سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
القائد الفرنسى حذر من «العملاق النائم فى الشرق» منذ قرنين..الصين تحقق نبوءة نابليون بونابرت بعد 200 عام..البشر هم سر التجربة الصينية والقادة هناك لم يعتبروا ال1.4 مليار نسمة «عبئا وحملا ثقيلا»
يسألونك عن سر المعجزة الصينية وعن التنين الأصفر الأسطورى الذى يوشك أن ينطلق ليتربع على عرش الاقتصاد العالمى. قديما وقبل قرنين من الزمان أى قبل 200 عام توقع القائد الفرنسى نابليون بونابرت ما يحدث الآن من النمو الصينى وتأهبه ليصبح القوة الاقتصادية الأولى فى العالم، قال نابليون عندما ذكروا عنده اسم الصين: «هناك فى أقصى الشرق ينام عملاق..اتركوه لأنه عندما يستيقظ سيحرك العالم». نبوءة بونابرت تتحقق والعالم يقف على أطراف أقدامه متطلعا للتنين الذى يسعى ويسير بخطى متسارعة وواثقة نحو قمة الاقتصاد العالمى، والسر فى الإنسان الصينى وطبيعة تكوينه الأخلاقى والدينى ونشأته الاجتماعية التى تدمن العمل والإنتاج والإتقان والتفانى والإخلاص والجد والمثابرة، حتى أصبح الشعب كله «إيد عاملة واحدة» لا هم لها سوى الإنتاج برغم كثير من المشاكل والتحديات الداخلية والخارجية، وهو ما يدهش الكثيرين بأن الشعب الصينى تعداده مليار و400 مليون، ومع ذلك لا يعتبره المسؤولون هناك عبئا على خطط التنمية والتقدم والازدهار، بل «ثروة قومية» حقيقية لتنفيذ الحلم الصينى الذى يتجسد الآن على الأرض. فى غضون السنوات القليلة الماضية، استطاع الاقتصاد الصينى أن يقفز قفزة كبيرة، متحديا ومنافسا لاقتصاديات الدول الكبرى، ليصبح ثانى أكبر اقتصاد فى العالم بعد الولاياتالمتحدةالأمريكية، وعلى عكس ما يثار بأن التعداد السكانى يعد عاملا سلبيا، فإن الصين استطاعت من خلال الأيدى العاملة والتخطيط الناجح أن تفتح أسواقا جديدة وتنمى من تجارتها الخارجية، والتى تجاوزت 523 مليار دولار فى النصف الأول من العام الماضى فقط. وبلعبة الأرقام التى يذكرها صندوق النقد فى تقاريره الأخيرة فقد بلغت تقديرات الناتج المحلى الإجمالى للصين فى عام 2014 نحو 9.469 تريليون دولار، فى الوقت الذى يقدر فيه الناتج المحلى الإجمالى الأمريكى بالأسعار الجارية بنحو 17.416 تريليون دولار، أى أن الناتج المحلى الإجمالى الصينى بالأسعار الجارية يمثل نحو 54.4 فى المائة من الناتج المحلى الإجمالى الأمريكى فقط. الأمر لا يتوقف فقط عن واقع الأرقام الحالية، وإنما يصل للتوقعات بأن يصل الناتج المحلى الإجمالى للصين فى 2019 إلى 15.5 تريليون دولار، وحسب الخطة الموضوعة للصينين فالعام 2020 قد يشهد الإعلان الرسمى عن تربع العرش العالمى بنسبة نمو %10 وهو ما يصيب العالم الغربى والأمريكى على وجه الخصوص بالرعب، ففى السنوات العشرة الماضية وقبلها بدأ الحديث داخل الولاياتالمتحدة عن هجرة نحو 3 ملايين وظيفة فى مجال التصنيع إلى الصين والبضائع الصينية تملأ الأسواق الأمريكية إلى درجة الإغراق والعجز التجارى الأمريكى مع الصين فى تزايد. القلق الأمريكى ليس فقط من النمو الاقتصادى للتنين الصينى وإنما أيضا من النمو العسكرى الصينى وزيادة حجم الإنفاق التى يقدرها البنتاجون خلال عام 2020 بحوالى 200 مليار دولار، ورغم ذلك الصعود فعندما تسأل مسؤولا صينيا عن صحوة التنين يجيبك فى أدب جم وتواضع: نحن مازلنا دولة نامية نحاول أن نعمل ونجتهد ولا نرغب فى أية مواجهات