"سياحة النواب" تصدر روشتة علاجية للقضاء على سماسرة الحج والعمرة    متحدث الإسكان: مدن الصعيد الأعلى طلبا على بوابه الاستثمار الأجنبي    أمريكا تعتزم مواصلة فرض العقوبات على مشاريع الطاقة الروسية    قائمة بيراميدز لمواجهة البنك الأهلي في الدوري المصري    تطورات مثيرة في مستقبل تشافي مع برشلونة    فريق سيدات يد الأهلي يتأهل لنصف نهائي كأس الكؤوس الإفريقية    حسام حسن يستقر على ضم ثنائي جديد من الأهلي    تحرير 13 محضرا تموينيا خلال حملة على المخابز والأسواق في شمال سيناء    السنين الجاية كلها نجاح.. رامي جمال يوجه رسالة لجمهوره قبل طرح ألبوم "خليني أشوفك"    دياب يكشف عن شخصيته بفيلم السرب»    عمرو نبيل مؤسس شُعبة المصورين يضع روشتة علاج لإنهاء أزمة تصوير جنازات المشاهير والشخصيات العامة    «الرقابة الصحية» توقع بروتوكول تعاون مع جامعة المنوفية لمنح شهادة «جهار _ إيجيكاب»    صحة كفرالشيخ في المركز الخامس على مستوى الجمهورية    تعديل رسوم التراخيص والغرامات للعائمات الصغيرة بقناة السويس    بشرى سارة.. تعديل كردون مدينة أسوان وزيادة مساحته ل 3 أضعاف    يبقى أم يرحل؟ جوريتسكا يتحدث عن مستقبله مع بايرن ميونيخ    العميد يؤجل طلب إضافة عناصر لجهاز المنتخب لبعد مباراتي بوركينا فاسو وغينيا    صدمة في ليفربول| غياب نجم الفريق لمدة شهرين    البرلمان الأوروبي يوافق على القواعد الجديدة لأوضاع المالية العامة لدول الاتحاد الأوروبي    خرجت بإرادتها لخلافات عائلية.. إعادة فتاة الصف الثانية بعد 48 ساعة اختفاء.. صور    "تعليم البحيرة": تخصيص 125 مقرًا للمراجعة النهائية لطلاب الإعدادية والثانوية - صور    «قضايا الدولة» تشارك في مؤتمر الذكاء الاصطناعي بالعاصمة الإدارية    المشدد 15 عامًا ل4 مدانين بالشروع في قتل سائق وسرقته بكفر الشيخ    .. وبحث التعاون مع كوريا الجنوبية فى الصناعات البحرية    اتصالات النواب: تشكيل لجان مع المحليات لتحسين كفاءة الخدمات    أوكرانيا: روسيا ستقصف أماكن غير متوقعة.. ونحن نستعد لصد أي هجوم    بدء حفل فني على مسرح قصر ثقافة العريش بحضور وزيرة الثقافة    خصومات متنوعة على إصدارات "هيئة الكتاب" احتفاءً باليوم العالمي للكتاب    عمرو يوسف يكشف عن حقيقة وجود جزء ثاني من «شقو»    بالفيديو.. خالد الجندي يشيد بكلمة وزير الأوقاف عن غزة بمؤتمر رابطة العالم الإسلامي    دعاء قضاء الحاجة في نفس اليوم.. ردده بيقين يقضي حوائجك ويفتح الأبواب المغلقة    "بقى فخم لدرجة مذهلة".. خالد الجندي يشيد بتطوير مسجد السيدة زينب |فيديو    مصر رئيساً لاتحاد المعلمين العرب للدورة الثالثة على التوالي    بشرى لأهالي سيناء.. 36 ألف وحدة سكنية و200 فيلا برفح والشيخ زويد    دراسة: الوجبات السريعة تسبب تلف الدماغ عند الأطفال    غدا.. تدشين مكتب إقليمي لصندوق النقد الدولي بالرياض    للحوامل.. نصائح ضرورية لتجنب المخاطر الصحية في ظل الموجة الحارة    حذر من تكرار مصيره.. من هو الإسرائيلي رون آراد الذي تحدث عنه أبو عبيدة؟    