تحرير سيناء انطلاقة للتنمية بعد سلام الانتصار، احتفالية بإعلام الخارجة    الزراعة: البن المصري حلم يتحقق بعد عقود من التجارب وندرس الجدوى الاقتصادية    قرار عاجل من تعليم القاهرة بشأن تطبيق التوقيت الصيفي ومواعيد الامتحانات    عزة مصطفى تكشف موعد نهاية تخفيف أحمال الكهرباء (فيديو)    إسرائيل تعلق على استئناف ألمانيا تمويل "الأونروا"    صندوق النقد الدولي يدشن مكتبه الإقليمي في السعودية    إعلام عبري: مجلس الأمن الإسرائيلي بحث سرا سيناريوهات اعتقال نتنياهو وجالانت وهاليفي    الرئيس السيسي يشهد انطلاق البطولة العربية العسكرية للفروسية    رياضة دمياط تستقبل بطولة قطاع الدلتا المفتوحة للكيك بوكسينج برأس البر    اعتادت إثارة الجدل، التحقيقات تكشف تفاصيل اتهام البلوجر نادين طارق بنشر فيديوهات خادشة للحياء    الذكاء الاصطناعي وإحياء الموتى بشكل افتراضي!    رانيا يوسف لمنتقدي ملابسها: لن أغير ذوقي من أجل أحد    منح دولية وعروض جوائز إضافية بمهرجان بؤرة المسرحي في جامعة دمنهور    غدًا، قافلة طبية مجانية بقرى الفرافرة ضمن مبادرة "حياة كريمة" بالوادي الجديد    "مواجهته كابوس".. علي فرج يعلق على هزيمته لمحمد الشوربجي ببطولة الجونة الدولية للاسكواش (فيديو)    "تدعو لتدمير إسرائيل".. نتنياهو يهاجم المظاهرات الداعمة لفلسطين بالجامعات الأمريكية    موعد إجازة شم النسيم 2024 في مصر.. وتواريخ الإجازات الرسمية 2024    وزير الاتصالات يؤكد أهمية توافر الكفاءات الرقمية لجذب الاستثمارات فى مجال الذكاء الاصطناعى    بدءا من الجمعة، مواعيد تشغيل جديدة للخط الثالث للمترو تعرف عليها    سبورت: برشلونة أغلق الباب أمام سان جيرمان بشأن لامين جمال    تردد قناة الجزيرة 2024 الجديد.. تابع كل الأحداث العربية والعالمية    بروتوكول تعاون بين «هيئة الدواء» وكلية الصيدلة جامعة القاهرة    صراع ماركيز ومحفوظ في الفضاء الأزرق    مدير «مكافحة الإدمان»: 500% زيادة في عدد الاتصالات لطلب العلاج بعد انتهاء الموسم الرمضاني (حوار)    هل تقتحم إسرائيل رفح الفلسطينية ولماذا استقال قادة بجيش الاحتلال.. اللواء سمير فرج يوضح    السيد البدوي يدعو الوفديين لتنحية الخلافات والالتفاف خلف يمامة    بالفيديو.. أمين الفتوى: موجات الحر من تنفيس نار جهنم على الدنيا    دعاء الستر وراحة البال والفرج.. ردده يحفظك ويوسع رزقك ويبعد عنك الأذى    خالد الجندي: الاستعاذة بالله تكون من شياطين الإنس والجن (فيديو)    أمين الفتوى: التاجر الصدوق مع الشهداء.. وهذا حكم المغالاة في الأسعار    إدخال 215 شاحنة إلى قطاع غزة من معبري رفح البري وكرم أبو سالم    متحدث «الصحة» : هؤلاء ممنوعون من الخروج من المنزل أثناء الموجة الحارة (فيديو)    أزمة الضمير الرياضى    بعد إنقاذها من الغرق الكامل بقناة