فى روايته «خنادق العذراوات» الصادرة مؤخرًا عن دار الساقى، يسرد الكاتب وجدى الكومى جانبًا من تاريخ مصر الذى تمّ نهبه بانتظام. زمنٌ من البيع يرويه "الكومى" من خلال شخصية "مراد" الذى يعمل لدى إبراهيم سالم، المجنّد السابق فى الأمن المركزى، والذى يُقرّر نهب مصنع البيرة الذى يعمل فيه، وينجح فى ذلك مع زوجته نادية وأستاذ التاريخ رمضان. عن «خنادق العذراوات» وشباب الثورة التى انطلقت منها إلى ميدان التحرير، كان ل"اليوم السابع" هذا الحوار. لماذا اخترت تحديدًا مصنع البيرة لتدور عنه الأحداث فى حين أن هناك العديد من المنشآت تم بيعها فى مصر ضمن عملية الخصخصة؟ مصنع البيرة الواقع فى "بين السرايات" ارتبط بى وب"مراد" بطل الرواية". فأنا و"مراد" دخلنا الجامعة معًا فى نفس العام الذى تمت فيه خصخصة المصنع ونهبه على الرغم من كونه أهم شركات القطاع العام الرابحة، كان ذلك عام 1997، فى ذلك العام أتم المصنع مائة عام بالتمام والكمال، حيث تم إنشاؤه للمرة الأولى عام 1897، وأحب أن ألفت نظرك إلى أن المصنع استقبلنى للمرة الأولى فى ذلك العام برائحة الشعير المميزة لعملية تخمير البيرة، كانت الرائحة منتشرة بقوة ونفاذة فى منطقة بين السرايات، حتى أننى تساءلت بفضول عن مصدرها، فأخبرونى أنه مصنع البيرة، المصنع يعبر بقوة عن مصر التى انحدرت وتم نهب ثرواتها بانتظام، ففى عهد الاحتلال الإنجليزى كان أحد مصادر الدخل القومى الكبيرة، وتم تأميمه مع ثورة يوليو فى الستينيات، ثم تم نهبه عبر عملية الخصخصة عام 1997، وعاد المستثمر الذى اشتراه بثمن بخس، لبيعه مرة أخرى إلى شركة هولندية عام 2002، محققا أرباحا مهولة، كان يستحقها المصريون، أنا لم أكن أبحث عن قضية خصخصة بعينها لكتابة قصتها فى عمل روائى، بقدر ما كنت معنيا بتاريخنا المنهوب. تدور أحداث "خنادق العذراوات" عن قصة مصنع البيرة لكن قارئ الرواية سيجد أول ذكر للمصنع فى الصفحة 149 من العمل؟ هناك دائما أسباب تؤدى إلى نتائج الأحداث، وهناك دائمًا مقدمات لا يمكن تجاوزها، والمرور عليها مرور الكرام، قصة مصنع البيرة التى تحملها الرواية مثلها مثل كل الأشياء التى حدثت فى مصر فى الفترة الأخيرة، هى نتيجة لمقدمات وأحداث وأسباب لا يمكن تجاوزها أو تجاهلها، هذه الأحداث هى بطل العمل الحقيقى، بجانب "مصنع البيرة" الذى تدور عنه الأحداث، عبر الصفحات الأولى للرواية كان يجب أن أتناول بالشرح والتفصيل كل الشخصيات التى تآمرت على مصر وعلى تاريخها، وأدارت "مافيا" بيع تاريخها، لهذا ستجد الأحداث فى البداية تتناول أطراف المؤامرة الذين اتفقوا واجتمعوا على بيع مصر وتاريخها. ألم تخش على قارئك أن يشعر من الملل من هذه التفاصيل؟ هل شعرت أنت بالملل؟ بعض الذين تواصلوا معى بعد قراءتهم للعمل، اعترفوا لى أننى أدخلتهم فى سلسلة من الحبكات الفرعية، نجحت فى شدهم وجذبهم لإكمال الرواية حتى بلوغ ذروتها فى واقعة بيع مصنع البيرة. على مدار الأحداث هناك نقد تاريخى لاذع سواءً لمن كتبوا تاريخنا مثل عبد الرحمن الرافعى أو عبر بطل الرواية الذى يعمل أستاذا للتاريخ؟ تعرض تاريخنا مثل كل شىء آخر فى مصر، للنهب والسرقة، تاريخنا الحقيقى، لم يحظ بفرصة التدوين والكتابة حتى الآن، وخدعونا بتاريخ مضلل عن تاريخنا الحقيقى، وأبدلونا مجلدات منتفخة بأكاذيب، التيمة الرئيسية فى الرواية على حسب ظنى، هى مكاشفة هؤلاء الذين خدعونا بقصص وحكايات هامشية، ليس لها علاقة بالرواية الحقيقية لتاريخ مصر، لذلك كان بالنسبة لى بيع مصنع البيرة، أشبه بعملية بيع تاريخى منظم، لطمس الحقائق، عن الأجيال التالية والمتعاقبة. وهل ترى من المنطقى أن تكون بطلة الرواية "نادية" وهى بائعة حشيش وعاهرة، راوية للتاريخ، ومصدر له أصدق من مؤرخينا؟ هنا المفارقة التى يكتشبها "مراد" بطل العمل، بعد تعرفه على "نادية"، أن الكذب المستمر على الأجيال، بإخفاء حقيقة الأحداث، ونشر القصص المضللة عبر بيانات الحكومة التى تحاول إخفاء ما يجرى، سمح للشخصيات الهامشية، من العالم السفلى، بتدوين تاريخ آخر مواز، تاريخ ربما يكون منطقيا على الأقل من وجهة نظرهم. ولكنك جعلت من "إبراهيم" أستاذ التاريخ الذى يدرسه ل"مراد" فى الجامعة مشاركا فى روايات تاريخية أخرى ربما تكون غير حقيقية؟ ألا ترى ذلك غير منطقى بحكم كونه أستاذًا للتاريخ؟ "إبراهيم" أستاذ التاريخ مفارقة أخرى، فهو يروى التاريخ المكذوب لطلابه فى الجامعة، ويشارك فى نهب التاريخ الحقيقى لمصر، بتواطئه ومجالسته لمافيا سرقة مصنع البيرة، ثم هو يهاجم المظاهرات التى تندلع بالقرب منه، للمطالبة برفض صفقة بيع المصنع، لكنه مع ذلك يروى ضمن ما يروى فى المنهج التاريخى الذى يدرسه، قصص عن الشعوب التى ناضلت بالتظاهر، من أجل استرداد حقوقها. "إبراهيم" مفارقة تاريخية كبرى، بين الواقع التاريخى الحقيقى، والتاريخ الافتراضى الذى تدرسه الدولة لأبنائها فى مدارسها وجامعاتها. فى بعض الأحيان طغى صوتك، على صوت "مراد" شعرت بذلك حينما قلت بكل صراحة فى وصفه "لنادية" إن حياتها كان العامل المشترك فيها "البيع"؟ "مراد" هو بطل الرواية، الذى يعبر عن جيلنا، جيل متورط رغم أنفه فى الأحداث، متورط فى البيع، متورط فى التهميش، متورط فى أن يكون شاهدًا على وطن يتم عرضه فى سوق النخاسة، لهذا كان من الطبيعى أن يصف ما يقول، أن يتحدث عنه، رغم أنه مشارك فعليًا فيه. "مراد" هو مثل هذا الجيل، الذى نما ووجد نفسه فى مواجهة دولة تتجاهله، ونظام يعمد لتهميشه، ويوزع ثروات البلد على أصدقائه من رجال الأعمال، "مراد" يسمع القصص التاريخية المشوهة من أستاذه فى الجامعة "إبراهيم" ثم يعود ليسمع التاريخ الحقيقى الذى تحاول "نادية" أن تضفى عليه منطقية، لتنجح فى إقناعه بالخديعة التى خدعوه بها، إنه مضطرب، والاضطراب أبرز سماته. فى بعض الأحيان كنت أشعر أن هناك مبالغة مقصودة تتعلق بشخصية "نادية" فى معاملتها بحنان نادر مع "مراد"؟ وعطفها عليه الذى أظنه غير مبرر؟ كما قلت لك، "مراد" مضطرب، مشتت، وجد نفسه مضطرًا للسكن فى مدينة السادس من أكتوبر، التى ليس فيها ما يشير للحرب التى منحت المدينة اسمها، وهذا نقد آخر للتاريخ، "نادية" مثال للعاهرة، المنتمية للعالم السفلى، التى تلتقى شابًا غضًا، منعدم التجربة والخبرة، يستهويها نموذجه، ويعجبها طهره ونقاؤه، تميل له، وتجد فيه عنصرًا خامًا، يصل للتشكيل بسهولة كالصلصال، فترويه أولاً من جسدها، وتمنحه بسخاء، وكرم، وتجود عليه حتى بعد فشله معها لأول مرة فى الفراش، وتمنحه فرصة ثانية، ثم تجود عليه بالحشيش لتجعله يثق فى نفسه، هذه النماذج الإنسانية موجودة، نستغرب فقط حينما نقرأها فى كتاب، لكنها موجودة فى الحياة من حولنا. ولكن على الرغم من الأخطار التى وضعته "نادية" فيها حينما عمل "ديلر" أو موزع للحشيش، لم يكن هناك قرار ثابت ل"مراد" فجعلته مترددًا يهجرها أم يظل معها؟ "مراد" شخصية مضطربة، مثله مثل سائر الجيل، اضطرابه جعله يلتصق بالشخصية التى عطفت عليه، ومنحته، وساعدته، ومدت له يد العون، لذلك كان من الطبيعى أن يظل ملازمًا لها، ومؤمنا بها، إلى أن هدده "إبراهيم" زوجها، فقرر أن يبتعد، بمساعدة "رمضان" المؤرخ، لكنه فى نهاية الرواية يبحث عنها، فيكتشف أن حنانها ظل ملازمًا له طوال هذه السنوات، حينما جعلت "مروان أبو الحبال" يراقبه عن بعد، ويرصد نجاحاته وصعوده. قارئ روايتك يشعر أن هناك اقتباسات سينمائية ما، خاصة بمشهد " نادية" حينما تهتف، أنا إمبراطورة مصنع البيرة؟ ألم تشعر أن هذا المشهد قريب من أحد مشاهد " نادية الجندى" فى أفلامها؟ ليس صحيحًا، فى الحقيقة لم يفرض مشهد سينمائى معين نفسه على ذهنى، أثناء كتابة الرواية، القراء مختلفون، ولكل منّا خلفياته الثقافية التى تتقاطع مع ما نقرأه، حينما تقبل على قراءة عمل ما، قد تذكرك شخصياته، بشخصيات فيلم ما شاهدته، أو عمل روائى آخر قرأته قبله، أحد الأصدقاء قال لى إن "مراد" و"نادية" تنويعات عصرية لشخصيات نجيب محفوظ، صديق ثالث قال لى إن "نادية" تذكره بشخصية "روؤة" فى الفيلم السينمائى الشهير "العار"، كل الخلفيات الثقافية تفرض نفسها، عند تلقى عمل جديد، لكن هذا لا يعنى بالضرورة أننى استوحيت شخصيات عملى من هذا أو ذاك. "الإيروتيكية" فى الرواية مكثفة، وأحيانا تكون مبالغ فيها، المشاهد الجنسية الحميمية، التى ضمنتها فى علاقات "مراد" بزوجته، وكذلك فى علاقة "مراد" ب"نادية"، ألا تشعر أنها مبالغة؟ الإيروتيكية، مثلها مثل باقى التصرفات الأخرى فى حياتنا، هى مكون رئيسى من مكونات أى شخصية، وإذا كنت ستتطرق إلى وصف شخصية تنتمى للعالم السفلى، مثل شخصية "نادية" أو "مراد" فلابد أن تبرز أكبر معالم هاتين الشخصيتين، وهى الجنس فى حياتهما، لم يعد من الممكن أن تصف شخصية، فتقول أنه طويل القامة عريض المنكبين، لكن الأصدق أن تصف طريقة مضغه للطعام، تدخينه للسجائر، ارتداءه للملابس، ممارسته للجنس، لهذا تشعر أن الجنس فى الرواية مبالغًا فيه، لكن الحقيقة غير ذلك، إذا أحصينا مشاهد تناول الطعام فى عمل ما، هل ستقول أن هذه الرواية تنطوى على مشاهد جوع مبالغ فيها مثلاً. فى بداية الرواية، هناك مشهد ل"مراد" يشاهد فيه فرشة الجرائد والتى خيمت عليها صور عمر سليمان التى احتلت أغلب الصحف؟ ماذا قصدت من ذلك؟ المقصود هنا، رصد شيئين، أبرزهما زمن الرواية الحالى، الذى تبدأ به الأحداث، فى 2012، قبل أن نعود إلى الزمن الذى تحدث فيه باقى الأحداث عام 1997، الشئ الآخر المقصود رصده، هو أن الثورة التى قضت على نظام مبارك، لم تقض نهائيا على رموزه، فها هو "عمر سليمان" يتحدث بجرأة، ويعيد طرح نفسه كمرشح للرئاسة على الرغم أن الثورة اندلعت ضد نظام كان هو أحد أعمدته، وهياكله المخيفة، المفارقة هنا، أن أستاذ التاريخ "مراد"، بطل الرواية، صار وجهًا لوجه مع "عمر سليمان" بعد الثورة، على الرغم أن كلامهما سبب فيها، كأننى أقول، أنه لا فارق بينهما، فكلاهما فاسد، وكلاهما تسببا فى اندلاع الثورة. ظهرت الثورة فى نهاية العمل وكأن كل ما قرأناه أدى إليها؟ كل ما فى مصر كان يؤدى للثورة منذ زمن بعيد، وكذلك كل ما فى الرواية، وهذا لا يعنى أننى تعمدت أن أكتب عن الثورة، فى الرواية، التى بدأت كتابتها منذ نهاية 2010، وكان بإمكانى أن أكتبها قبل الثورة واندلاعها، أنا هنا لم أتعمد أن أروى الثورة، من حيث نزول الجماهير إلى الشارع، واعتصام ميدان التحرير الكبير، لكننى فقط أشرت إليها فى موضع بسيط، على لسان الديلر "مروان أبو الحبال"، الذى قال لمراد: "أن شباب ثورة يناير نزلوا من خنادق المصنع، وخرجوا من ميدان التحرير"، تظل هذه حكاية مزعومة لديلر، مثل حكايات "نادية" عن التاريخ، خنادق العذراوات رواية ليست عن الثورة، فالثورة لم تنتج أى شىء بعد، إنما الرواية عن الوطن المنهوب، والتاريخ المكذوب، والحقوق الضائعة. يذكر أن "خنادق العذراوات" هى الرواية الثالثة للكومى، بعد روايتيه "شديد البرودة ليلا" الصادرة عن دار العين للنشر، عام 2008، و"الموت يشربها سادة" الصادرة عن نفس الدار عام 2010، والتى تمت ترجمتها إلى الفارسية هذا العام، وحصل الكومى على عدد من الجوائز الأدبية، عن بعض قصصه القصيرة، التى تضمنها كتابه القصصى الأول "سبع محاولات للقفز فوق السور" الصادر هذا العام عن دار الشروق.