كشف ملابسات سير النقل الثقيل في حارات الملاكي بطريق السويس الصحراوي    التوقيت الصيفي 2024.. مواقيت الصلاة بعد تغيير الساعة    إبداعات فنية وحرفية في ورش ملتقى أهل مصر بمطروح    مؤشر الأسهم السعودية يغلق منخفضا    أبو عبيدة: الاحتلال الإسرائيلي عالق في غزة    مجرد إعجاب وليس حبا.. رانيا يوسف توضح حقيقة دخولها فى حب جديد    النسب غير كافية.. مفاجأة في شهادة مدير إدارة فرع المنوفية برشوة الري    محافظة الجيزة تزيل سوقا عشوائيا مقام بنهر الطريق بكفر طهرمس    100 قرية استفادت من مشروع الوصلات المنزلية بالدقهلية    رئيس الوزراء يحدد موعد إجازة شم النسيم    هل يحق للزوج التجسس على زوجته لو شك في سلوكها؟.. أمينة الفتوى تجيب    محافظ كفر الشيخ ونائبه يتفقدان مشروعات الرصف فى الشوارع | صور    نستورد 25 مليون علبة.. شعبة الأدوية تكشف تفاصيل أزمة نقص لبن الأطفال    السفير طلال المطيرى: مصر تمتلك منظومة حقوقية ملهمة وذات تجارب رائدة    «النواب» يبدأ الاستماع لبيان وزير المالية حول الموازنة العامة الجديدة    خلال الاستعدادات لعرض عسكري.. مقتل 10 أشخاص جراء اصطدام مروحيتين ماليزيتين| فيديو    قطاع الدراسات العليا بجامعة القناة يعلن مواعيد امتحانات نهاية الفصل الدراسي الثاني    الرئيس السيسى يضع إكليلا من الزهور على النصب التذكارى للجندى المجهول    توفيق السيد: غياب تقنية الفيديو أنقذ الأهلي أمام مازيمبي.. وأرفض إيقاف "عاشور"    الإفتاء: التسامح في الإسلام غير مقيد بزمن أو بأشخاص.. والنبي أول من أرسى مبدأ المواطنة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ننشر فصلا من رواية "الموريسكى الأخير" لصبحى موسى
نشر في اليوم السابع يوم 25 - 01 - 2015

جهزنى عمى باديث بمئونة تكفى أسبوعًا، رغم أن الطريق لا يستغرق أكثر من يومين، قال إنه لا يعلم ظروف الحرب بين الإسبان والبشرات، وطلب منى أن أبلغ فرناندو منه السلام، وأن أسأله إذا كان بحاجة إلى أهله هنا، موضحاً: «إنهم يعتقدون أننا خذلناهم، لكن هذا لم يحدث، فقط نحن لا نستطيع أن ننكر النعمة التى نعيشها، ولو كانوا فى مثل ظروفنا ما فكروا فى الثورة، لكن الله وحده يعلم ما فى النفوس». رأيت عينه منكسرة وفى حلقه غصة من شيء ما، لم أعرف وقتها إن كان غاضبًا من الثورة أم لأنه لم يشارك فيها، لكنه كان حريصًا على ألا أُصاب بأذى، فأحضر ثلاثة بغالٍ ورجلين كى يكونوا فى معيتي، ووجدته يدفع لى بدرعٍ وسيفٍ قائلًا: «لتقشير جوزة الهند إن اعترضتك فى الطريق»، أصابنى كرمه بالخجل، ورفضت اصطحاب الرجال والسلاح«إن أنجونى من اللصوص فإنهم سيقتلوننى على يد الجنود»، هكذا قلت مكتفياً بخنجر دسسته فى طيات ملابسي، وما إن وضعت رحلى على الجواد حتى قام كل مَن فى الورشة لتوديعى كأننى ذاهب إلى حرب لا عودة منها، فتركتهم والدموع تملأ عينى متجهًا إلى البيت كى أودع بيلارا وبيدرو وزوجة العم باديث، على درجات السلم المؤدى لغرفتى فى الدور العلوى رأيتها واقفة وفى عينها دمعة لا تنزل ولا