مباشرة مع أحد. هذا السؤال وجهته لكل مسؤول صينى التقيته أثناء زيارتى لجزيرة هونج كونج وكانت الإجابة دائما: «مازلنا دولة نامية ولكننا نعمل دون ضجيج». فى تلك الأثناء كانت أكذوبة «فيروس السارس» فى أوجها والعالم يرتعد خوفا من انتشار الفيروس، ومع ذلك أثار اندهاشى واستغرابى عدم اكتراث الصينيين أو خوفهم من الفيروس الوهمى رغم بعض الإجراءات الطبية البسيطة فى المطارات، وخاصة فى مطار هونج كونج أحد أكبر المطارات فى العالم. وفى مناسبة تجارية وأثناء افتتاح معرض لعب الأطفال الدولى سألت وزير التجارة فى الجزيرة عن سر عدم الاكتراث، فقال بإجابة بسيطة ومدهشة «هكذا اعتدنا من الأمريكان عند كل نمو فى الناتج المحلى الصينى، إما الحرب بافتعال مشاكل فى تايوان أو إشعال حرب الفيروسات ضد الصين». الحديث كان قبل حوالى 8 سنوات من اعتصامات هونج كونج الأخيرة. لذلك فالتنين أو المارد الصينى لم يرغب طوال تلك الفترة فى الدخول فى مواجهات مباشرة مع واشنطن رغم الضجيج الأمريكى حول الديمقراطية وحرية الرأى فى الصين، ومحاولة الضغط الاقتصادى عليها بفرض رسوم إغراق ومطالبات بتعويم العملة الصينية - اليوان - التنين يمارس مع الفيل الأمريكى لعبة «النفس والانتظار الطويل» والرهان على المستقبل القريب وبسياسة العمل والإنتاج دون ضجيج وهذا سر التفوق والمعجزة. الصين تدرك وهى تحقق تجربتها أن هناك بالتأكيد عقبات فى الطريق، أهمها عدم رغبة واشنطن فى نهوض العملاق ويقظته، ولذلك لا سبيل إلا بالتحالف مع روسيا بوتين، خاصة أن بكين تعتمد اعتماد كبيرا على الطاقة والتكنولوجيا العسكرية الروسية. فى هونج كونج وفى شوارعها تذكرت شعار تحول إلى نشيد فى بداية عهد ثورة يوليو وتأسيس الاتحاد القومى قبل الاتحاد الاشتراكى يقول: «الاتحاد والنظام والعمل» لحث الناس على تطبيق الشعار. ثلاثية النشيد وجدتها فى قلب شوارع الجزيرة الصينية، فالناس تعمل بجد كما يقول الكتاب، وتحافظ على النظام والنظافة فى الشوارع الضيقة، فمساحة الجزيرة ألف كيلومتر مربع فقط ويعيش عليها نحو 7 ملايين نسمة ونصف، وبالتالى تفرض الطبيعة الصخرية والجبلية استغلال كل «شبر» فى الجزيرة، فليس هناك فواصل بين المبانى العامة والخاصة، فهى ممر عام للناس من بنك إلى فندق إلى مطعم إلى مبنى سكنى للعبور إلى الضفة الأخرى من الشارع. نفس الحال بالنسبة للمواصلات العامة التى تنتشر بأنواعها المختلفة فى الجزيرة، فالجراجات العامة تمر منها أيضا الحافلات العامة بانتظام والناس تنتظر فى نظام وهدوء. هونج كونج التى عادت فى أواخر التسعينيات إلى الأرض الأم- الصين- ما زالت تمتلك استقلاليَّة عاليةً ونظاماً سياسياً مختلفاً عن ذاك فى البر الصينى، وذلك وفق مبدأ «بلد واحد، نظامان مختلفان» الذى يُكرِّس للمدينة حكمها الذاتى. فللمدينة استقلالية قضائية تتبع هيكلها للقانون العام، كما أنَّ لديها قانوناً أساسياً مستقلاً، وينصّ دستورها الذى تم وضعه عقب نقل ملكيتها من بريطانيا إلى الصين على أنَّها ستحوز «درجةً من الاستقلالية» فى كلِّ جوانب الدولة، باستثناء العلاقات الدبلوماسية الدولية والبنية العسكريَّة. لدى المدينة نظامٌ سياسى تعدُّدى مزدهر، وتتولَّى اختيار رئيس حكومتها لجنة انتخابيَّة من 400 إلى 1.200 عضو، ويظلُّ هذا النظام قائماً طوال السنوات العشرين الأولى من الحكم الصينى. لكن سر المعجزة الصينية فى