الكتابة كما أمارسها هى طرح للعديد من الأسئلة: ما الحياة؟ ما الوجود؟ ما المصير؟ ما المعرفة؟ ما الموت؟ ما الألم؟ كل تلك الأسئلة التى تحملها الأنا فى رحلة الرجوع إلى المصدر، إلى المنبع الكلى والأصلى، إلى الحب الذى خرجنا منه كلنا. فالكتابة هى المنطلق الوجودى. ها أنا أحاول الإجابة على الأسئلة التى طرحتها الحياة على، فهى إذن بحث دائم. لكنها أيضا تواصل مع الآخر. ولكن من هو هذا الآخر، الآخر عندى هو ذلك الرفيق الذى سيمد يده ليشبكها فى يدى ليرافقنى فى رحلة الرجوع إلى المنبع. هذا الآخر هو الذى أتوق إلى التواصل معه عبر نصى المكون من حروف، من ضمائر هى أنا وأنت وهو: أرمى بذور فنائى جواك عساك أن تبعث من جديد ولا أمد يدى فأنا ما زلت أحمل بقايا أزمنتك وأثيرها أحمل سجلاتك، لعلى! بل أحملها ورغبة فى عينيك لأدعك تحكى وأنثرك لن تكون أبدا عابرا أقاومه لن أكون أبدا ثابتا تقاومه همى: فرط فيك من يسميك المؤقت جغرافيتى: نفانى إليك من أولد من ظهره تاريخى: طوحنى لك حبيبى المرتبك تتمتم أنى يكون لها غلام وقد تبرأت وما زال يدعونى للخروج من أعماقى ألم أقل لك تفرق دمى بين أطفال شوارع العالم لكننى لا أستطيع إلا أن أهنأ الكتابة إذن من هذا المنطلق هى تجسيد للخبرة أى خبرة فهم الأشياء والحقيقة والمعرفة والأنا والآخر. والكتابة هى معيار التقييم، ففعل الكتابة يعنى أن تتفاعل مع الواقع، يعنى أن تلتزم بالحياة، يعنى أن تتحمل مسئولية التفاصيل اليومية، والخبرات، يعنى التجريب المؤلم، يعنى المجازفة ضد الخوف المرعب، يعنى البحث عن الصلاح والعدالة والصدق والسعادة على أحد المستويات، يعنى إقامة حوار مع الواقع والآخر والكون، يعنى كسر العزلة ومناهضة الاستلاب. الكتابة هى فى الأصل استيعاب الماضى انطلاقا من الحاضر بكل قسوته توقا إلى المستقبل على إحدى المستويات. للإجمال الكتابة عندى هى طريقى فى جعل الواقع ينتقل من "فى ذاته" "لذاته"، ولمزيد من الإجمال الكتابة هى انتقال الوعى الذاتى والفردى من "بذاته" "لذاته" وبهذا تتحقق إنسانيتى وإنسانية رفيقى فى الرحلة. من هذا المنطلق تبدو الكتابة الحاجة الملحة الشديدة بل التوق الشديد المحرق إلى المعرفة. من هذا المحرك الأساسى أو انطلاقا من هذه الحاجة إلى الحب الكلى، تمتد رحلة الرجوع شاقة وعرة خطرة، مجهولة محفوفة بالخطر لا أراها بعينى البشرية، بل أراها بحروفى "ما أنا إلا حروف فوق حروف". تحتل إذن الكتابة موقع تحدى المفاهيم والثقافة السائدة التى تكرس كل ما أرفضه من محو للماضى وللذاكرة وبالتالى للخبرة التى تقيمها الكتابة فينتفى الحوار مع الآخر. تصبح الكتابة لدى وفى مجتمعى ضرورة لحماية الذاكرة والذكرى والماضى والحاضر والتاريخ والفعل الذى أمارس به تواصلى مع الآخر وأعيش خبراتى به ومن خلاله، وأمحو العزلة، وأقاوم إلغاء الشخصية: أنا وأنت ننفى العزلة. إن الكتابة أو استعادة الذات فى تجليها النهائى هى التلاقى مع والارتواء من المنبع الأصلى لأصبح أنا هو وهو أنا. الكتابة هى فعل رحلة الرجوع معك إلى المنبع الأصلى، تبدأ من استيعاب الواقع. إن إدراك الواقع يعنى أن أنتبه إليك، وأن أقاسمك حياتك وأن أعرفك معرفة جيدة وأن أؤمن بك، أى أن أكتبك دعوة منى لتكون رفيقى فى رحلتى إلى الحب الكلى. الكتابة هى العلامة، فالكلمة علامة، والقصة علامة وأنا وأنت علامة، والعلامة هى التحقيق الكامل للتواصل والحوار بيننا، فأنت المرسل بخبرتك اليومية، بألامك وأسئلتك اللاسعة وتوقك وخبرتك وتجريبك وتفاصيلك اليومية وعزلتك ومقاومتك لعزلتك وحزنك ولامبالاتك وضجرك وحبك وبحثك وتفاعلك وجمودك وخوفك وجرأتك، وأنا المتلقى لحاضرك وماضيك ومستقبلك لك وله لأعود أرسل لك حروفى دعوتى لترافقنى فى رحلة الرجوع إليه: أنا أحملك جرحا نضرا وأحمله أثر جرح قديم، أحملك هما بين ضلوعى وأحمله طفلا تعفن أحملك ذكرى لن تتحقق وأحمله دربا موحشا مشيته، أحملك مزامير داوود و أحمله خطاب كل الخطباء المهمشين، أحملك وحيدا وأحمله غوغاء يهوذا، أحملك خطيئة لم ترتكب، ولن! وأحمله خطيئة حمقاء حمق جغرافيتى، لكنى أريد أن أقول لك: أحبك! أن أكتبك وأن أدعوك وأن تلبى دعوتى كما لبيت دعوة من كتبوا قبلى يعنى أن نحاول التحلى بالإخلاص والكرامة، وألا نكون إلا ذرات من التوق الشديد إلى الحقيقة، الحق، المعرفة، الحب الكلى من هنا، نعرف لماذا الألم، ولماذا تستحق الحياة أن نعيشها، فمسعانا للإجابة عن الأسئلة التى تجسد ألمنا ما هو إلا فرح كونىّ. "سنرقص حين تتخلى ذراتنا عن نزعتها الأبدية فى التمحور حول نفسها والسكون تنفلت من روابطها المبهة، تنطلق، منتشرة فى الكون حين تتخلى عن رابطها الحزين حينئذ سينفجر الفرح ويلتئم الجرح رعشة رعشة كما نمشى إلى قبورنا همسة همسة وننفلت ويرقص الكون، متمايلا، متدللا، طبا، حرا على إيقاع دمعتي، آهتى، أنّتى ويقولون إننا نحب" إنه الحب الذى نعود إليه، إنه الحزن الأصلى والأزلى والمقدس عندما تتحقق ذواتنا بالرجوع إليه، إنه الفرحة باللقاء. هذه الفرحة تتجاوز الموت المصدر الأساسى لكل بحث إنسانى. إذا كانت الكتابة هى تحقق الذات فهى الحرية، هى أن أكون حرا حرا بفعل الكتابة أى بالحاجة إلى المعرفة والحب، أى بالخبرة، أى بالتواصل، بأن أكون أنا أنت وأنت أنا، والحرية هى المعرفة، والمعرفة هى الحب، وهو الحب الذى نترافق فى رحلة الرجوع.