تزول، وقفت أمامها ولدى سؤال واحد لا أستطيع النطق به، بينما فى رأسها آلاف الأسئلة عن المجهول الذى لا أعرفه، كنت أعلم أنها فى أشد الاحتياج لمن يربت كتفها ويأخذها فى حضنه، أنا نفسى كنت أحتاجها لأن تفعل معى ذلك، لكنها لم تفتح فمها بأكثر من: «سننتظرك كما نحن»، ثم رأيتها تتهاوى جالسة على السلم، كدت أتهاوى معها لولا أن يدًا مسَّت كتفى برفق من الخلف، فاستدرت لألقى بنفسى فى أحضان صاحبها، كانت هذه يد العم باديث التى استسلمت لها عائدًا إلى الباب، كان يجر أعضاءه كالعائد من معركة خاسر فيها كل شيء، لكنه أصر على مساعدتى فى امتطاء الجواد بيديه المرتعشتين وعينه الحبلى بأنهار لا تجف، قلت: «ادعُ لي»، فانفجرت مقلتاه بالدموع: «سننتظرك جميعًا»، حملت جملتيهما كبشارة فى قلبي، ورحت أحث الجواد بالسير فى اتجاه الجنوب الشرقى نحو غرناطة، آملًا أن ألتف بعيدًا عن العيون التى تترصد العابرين فى هذه الأيام، ودعوت الله ألا تكون هيئتى قد تغيرت كثيرًا كى لا يقتلنى أصحاب ابن أمية قبل الوصول إلى فرناندو، حين رأيت جوادًا مسرعًا باتجاهى أسفل الجبل شعرت أن شيئًا ما يُحاك ضدي، أرخيت العنان لجوادى ورحت أضربه بقدمى كى يسرع فى سيره، لكن ضربى له بدا كما لو أننى أهدهده، فاستسلمت لقدرى وأخذت أسير بثقة مارك بولو فى بلاد المغول والتتر، أو متطلعًا لمعالم الجبال والسهول كما لو أننى كرستوفر كولومبوس فى بلاد العالم الجديد، تشاغلت بهذه الفكرة حتى تساوى جواده مع جوادي، فالتفت لأُلقى عليه تحية الصباح، لكنه كان ملثمًا ولم أرَ ملامحه، هو بدوره لم ينظر لى ولم يرد على تحيتي، وحين سبقنى ببضع مترات توقف بجواده كما لو أنه نسى شيئًا، تأملت هيئته من الخلف فوجدتها مألوفة لي، انحناءة الظهر وطريقة الركوب وكيفية التعامل مع الجواد هى نفسها، حين اقتربت منه سألنى عن وجهتى فقلت: «غرناطة»، وكنت أظن أن تلك إجابة كافية، غير أنه عاد يسأل من جديد: «غرناطة أم البشرات؟»، فدهشت من معرفته بحقيقة وجهتي، وارتبت أن يكون تابعًا للكنيسة أو الإسبان، فتلجلجت قبل أن يجيئنى صوته: «إذا كنت ذاهبًا إلى هناك فاتبعني»، انتبهت إلى رنة الصوت، هى نفس رنة صوت والدي، نفس صرامته فى الحديث، لكن أبى مات منذ شهور، فكيف يمكن للموتى أن تمتطى الجياد وتحادث الأحياء؟ سمعت صوته يتردد: «معك حق»، ولم أعرف إن كان يجيب عمَّا فى ذهنى أم أنه يخاطب نفسه، وللحظة اقشعر جلدي، وتزايدت ضربات قلبي، لكن صوته من جديد جاء: «السفر يحتاج إلى رفقة»، كان يحادثنى دون أن يلتفت إليَّ، أو ينتظرنى لأسير بمحاذاته، وكلما هممت لأقترب بجوادى منه كان جواده أسبق، وظلت المسافة بيننا على ما هى عليه، لا تطول ولا تقصر، بينما صوته يأتى هادرًا من مكان عميق، كأنه يتحدث من أحشائه، قال «ستمر بمنعطفات صعبة، وأماكن موحشة، فلِمَ خرجت وحدك؟»، لم أنشغل بالرد السؤال وقررت أن أباغته: «هل تعرف أبي؟»، حينها ضحك ضحكته الهازئة التى أعرفها منذ الصغر: «أهل البشرات جميعًا يعرفون بعضهم بعضًا»، تمتمت خلفه: «نعم.. لكن هل يعود الموتى إلى بيوتهم؟».