الأرض الأم امتدت تركيبته إلى الجزيرة التى كانت فى يوم من الأيام مكانا صخريا وصحراء جرداء فتحولت إلى واحد من أكبر المراكز الاقتصادية الرَّائدة فى العالم، ومقر لأكبر البنوك والمصارف والشركات المالية العالمية فيوجد بها حوالى 55 منشأة مالية عالمية وليست محلية فقط، إذ تمتاز باقتصادٍ رأس مالىّ مزدهر يقوم على الضرائب المنخفضة والتجارة الحرَّة، وتعتبر عملة المدينة- دولار هونج كونج- العملة الثامنة الأكثر تداولاً على مستوى العالم، بسبب صغر مساحة المدينة وكثرة السكَّان، وتتميز ببنية تحتية غريبة وعجيبة لا مثيل لها فى العالم تسمح بكثافة سكانية أكبر، وهو ما حول المدينة إلى مركزٍ للعمارة الحديثة وجعل منها المدينة الأكثر علوًّا فى العالم، كما تسبَّب تطوير شبكة المواصلات فيها فى أن أصبح يعتمد أكثر من %90 من سكَّانها على النقل العام، وهو المعدَّل الأعلى عالمياً، وتتميَّز هونج كونج كذلك بمراتب دولية متقدِّمة فى مجالاتٍ عديدةٍ أخرى، مثل الحرية الاقتصادية وجودة الحياة وغيرها. بالمناسبة كان سبب زيارتى لهونج كونج هو حضور معرض دولى للعب الأطفال فى العالم..! وللعلم فقد تحفظت على دعوة الزيارة فى البداية ثم زال هذا التحفظ والغضب، عندما عرفت أن هونج كونج وحدها تصدر لعب أطفال للعالم بنحو 17 مليار دولار سنويا أى ما يساوى 8 أضعاف إجمالى صادرات مصر للخارج «150 مليار جنيه» حسب آخر الأرقام، لذلك السلع الصينية وليس لعب الأطفال فقط تغزو العالم وتلبى احتياجات ومتطلبات المستهلك البسيط بسبب «الثروة البشرية» الصينية التى تحولت إلى قوة إنتاج جبارة فى كل بيت وشقة وناد ومدرسة وجامعة، المشروعات الصغيرة فى كل مكان، والتجربة الاقتصادية الصينية عبر ربع قرن أو أكثر هى نموذج فى كيفية تحقيق نهضة أمة فى صمت ودون أناشيد وأغان. وتعد التجربة الأكثر إثارة فى العالم. خلطة عجيبة وتمازج فريد بين ثوابت الفكر الاشتراكى وأفكاره الموروثة.. وقواعد وآليات اقتصاد السوق الحر. لم تبع الصين القطاع العام «ثروتها الكبرى» مثلما فعلت حكومات مصرية فى التسعينيات بل عملت على تطويره وتحسينه ومنحه مزايا المنافسة، وفتحت الباب أمام الاستثمارات الأجنبية والوطنية، وأصبحت ثانى أكبر مستقبل للاستثمارات الأجنبية فى العالم بعد الولاياتالمتحدة. نجت الصين من مفرمة العولمة والأمركة وبدأت خطة إصلاح خاصة وبهدوء ودون إحداث خلل وإرباك داخلى ودون التخلى عن ثوابت التجربة الصينية وحققت ما أرادت. ففى عام 87 كان حجم التجارة الخارجية للصين لا يتجاوز 21 مليار دولار معظمها- وللمفاجأة- كان عبارة عن واردات من الخارج. بعد ذلك وفى نهاية التسعينيات وبدايات الألفية الثالثة بلغ الرقم 630 مليار دولار منها 320 مليار صادرات والآن يلامس الرقم حد الألف مليار دولار النسبة الكبرى صادرات. بشكل عام الزيارة الأخيرة للرئيس السيسى للصين واطلاعه عن قرب ومشاهدة للتجربة الصينية التى اعتمدت فى الأول والآخر على البشر واعتبرتهم ثروة وقوة للإنتاج والعمل تجلعنا نتفاءل بعض الشىء للاستفادة من التجربة وليس استنساخها، فالتجارب لا تستنسخ ولكن يستفاد من بعض جوانبها، فالحث على العمل والإنتاج والثقة فى البشر والكتلة السكانية الرهيبة فى الصين هى أهم عوامل نجاح التجربة. الصين لم تنقطع عن تاريخها وعقيدتها السياسية والاقتصادية وإنما وضعت خطة إصلاح للتطوير دون التدمير وهذا أيضا سر