحه: - مطلوب منك أن تمنع خروج المصريين فى ثورة ثانية وتُخرس روَّاد المقاهى الذين يتحدَّثون عن بطولات وعظمة الجنرال محمد على ومعركته الأخيرة مع محمد الألفى، وبعدها سأُقيم عملك وأرى ما يمكن أن نفعله نحن.. لك.. ولا تنسَ أن الوقت ليس فى صالحك، فلو حلَّ علينا أغسطس لا أظن أنك ستكون على قيد الحياة! ثم التفت إليه فجأة قرب نهاية الممر: - ولا تجعل كل هذه الأمور تُنسك أن الحسن لم يمت، بل لا يزال هاربًا فى المنيا وهى بالمناسبة ذات المدينة التى فرَّ إليها الألفى بك قائدك.. ولا بد أن أحدكما سيدفع الثمن فى النهاية، فاحرص على ألا تكون أنت الضحية.