كان علينا أن نعبر من على ممر طويل ضيق، تكاد أرجل الجياد تنزلق من على صخوره لو لم تأخذ حذرها، استغرق الأمر منى بضع دقائق كى أصل إلى الجانب الآخر، بينما كان جواده من اللحظة الأولى قد عبر برشاقة كأنه يمشى فى الهواء، حين اعتدلنا فى سيرنا من جديد هتفت فيه: «لكنك هو، أو أنك على الأقل روحه الطيبة»، وجاءنى صوته الرصين: «العالم أوسع وأعقد مما تظن، فاستمتع بما تعرفه، أو على الأقل بما تعتقد أنك تعرفه»، أدركت أن إجابته جاءت سابقة على سؤالى عن كيفية مجيئه، شعرت أيضاً بطمأنينة تسرى فى جوانحي، فلم أعد منشغلًا بالحصول على إقرار بما لا يريد إقراره، وقررت أن أتبعه حيث شاء، سائلًا عن فرناندو وحبابة والزهراء، لكنه لم يرد، ولم يُشر حتى بالامتناع عن الكلام، فساد الصمت بيننا حتى شعرت أن أعضائى صارت منهكة، قلت: «هل يمكننا أن نستريح؟»، ودون أن يلتفت أشار بيده كسهم نحو أكمة بالقرب من رافد نهر صغير، نزلت عن جوادى وفتحت زوادة العم باديث، ورحت أمضغ الطعام فى تكاسل المنهك، متذكرًا ما قاله الأخير عن دولة الرأى والشورى، وكيف عصم أجدادى دماء الناس من الفوضى، قلت: «كيف انفرط عقد الخلافة وتشتت الناس فى ممالك يأكل بعضها بعضًا؟»، خرجت زفرة حارقة من صدره، نزل بعدها عن جواده نزول المجبر على أمر، ثم انتحى جانبًا ليقول:
«كان المستنصر بالله آخر الخلفاء الأقوياء من بنى أمية، لكنه لم ينجب سوى ولدين هما عبد الرحمن وهشام، مات الأول فنقل أبوه العهد إلى هشام وكان صغيرا، وسرعان ما مات المستنصر، فطمع الصقالبة فى الحكم، مخفين خبرومته عن الناس، وذاهبين إلى حاجبه جعفر بن عثمان المصحفي طالبين منه تولية الخلافة للمغيرة بن عبد الرحمن الناصر بدلًا من هشام بن المستنصر، غير المصحفى ذهب إلى قائد الشرطة محمد بن أبى عامر وأخبره بما يريده الصقالبة منه، فأسرع أبن أبى عامر فى تدبير مقتل المغيرة كى يقطع الطريق، فتولى هشام الخلافة وهو فى الثالثة عشر من عمره، متلقبًا بالمؤيد بالمؤيد بالله، كان ابن أبى عامر محض نساخ فقير افتتح لنفسه دكاناً بالقرب من باب الإمارة، فلما ذاع أمره استدعاه المستنصر ليكون مربياً لولديه عبد الرحمن وهشام من بعده، فتوطدت علاقته بأمهما صبح البشكنجية التى دفعت به ليكون صاحب الشرطة فى قرطبة، فلما أنقذ استخلص الملك لولدها من مؤامرة الصقالبة كبر فى عينها، وصارت تدعمه بكل ما لها من سلطة وكوصية على الخليفة فى مواجهة أعدائه، فتخلص الحاجب جعفر بان عثمان المصحفى وتولى مكانه، ملقبًا نفسه بالمنصور، ومستدعياً البربر من المغرب كى يكونوا دعامة لحكمه، معيدًا بهم فتح الثغور التى أخذها النصارى فى عهد المستنصر، وقيل أن علاقته بلغت بأم الخليفة حد أن تزوجها، وسرعان ما عزل ابنها هشام فى قصره، حتى إنه لم يكن يستطيع الخروج إلا استأذنه، فلما خشت صبح