النجاح. عموما كل المؤسسات الدولية الاقتصادية تترقب ما يحدث فى الصين وبين الحين والآخر تنتظر مؤسسات غربية ملامح أى تباطؤ أو إعياء للاقتصاد الصينى مثلما تحذر البيانات الاقتصادية الأخيرة من ركود محتمل بعد أكثر من ثلاثة عقود من النمو المبهر.. وأصحاب ذلك يقولون، إن هناك علامات عديدة على الإعياء، مشيرين إلى سوق العقارات البارد وارتفاع إجمالى الدين وتكلفة العمالة، وكل هذه العوامل مجتمعة من وجهة نظرهم تدفع إلى تراجع حاد فى معدل نمو ثانى أكبر اقتصاد فى العالم. صحيح أن هناك مشكلات فى الاقتصاد الصينى لا ينبغى إغفالها، وبسبب سرعة ونطاق النمو فى البلاد خلال العقود الماضية، أصبح صناع السياسات أكثر يقظة إزاء المخاطر الهيكلية التى يمكن أن تسحب الاقتصاد إلى الوراء على الأمد الطويل، وفى هذه النقطة أطلق المتشائمون تحذيراتهم، لكن توقعاتهم ليست صائبة، فالاقتصاد الصينى ظهر أقوى من المتوقع، ومن المرجح أن ينمو بنسبة 7.5 بالمئة هذا العام، وهو معدل ما زال مرتفعا فى ظل إصلاحات مؤلمة، البعض يرى أن الاقتصاد الصينى دخل الوضع «العادى الجديد» بمعدل نمو أبطأ لكن عالى الجودة، وقد أصبح وضع «العادى الجديد» محل توافق من أعلى قائد إلى أصغر صاحب أعمال، وتشير شعبية هذا «الشعار» إلى التحول فى عقلية الشعب الصينى، نمو أبطأ يرجح أن يستمر لفترة وليس علامة على الفشل، لكن غياب الإصلاح يمكن أن يكون قاتلا للنمو المستدام على الأمد الطويل. وبالنسبة لصناع السياسات، فإنهم أقل قلقا حيال فقدان أهداف النمو الرسمية، لكنهم يجمعون على التخلى عن طفرات نمو على الأجل القصير من أجل إصلاحات صارمة ستؤتى ثمارها فى نهاية المطاف. القبول الوطنى الواسع واليقظة- كما تشير التقارير- إزاء أرقام النمو من شأنه أن يساعد فى بناء اقتصاد أقوى نمو أبطأ، لكن بطالة أبطأ بقيادة الابتكار وصناعة الخدمات، مقارنة بنمو مرتفع ومعدل بطالة مرتفع بقيادة الاستثمارات والصادرات فى الماضى، وقد شهد عام 2014 علامات واعدة على هذا التحول، إسهام الاستهلاك النهائى فى الناتج الاقتصادى تجاوز نظيره من الاستثمار، وأصبح الاقتصاد المدفوع بالخدمات والاستهلاك يتشكل تدريجيا. ولعل الأبرز هو ازدهار صناعة التكنولوجيا الصينية فى السنوات الأخيرة، فأكثر من 10 شركات إنترنت صينية أطلقت عروضها العامة الأولية فى سوق الأسهم بالولاياتالمتحدة فى عام 2014 من بينها شركة «على بابا» التى خلقت أكبر صفقة اكتتاب عام فى التاريخ. وترمز حيوية صناعة التكنولوجيا الصينية إلى الاستدامة الاقتصادية للدولة، التى تقف فى تناقض حاد مع بعض الصناعات التقليدية عالية الاستثمار والتى تعانى من الطاقة الفائضة، ويلاحظ بالكاد أن الابتكار يغير سريعا من وجه الاقتصاد الصينى. ويقف المنظمون على أهبة الاستعداد لإضافة الزخم فى بناء الاقتصاد الابتكارى، وتعهدوا بتبسيط الموافقات الإدارية وتحرير معدلات الفائدة وتوفير التمويل الكلى لدعم المشاريع الصغيرة. وكما تعهدت فى أواخر 2014 تستعد بكين للسماح للسوق بأن تلعب دورا حاسما فى الاقتصاد، وسوف تتخذ خطوات إصلاحية فيما يتعلق بالأراضى والضرائب. إجمالا نبوءة بونابرت تتحقق والمارد يتحرك بقوة السيل نحو الهدف، وعلينا أن نستفيد منه ونطلب منه العلم ونحتذى به فى العمل والإنتاج والإخلاص لتحقيق ما نحلم به أو على الأقل نسير من خلاله على الطريق الصحيح للتنمية والازدهار.