كل المعنيين باﻷمور العامة فى مصر يكادون يقطعون بأن هناك مخططات لدفع البلاد إلى فوضى فى يوم 30 يونيو، فلماذا وصلنا إلى هذه الحالة؟ وكيف دخلنا هذا النفق؟ وكيف يمكن الخروج منه دون أن يصاب مصرى بأذى أو تصاب بلادنا بسوء؟ الحقيقة التى أقطع أنها غائبة عن المشهد السياسى الحالى وتحاول بعض وسائل الإعلام أن تقصيها عن مجمل رؤية الأوضاع الحالية بشكل احترافى هى أن التدافع السياسى الحالى هو تدافع داخل نظام سياسى بين الحكم والمعارضة، لكن المعارضة نسيت أو تناست ذلك، وكأنها تعاين ﻷول مرة قواعد مجتمع سياسى، وذلك طبعا بسبب تزاحم اﻷحداث وتلاحقها وتزايد حاﻻت اﻻنفعال السياسى لدرجة جعلت الساحة السياسية، وكأنها تستعد لحرب أهلية، أو أنها بالفعل حرب دائرة بين دولتين، وكل ذلك ربما يرجع إلى عدة أمور.. أولها: الخروج توا من حالة سجن السياسة والسياسيين فى مصر، سواء السجن الإرادى الذى كانت ترتضيه غالبية القوى السياسية، أو السجن القهرى - المعنوى أو المادى - الذى كان يعانيه جانب هام من القوى السياسية، وهى القوى الإسلامية.. هذا ما يجعل البعض يتحرك ﻷول مرة فى فضاء الحرية دون ملاحقة، ولم يوجب عليه ضميره الوطنى أن يضبط أداءه فى ضوء مصالح الوطن العليا التى يجب أن تحكم الأداء السياسى، خاصة فى مصر الثورة، حيث يجب أن نعمل جميعا على بناء النظام السياسى الذى نرتضيه ﻷبنائنا وأبناء أبنائنا.. ثانيها: اندفاع القوى السياسية وتسابقها لكى تضع كل منها بصمتها على الحياة السياسية التى تتشكل فى مصر بعد الثورة.. وذلك ما جعل البعض يتصور أنه يمكن أن يضع بصماته دون أن يضع الآخرون بصمات، وقد يتعجب البعض إذا قلت إن ذلك ينطبق على المعارضة أكثر مما ينطبق على الحكم.. ثالثها: ما يصاحب ذلك من حالة سيولة أمنية وعنف جنائى تشهده البلاد منذ الثورة وهو ما يجعل - بالإضافة للعناصر السابقة - «البلاد وكأنها على حافة اﻻنهيار».. رابعها: اﻷخطر من ذلك اﻻنفلات الجنائى، أن نرى بعض السياسيين وهم يؤسسون لعمل سياسى جديد يقوم على العنف فى إطار إثبات الوجود وفرض رؤية سياسية معينة أو اﻻنقلاب على الوضع السياسى الحالى الذى مهما اختلفنا معه فلابد أن نحترم وجوده، ﻷنه يعبر عن باكورة الإرادة الشعبية فى هذا البلد، والتى أتت إلينا عن طريق صندوق اﻻنتخاب ﻷول مرة، ولهذا فإن المساس بهذه النتيجة يعنى أننا شعب لا يحترم اختياره، وأنه تعود على أن يطبخ له كمبيوتر الداخلية نتائج الانتخابات ذات الخمس تسعات!! لكن الحقيقة التى يجب أﻻ تغيب عن المشهد، والتى يجب أن نؤكد عليها كل حين هى أن مصر بطبيعتها المستقرة عبر القرون ﻻ يمكن أن تنجر إلى عنف موسع بأى صبغة كانت، وﻻ يمكن أن تشهد تغيرات دارماتيكية مثل التى يراهن عليها البعض اليوم، ولا يمكن أن يكون العنف هو وسيلة التغيير فيها، حتى لو كان ذلك بدعم دولى مفتوح. وأهم ما يجب أن يكون مستقرا فى اﻷذهان اليوم ونحن نعالج مشكلات المرحلة اﻻنتقالية المعقدة أن المشهد الحالى ﻻ يخرج عن كونه يعبر عن أداء معارضة سياسية - وإن كان غير رشيد - تحاول أن تكتسب شرعية فى الشارع عبر التواصل مع مشكلات الناس وهموم المواطن فى ظل تفاوت صارخ فى القدرة على التواصل مع الجمهور بين التيارات العلمانية والتيارات اﻹسلامية.. وبرغم أن الأوضاع السياسية المصرية ﻻ تحتمل غير هذا التخريج أو هذا التوصيف فإن هناك محاوﻻت إعلامية وسياسية حثيثة لتخريجها على أسوأ صورة، وذلك عن طريق القفز فوق دور المعارضة السياسية وطبيعة الأداء الذى يجب أن تلتزم به باعتبارها جزءا من النظام.. إلى أن رأينا من يعتبر أننا أمام ثورة شعبية ثانية ﻻ تقل عمقا عن الثورة اﻷولى التى تفجرت فى 25 يناير 2011م.. الحقيقة أن أهم الغائبين فى هذا المشهد هى الإرادة الشعبية والمصلحة الوطنية، وقبل ذلك العقل، وأخطر الحاضرين فى المشهد هى الفهلوة والتزوير الإعلامى والعنف والإرادة اﻷجنبية.