على ضياع الملك من يد ابنها أخذت تناهض سلطة الحاجب محمد بن أبى عامر المنصور، فعزلها فى قصرها حتى ماتت فيه، ودانت البلاد لسلطة المنصور سنين طويلة، لكنه لم يطمع فى الخلافة ولم ينظر لكرسيها، فلما توفى تولى منصبه ابنه عبد الملك من بعده فسار على نهجه، وسرعان ما توفى ليجيء أخوه عبد الرحمن أشكول فى منصبى الوزارة والحجابة، ويراوده الطمع فى أن يكون الخليفة، فأمر هشاماً المؤيد بتوقيع عهد له بالخلافة من بعده، كان ذلك بداية اشعال النار التى أكلت كل شيء فى الأندلس، فقد اجتمع بنو أمية وقرروا إلغاء هذا العهد، مستعينين بالصقالبة كى يجبروا المؤيد على التنازل عن الخلافة لابن عمه محمد بن هشام بن عبد الجبار بن عبد الرحمن الناصر، ملقبينه بالخليفة المهدي».
كان صوت أبى يأتينى وكأنه الصدى فى أذني، فلما اختفت الشمس وأسدل الليل شراشفه على العيون، سألته عن مكان نبيت فيه، أشار بيده إلى طريق صغير سرنا فيه حتى وجدنا خانًا من دورين، على بابه رجل عجوز يتلقف الراكبين بيدين واهنتين ليأخذ منهم الجياد إلى السطبل، بينما يقف خلفه شاب وسيم يتلقف منهم رحالهم ويصطحبهم إلى سيدة فى الأربعين من عمرها تجلس بالقرب من الباب خلف منضدة قديمة، تفحصتنى بعين ذات خبرة طويلة بصنوف البشر وهى تقول: «كم سريرًا تريد؟»، أشرت بإصبعي: «واحد»، فهمست فى أذن الخادم أن يحمل أغراضى إلى غرفة علوية، كان شريكى بها رجل قادم من غرناطة وفى طريقه إلى مجريط، اغتسلت وغيرت ملابسى ونزلت لتناول العشاء فى غرفة شبه مظلمة بالدور الأرضي، وجدت أبى ينتظرنى على منضدة وحده فذهبت إليه، بينما احتل شريكى فى الغرفة منضدة مجاورة، لم يكن فى المكان سوى منضدتين أخريين جلس على كل منهما رجلان، وبدا من حديثهم أنهم يعرفون بعضهم، قال أحدهم، وكان عجوزًا متأنقًا، لرفيقه بصوتٍ مسموع: «لا توجد عبقرية ولدت أو ستولد فى الرسم سوى ليوناردو»، فرد عليه من على المنضدة الأخرى شاب قوى البنيان، بدا لى أنه موريسكى أو من أصول مغربية: «لأنك لم تعرف مايكل أنجلو، لم ترَ أيًّا من منحوتاته ولا لوحاته». فانتفض الشاب المرافق للرجل المتأنق قائلاً: «هذا البذيء ذو الرائحة النتنة تريد أن تجعله فى مقام دافنشي، إنه لا يعدو أن يكون شحاذًا، فكيف يمكنه أن يكون فنانًا؟»، وجاءه الرد: «لأنه ليس شاذًّا كصديقك، إنه شاعر ورسام ونحات». ضحك المتأنق: «يا صديقى نحن نتحدث عن الفن وليس عن أحكام أخلاقية، فى النهاية هذا شأنه وليس شأنك، أم أنك من تابعى الكنيسة المهووسين بالتفتيش فى ضمائر الناس؟!». هنالك كان الخادم قد أحضر طواجن الطعام، وقام بتوزيعها على المناضد كما لو أنه يوزع الأعلاف على الماشية، فانشغل كل منهم بالطاجن الذى أمامه، أما أنا فقد رحت أنظر لوالدى كأننى أقول: «هل انتهى أمر الخلافة عند هذا الحد؟»، وبدا لى أن الموتى يتمتعون بقدرة على معرفة ما يدور بالأذهان، فقد بدأ صوته يتردد من جديد:
«لم يكن الخليفة محمد بن هشام بن عبد الجبار الملقب بالمهدى رجلًا حازمًا كما توقع أهله، فقد أطلق العنان لغرائزه نافيًا شركاءهم الصقالبة إلى شرق الأندلس، ومعلنًا وفاة ابن عمه الخليفة هشام المؤيد، رغم أنه كان ما يزال حبيساً فى قصر الإماره، أعطى المهدى ولاية عهده لابن عمِّه سليمان بن هشام بن سليمان بن الناصر، لكنه سرعان ما غضب عليه فسجنه، ثم سرَّح من جيشه سبعة آلاف جندى بربري، فما كان منهم إلا أن ذهبوا لهشام بن سليمان الناس، والد ولى العهد المسجون، ليحثوه على فتح سجن الإمارة وإخراج ابنه منه، فجمعهم وحاصره بهم القصر، غير أن جنود المهدى هزموهم وأسروا هشاماً، فأمر المهدى بقتله هو وابنه سليمان، وترك الناس تستبيح بيوت البربر فى المدينة حتى غادروا قرطبة غير ملتفتين لأمانه الذى جاءهم متأخرًا، وكان من بين من خرجوا معهم سليمان بن الحكم بن عبد الرحمن الناصر، فاتفق معه على الإطاحة بالمهدى وتوليته هو الخلافة، ولم يكن أمامهم سوى الاستعانة بالقشتاليين كى يتمكنوا من مهاجمة قرطبة، فاتصلوا بسانشو ليمدهم بالجنود مقابل تنازلهم له عن بعض الثغور، فلما علم المهدى بامرهم هذا حفر خندقًا حول المدينة وأمر بإخراج المؤيد من سجنه داعيًا لخلافته، لكن سليمان بن الحكم ومَن معه من البربر أصروا على دخول قرطبة، فتركها المهدى وفرَّ برجاله إلى طليطلة، بينما جلس سليمان بن الحكم على كرسيه أمام قصر الإمارة متلقياً من الناس البيعة وملقباً نفسه بالمستعين بالله، مبقياً على هشام المؤيد حبيسًا فى سجنه».
حين صعدت إلى غرفتى كى أستريح وجدت شريكى فى الغرفة يبحث عن النوم دون جدوى، فانتهزت الفرصة وسألته عن الأحوال فى غرناطة، قال: «ليست طيبة، فالموريسكيون أصابوا الجميع بالفزع، ويبدو أن البشرات قد دالت لابن أمية»، خبأت فرحتى فى صدري، وقلت بنبرة الخائف: «كيف حدث هذا؟»، أغمض عينيه وهو يقول: «سمعت قبل خروجى من غرناطة أنه حقق نصرًا على المركيز دى مندوجر، وفى ظنى أن المدينة باتت مهددة بالسقوط إن لم يتحرك الإمبراطور فليبى بنفسه بنفسه لإنقاذها»، ويبدو أن الرجل لم يشك لحظة أننى موريسكي، فقد غيرتنى الثياب واللغة ونعومة الوجه، سألته عن ابن أمية ومن أين ظهر، لكن النوم كان قد بدأ يعرف الطريق إلى عينيه، فرفع رأسه عن الوسادة متثائبًا: «لم يكن له ذكر، غير أن حظه السعيد جعله يلتقى برجل داهية من بنى جهور، فجمع الناس حوله ونصبه أميرًا عليهم، وها هم الآن يحلمون بدخول غرناطة، فلينقذنا المسيح منهم»، ثم صمت للحظات سرعان ما سمعت بعدها شخيره المتعالي، فتركته وذهبت إلى النافذة باحثًا عن صوت أبى فى الظلام، ذلك الذى بدا لى كما لو أنه ينتظرنى ليكمل لى ما جرى فى قرطبة:
