نقلا عن اليومى.. فى ذكرى يوم ميلاد نهر الموسيقى العربى الخالد، الشهير بمحمد عبدالوهاب، نتذكر كيف تعدد وتنوع إنتاجه الموسيقى الذى غطى مساحة عظيمة من أشكال الإبداع الموسيقى، فقد كتب عبدالوهاب الموسيقى الخالصة، ولحن لنفسه، وللغير، كما أشجانا بصوته الرخيم كمطرب. وقد ساعدته شخصيته، وميله الدائم للتجديد وللتحرر من النماذج الثابتة، على إيجاد مساحات عصرية أوسع للتعبير الموسيقى، مما أدى إلى زيادة إنتاجه، وإطالة عمره الفنى، فبقى دائما متميزا بين أقرانه، متفوقا على كل من جاء بعده على الساحة، وأثبت مع الزمن أنه يستحق البقاء على قمة الفن. كان لعبدالوهاب أثر بالغ فى ذيوع أمر القصيدة العربية الفصحى وتداولها واستحسانها بين جمهور من البسطاء، الذين ربما كانوا أبعد ما يمكن عن الفصحى وتقعرها، بالرغم من أن القصيدة الفصحى هى أقدم الأشكال الغنائية العربية وأرقاها، إلا أنها كانت بعيدة عن تذوق العامة لها، حيث كان لحنها فيما مضى لحنا مرتجلا، يعتمد فى الأساس على المغنى وحالته المزاجية، إلى أن حدث فى أوائل القرن العشرين أن قدم الشيخ سلامة حجازى روائع من الشعر العربى القديم على مسرحه الغنائى بالقاهرة، لكن الشيخ حافظ على الأداء بلحن مرتجل، يأتى تبعا لهوى المطرب، حتى إنه كان يتغير مع كل مرة تغنى فيها القصيدة. ومع بدايات العصر الحديث ظهر دور الملحن كمتخصص مستقل عن الغناء، وقد كان سيد درويش ممن أسسوا لوجود الملحن -صانع لحن الأغنية- فى دور مستقل، وعلى يده زالت هيمنة المغنى على اللحن، تبع ذلك ظهور المدرسة التعبيرية فى التلحين التى كان سيد درويش رائدا لها، ثم جاء وراءه ملحنون استفادوا من ذلك وأجادوا تلحين القصيدة، مثل الشيخ أبو العلا محمد ورياض السنباطى، ومحمد عبدالوهاب الذى كان له نبوغ موسيقى ملحوظ، إضافة إلى تملكه لصوت رخيم اشتهر به كمطرب. وتعد تلك المرحلة هى مرحلة انتقال القصيدة إلى العصر الحديث، بعد أن أصبح لها لحن مستقل ثابت ومميز، يمكن التعرف على القصيدة من خلال الاستماع إليه. اهتم الشيخ أبو العلا محمد بتقديم القصيدة ملحنة دون ارتجال، لكنه تشبث بانتهاج الأسلوب النمطى فى تلحينها، لكن محمد عبدالوهاب والسنباطى قادا ثورة التجديد والخروج على نمطية اللحن، وانطلقا إلى آفاق التعبير الرحبة متأثرين بأسلوب الشيخ سيد درويش، وإن كان هو نفسه لم يلحن الكثير من القصائد لكن مدرسته التعبيرية كانت السائدة آنذاك. وبدأ وقتها محمد عبدالوهاب ومعه السنباطى فى تطوير وتحديث أسلوب تلحين القصيدة، فاحتفظا بسمات المدرسة التعبيرية، وسارا على نهجها من ثبات اللحن وتنوع المقامات والإيقاعات، وأضافا إلى ذلك إضافات موسيقية مهمة، كالمقدمة.. الوصلات.. واللزمات، لم تكن معروفة فى ذلك الوقت، ثم قاما باستخدام الأوركسترا الحديث والآلات الجديدة، التى برع محمد عبدالوهاب كملحن وموسيقار فى تطويعها رغم كونها آلات غربية لا تنطق نغمة «ربع تون» المميزة لموسيقانا، ونجح فى أسلوبه الجديد وأطلق القصيدة الغنائية من عقالها، وكان هو والسنباطى رائدى تلحين القصيدة العربية الحديثة، لكن بينما كان السنباطى يميل إلى التقليدية والمحافظة، مضى عبدالوهاب قدما على طريق التجديد والابتكار والتحرر. ولقد أبدع عبدالوهاب فى تلحين وغناء أكثر من قصيدة فصحى، جعلها مع صعوبتها متداولة على لسان كل أبناء الشعب العربى نتيجة القوالب الموسيقية المتجددة التى اختارها لتلك القصائد، وقد غنى عبدالوهاب لكثير من شعراء مصر والوطن العربى فمن أشهر ما لحنه وغناه عبدالوهاب: يا جارة الوادى، وقصيدة دمشق وهما من شعر أمير الشعراء أحمد بك شوقى، أما قصيدة الصبا والجمال، وقصيدة جفنه علم الغزل فكانتا للشاعر اللبنانى بشارة الخورى، أيضا غنى رائعته الجندول لعلى محمود طه وهى من القصائد الطويلة، التى لحنها بأسلوب جديد مختلف واستخدم فيها إيقاع «الفالس» الراقص، فكانت حدثا جديدا فى ميدان الغناء العربى. وغنى عبدالوهاب لنفس الشاعر قصيدتى كليوباترا، وفلسطين، أما قصيدة لست أدرى..التى اشتهرت بيننا بصوت عبدالحليم فى فيلم الخطايا، فقد كانت من شعر إيليا أبوماضى. ثم كانت قصيدة النهر الخالد البديعة، ودعاء الشرق التى لا ننساها وكانتا من أشعار محمود حسن إسماعيل، أيضا غنى عبدالوهاب بصوته ومن ألحانه همسة حائرة لعزيز أباظة. نكتشف بعد هذا العرض الموجز فضل موسيقار مصر محمد عبدالوهاب على قصيدة الفصحى وانتشارها بين قطاعات مختلفة من الناس، مما جعل عبدالوهاب يستحق عن جدارة لقب موسيقار الأجيال، بما صاغه من ألحان شجية، جذابة وسلسة ما زالت حلاوتها تسكن أذن المستمع العربى حتى الآن رغم فراقه لنا منذ عام 1991.