السويس.. ارتفاع نسب ميل سفينة البضائع "لاباتروس" في بورسعيد- صور    منى الحسيني ل البوابة نيوز : نعمة الافوكاتو وحق عرب عشرة على عشرة وسر إلهي مبالغ فيه    منتخب الناشئين يفوز على المغرب ويتصدر بطولة شمال إفريقيا الودية    تعرف على إجمالي إيرادات فيلم "شقو"    البورصة تقرر قيد «أكت فاينانشال» تمهيداً للطرح برأسمال 765 مليون جنيه    سيناء من التحرير للتعمير    فوز مصر بعضوية مجلس إدارة وكالة الدواء الأفريقية    العروسة في العناية بفستان الفرح وصاحبتها ماتت.. ماذا جرى في زفة ديبي بكفر الشيخ؟    أوراسكوم للتنمية تطلق تقرير الاستدامة البيئية والمجتمعية وحوكمة الشركات    عيد الربيع .. هاني شاكر يحيى حفلا غنائيا في الأوبرا    توقعات برج الثور في الأسبوع الأخير من إبريل: «مصدر دخل جديد و ارتباط بشخص يُكمل شخصيتك»    حكم الاحتفال بشم النسيم.. الإفتاء تجيب    هيئة عمليات التجارة البحرية البريطانية: تلقينا بلاغ عن وقوع انفجار جنوب شرق جيبوتي    تضامن الغربية: الكشف على 146 مريضا من غير القادرين بقرية بمركز بسيون    خدماتها مجانية.. تدشين عيادات تحضيرية لزراعة الكبد ب«المستشفيات التعليمية»    مديريات تعليمية تعلن ضوابط تأمين امتحانات نهاية العام    الصين تعلن انضمام شركاء جدد لبناء وتشغيل محطة أبحاث القمر الدولية    تأجيل محاكمة 4 متهمين بقتل طبيب التجمع الخامس لسرقته    تفاصيل مؤتمر بصيرة حول الأعراف الاجتماعية المؤثرة على التمكين الاقتصادي للمرأة (صور)    مهرجان الإسكندرية السينمائي يكرم العراقي مهدي عباس    هل يجوز أداء صلاة الحاجة لقضاء أكثر من مصلحة؟ تعرف على الدعاء الصحيح    تقديرات إسرائيلية: واشنطن لن تفرض عقوبات على كتيبة "نيتسح يهودا"    القبض على 5 عصابات سرقة في القاهرة    ضبط 16965 مخالفة مرورية خلال 24 ساعة    «التابعي»: نسبة فوز الزمالك على دريمز 60%.. وشيكابالا وزيزو الأفضل للعب أساسيًا بغانا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هل فى بلدنا حكومة؟
45 ألف يوم تفصل بين نوبار باشا والدكتور نظيف.. ومع ذلك لم تفهم الحكومة الشعب ولم يفهمها
نشر في اليوم السابع يوم 11 - 06 - 2009

◄ أسهل وظيفة فى مصر الآن هى الهجوم على الحكومة ولكن نتائج ذلك مزعجة ومهلكة للجميع ولذلك لابد أن نتوقف لمراجعة أنفسنا ليس دفاعاً عن نظيف ولكن لأننا مازلنا لا نملك الأسس التى نستند إليها فى تقييم أداء الحكومة ووزرائها
الحكاية ليست سهلة كما تظن.. وليست مجرد حسبة بالورقة والقلم وعمليات جمع وطرح وقسمة، لم يعد حتى الإنسان مضطرا لأن يقوم بها بنفسه فى زمن باتت فيه الآلات وليست العقول، هى التى تفكر وتقرر وتقود.. وإذا كانت تلك الآلات ستقول إن الفارق بين الثامن والعشرين من شهر أغسطس عام 1878.. وبين التاسع من شهر يوليو عام 2004..