«جلس المستعين فى كرسى الخلافة وأمر بمطاردة المهدى ورجاله، ففروا فى الشعاب والأحواز، كان من بين مَن فروا رجل يدعى واضح العامري، ذهب إلى الشمال طالبًا من أميرى برشلونة وأورقلة أن يمداه بجيش لمحاربة المستعين، فوافقاه على أن يدفع دينارين مقابل كل جندى فى اليوم الواحد، وألا يأخذ من جنودهما ما يغنمونه فى حربه، وحين ينتصر يسلم لهما مدينة سالم، فوافقهما على تلك الشروط، وانضم إليه الخليفة المهدى بمَن بقى معه من رجال، ووصل الخبر إلى المستعين فنادى فى الناس بالخروج لمواجهتهم، لكن أحداً لم يجبه، فخرج بمن معه من العرب والبربر، ولخوفه من أن يغدر به البربر جعلهم فى المقدمة وأحاط نفسه فى المؤخرة بالعرب، فلما دارت الحرب انشقت صفوف البربر وانفتحت ثغرة فيها، فنادوا عليه بأن يغلقها بمن معه، فظن أنهم انقلبوا عليه فأمر منه بترك المعركة والفرار إلى شاطبة، فدخل المهدى قرطبة من جديد، جاعلًا من واضح العامرى حاجبه عليها، ثم خرج لملاقاة فلول البربر المتجمعين بالقرب من مربلة، غير أنهم هزموه، فما كان من واضح العامرى إلا أن أخرج هشام المؤيد من محبسه، وضرب رأس المهدى بينن يديه، مرسلًا بها إلى سليمان المستعين كى يدخل مثله فى طاعة المؤيد، لكن المستعين قرر حصار قرطبة بمن معه من البربر، وراح يعيث فسادًا فى أجوارها، حتى انتشر الجوع وأكل الناس الميتة وباع المؤيد أثاث قصره لشراء خيل وسلاح لمواجهتهم، بينما قرر واضح العامرى أن يهرب من المدينة ليلاً، فجمع ما استطاع جمعه من ذهب وفضة كى يفر به وحده، فلما علم الجند بذلك قبضوا عليه وفتشوا رحله مخرجين ما به من كنوز، ثم قتلوه وطافوا برأسه فى الشوارع، وخرج المؤيد باكياً للناس وهو يقول: افعلوا ما ترونه صالحًا. فأرسل الأعيان والوجهاء للمستعين بأن يرفع حصاره عن المدينة مقابل أن يكون وليًّا لعهد المؤيد، فكان رده أن دخل قرطبة مستبيحًا بيوتها وأعراض أهلها، معنفاً المؤيد على حربه له، فبكى الأخير قائلًا إنه كان مغلوبًا على أمره، فأمر المستعين بسجنه من جديد، كما أمر بتولية ابن أخيه على بن حمود على سبتة وثغور المغرب، ووتولية شقيقه القاسم على الجزيرة الخضراء، وكان على طامعًا فى ملك قرطبة، فجمع مَن بقى من العامريين لحرب المستعين، مظهرًا كتابًا من المؤيد له بولاية العهد، وطلباً من الأخير له بإنقاذه من يد المستعين وإخراجه من محبسه، فلما علم المستعين بذلك خرج إليهم بجيشه، غير أنه وقع فى الأسر هو وشقيقه ووالده، بينما جلس على بن حمود على كرسى الإمارة سائلاً إياهم عن الخليفة هشام، فقالوا له نكاية وعناداً: قتلناه. فما كان منه إلا أن أمر بقتلهم جميعاً، ثم أعلن نفسه الخليفة، فكان ذلك أول حكم البربر فى قرطبة».
صبحى موسى يطالب بعودة المورسكيين المسلمين لبلادهم فى روايته الجديدة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.