بين رقمى 7 ملايين و12 مليون نسمة، تتأرجح أعداد سكان المناطق العشوائية فى مصر، والمناطق العشوائية نفسها تتأرجح أرقامها بين 909 و1034 منطقة، وهى أرقام إذا ما وضعنا فى الاعتبار زيادتها بمعدل 2.3% سنويا، نعرف مدى الخطر الذى يحدق بخريطة الوطن - الذى يمكن أن يحولها إلى "عشوائية كبرى" فى المستقبل. وطبقا لدراسة أجراها خبير التخطيط العمرانى الدكتور أبو زيد راجح، فإن عدد الوحدات المعروضة للإسكان بلغت حوالى 12 مليون وحدة، بينما العدد المطلوب لحل أزمة السكن فى مصر لا يتعدى ال 9 ملايين وحدة سكنية. والمشكلة، حسب الدراسة، أن المعروض من الإسكان الفاخر، لا يتناسب مع دخل المواطن العادى (400 جنيه شهرياً وفقاً للأرقام الرسمية )، كما لم تقم الدولة سوى ببناء 100 ألف وحدة من الإسكان الشعبى و المتوسط خلال السنوات الماضية. وتأكيداً لحجم الأزمة ومدى خطورتها، أوضحت دراسات المركز المصرى للحق فى السكن، أن 30% من سكان القاهرة يعيشون فى حجرة واحدة، وأن معظم سكان العشوائيات يعيشون فى ظروف غير آدمية، رغم أن الحق فى السكن يمثل أحد الحقوق الأساسية للإنسان. وهنا يقول محمد عبد العظيم، المحامى بمركز الحق فى السكن، إن العهد الدولى لحقوق الإنسان قد أشار إلى 14 معيارا للمسكن الملائم، وإن الجمعيات الأهلية النشطة فى هذا المجال تسعى إلى تطبيق 9 حقوق منها كحد أدنى مما هو منصوص عليه فى العهد. وأهم هذه المعايير، أن يكون المسكن مزوداً بالخدمات الأساسية، كالماء و الكهرباء و الصرف الصحى، وأن ينعم بالخصوصية و بالأمن، بالإضافة إلى مراعاة الجانب الثقافى والاحتياجات المعيشية، فالمسكن المخصص لأهل النوبة يختلف عن مساكن البدو والفلاحين أو مواطن العاصمة. كل هذه الأرقام والإحصاءات الصادمة، تم رصدها عن بعد وعلى استحياء، لأن معظمها خرجت عن جهات حكومية، فماذا يحدث لو كان رصد الحال من خلال عيون قريبة، ومفتوحة على اتساعها لترى الواقع كما هو، دون أى تهوين، بالتأكيد سيكون الحال صادما بدرجة أعنف وأقسى من كل الإحصاءات والأرقام السابقة. هل تكفى غرفة واحدة؟ ففى عزبة الورد بحى شبرا، تعيش أسرة إبراهيم، بواب احدى العمارات، فى حجرة واحدة، أوسع قليلاً من علبة السردين، فأبناؤه – الصغار والكبار - يتراصون ككتل من اللحم فى مساحة لا تزيد عن عشرة أمتار تستخدم كصالون وحجرة نوم و مطبخ أيضاً. ومع حلول المساء لا يسع الفراش الوحيد بالحجرة، سوى لبناته الخمس وأمهم، وعلى بقية أفراد الأسرة افتراش الأرض وأحيانا تحت السرير حتى ينعموا بالظلمة التى تمكنهم من ادراك النوم، لأن أحد أعضاء الأسرة يستذكر دروسه على ضوء أحد الوصلات المسروقة من عمود بالشارع. وتعتبر هذه الأسرة أكثر حظا من أسر أخرى تقطن المخابئ المشيدة بالمنطقة من أجل الدفاع المدنى، وأفضل حالاً من أسر أخرى تقطن البدرومات ومخازن مستلزمات الحكومة، والتى أصبحت مخازن للبشر فى أرض عزيز عزت بإمبابة، وأقل ما يعانيه الأهالى هنا.. طفح المجارى المتكرر. وتحتوى هذه المنطقة، حسب تقارير المركز المصرى للحق فى السكن، على جيل جديد لم يعرف فى الدنيا سوى هذه المساكن غير الآدمية، ويدفعون ثمن حالة الفقر التى خرجوا عليها للحياة من الأمراض الخطيرة التى تسببها لهم تلك المساكن، التى لا يتوافر بها الحد الأدنى من المعايير اللازمة لسكنى البشر. أحياء في مدينة..الأموات وتتجلى صور انتهاك خصوصية السكن فى صورة بشعة بالمجاورين، والتى يبلغ عدد قاطنى الوحدة السكنية الواحدة بها أكثر من 15 شخصاً، و يعيشون - وفقاً لبعض الدراسات- فى حجرة واحدة، بل وتم تحطيم الرقم القياسى بوجود اسرة كاملة تعيش فى مساحة لا تزيد عن متر مربع. وهنا، فى " مدينة الأموات " – كما يطلقون عليها - تمتزج هيبة الموت وصمته بضجيج الحياة ومتاعبها.. إننا الآن فى غرفة عم محمود الذى استقبلنا وزوجته فتحية على بابها، وهما فى حالة استغلال حوش المدفن فى الطهى والغسيل ونشره، بينما أولادهما يلعبون دون خوف بين القبور. وتقول فتحية: "لقد تعودت على السكن هنا، فأنا أعيش فى القبور طوال حياتى منذ أن قدم أبى من الصعيد، ولقد احتفلت بزفافى بين الموتى، حتى أنهم أصبحوا جزءاً لا يتجزء من حياتنا اليومية، فالأحواش المختلفة التى تحمل أسماء كبرى العائلات المصرية هى فى الواقع بديل عن أسماء الشوارع فى العاصمة ". وتعد الذكرى السنوية لكل متوفى بمثابة احتفالية للسكان هنا مع توزيع "الرحمة" التى قد تختلف حسب المكانة الاجتماعية لكل أسرة، ورغم الظلام الدامس الذى يخيم على المنطقة ليلاً، فإن الأهالى يستطيعون قضاء أمسيات مسلية، خاصة مع دخول الدش مدينة الموتى. المركب هو بيتى ومن مدينة الأموات إلى صفحة النيل الخالد، حيث يعيش عم سيد الصياد و أطفاله الخمسة فى منزله " المركب "، وهو أحد النازحين من صعيد مصر. اختار لمركبه المتواضع أفضل المواقع النيلية بالقاهرة ليكون مقرا دائما له، ويحمل بذلك أوضح صورة للتناقض بينه وبين من يسكنوا فنادق الخمس نجوم على بعد أمتار منه. المنزل بالنسبة له هو أى مكان يؤويه وأسرته، خاصة مع ارتفاع الإيجارات و استحالة التمليك و تفاقم أزمة الإسكان، مع الزيادة المطردة فى أسعار مواد البناء..لذلك لم يجد مفراً من السكنى بمركبه، واستطاعت أسرته أن تكيف أوضاعها و تمارس حياتها اليومية على أساس أن "المركب" هو البيت. حتى أطفاله الصغار تعودوا أن يتحركوا فى هذه المساحة التى لا تتجاوز بضعة أمتار، فهم يستذكرون دروسهم بالمركب، و يقضون حاجاتهم فى المساجد المجاورة، ولعل الزوجة هى الأكثر حظا بعدم احتياجها لوقت طويل لتنظيف المسكن، وإن كانت تضطر للخروج إلى العالم الخارجى من أجل غسل الملابس أو إجراء عملية الطهى خوفاً من احتراق المسكن.