هو بالضبط 45607 أيام.. فإن هذا الرقم هو بالضبط ما أدعوك الآن للتوقف عنده وأمامه كثيرا وطويلا.. وهو أيضا الحكاية التى قلت لك فى البداية أنها ليست سهلة كما قد تتصور أو تتخيل.. فنحن الآن نقف أمام خمسة وأربعين ألف يوم عاشتها مصر.. فى اليوم الأول منها.. الثامن والعشرين من شهر أغسطس عام 1878.. كان إسماعيل باشا.. يصدر أمره بتشكيل مجلس النظار.. أى الحكومة.. لأول مرة فى تاريخ مصر واختيار نوبار باشا كرئيس لهذه الحكومة.. وفى اليوم الثانى.. التاسع من شهر يوليو عام 2004.. كان الرئيس مبارك يكلف الدكتور أحمد نظيف بتشكيل الحكومة رقم 115 فى تاريخ مصر.. والفارق بين اليومين هو كيف عاشت مصر.. وإلى أى حد وبأى شكل تغيرت مصر والحياة فى مصر ،وتغير المصريون فى خمسة وأربعين ألف يوم ما بين أول حكومة وأول رئيس حكومة فى تاريخ مصر الحديث، وبين أحدث حكومة ورئيس للحكومة فى مصر.
ولا أقصد بذلك كله أن أحيل هذه الخمسة والأربعين ألف يوم إلى مجرد حصة للتاريخ.. وسرد لمعلومات وحقائق وأسماء.. أو حلقة درامية تليفزيونية عن الحكومة ومشوارها فى مصر.. ولكننى فقط أريد التوقف عند كلمة حكومة.. لماذا الحكومة.. وما الذى تعنيه كلمة حكومة، وما هو دور الحكومة ووظيفتها ومهامها المحددة والدائمة.. متى تنجح الحكومة وتستحق منا كلنا التقدير والاحترام، ومتى تخطئ وتفشل فلا تستحق إلا غضبنا ولعناتنا وسخريتنا المرة والقاسية.. وأرجو أن تكون قد انتبهت الآن إلى أنها بالفعل ليست حكاية سهلة.. ولا هى حتى حسبة واضحة.. إذ إننا طيلة الخمسة والأربعين ألف يوم.. فاتنا أن نضع معايير وضوابط ثابتة وواضحة وصارمة، نستند ونرجع إليها كلنا إذا قررنا الحكم على أداء أى حكومة، أو طلبنا منها كشف حساب..
لم نملك أبدا مثل هذه المعايير والأسس وإنما هى كلها وجهات نظر واجتهادات وقناعات عامة أو شخصية.. إعلام حكومى يتخيل أن أحد أهم واجباته والتزاماته هو الدفاع عن أداء أى حكومة طالما أنها الحكومة، وتبرير أى أخطاء أو قصور ومداراة أى عيوب أو نواقص.. وإعلام خاص تخيل هو الآخر أن الإعلام يعنى بالضرورة المعارضة طول الوقت.. والمعارضة تعنى بالضرورة تصيد الأخطاء والعيوب.. والأخطاء بالضرورة هى أخطاء الحكومة.. وهكذا عشنا سنوات طويلة جدا، نجد من يمدح الحكومة أو يلعنها دون أن يكترث أحد بأن يشرح لنا الأسس التى استند إليها وهو يمدح أو يشتم.. بل ولم نجد حتى أحدا يقول لنا.. بوضوح.. ما هى الحكومة وما هو دورها وما هى حدودها.. والأخطر من ذلك أننا لم نهتم فى أى يوم مضى بتحديد الفارق فى الدور والمسئولية بين الحكومة وبين الدولة ورأس الدولة.. وفى حالة الخطأ أو الإخفاق.. هل هو خطأ حكومة نوبار باشا أو حكومة الدكتور أحمد نظيف أم أنه خطأ إسماعيل باشا أو الرئيس مبارك.. وهكذا.. بات من الضرورى أن نعيد ترتيب كل الأوراق من جديد ونتأمل كل ما مضى بكثير من الهدوء والصبر والحكمة والإصرار على التغيير لأن خمسة وأربعين ألف يوم تكفى جدا لأن تكون دافعاً حقيقياً للتغيير والقضاء على كل هذا الجمود وكل هذه الفوضى.
أول هذه الأوراق التى تحتاج إلى ترتيب، هو فكرة الحكومة نفسها.. ولعله من المناسب هنا التوقف عند فكرة الحكومة نفسها.. وأول ما يسترعى الانتباه هو أن الحكومة كانت اختراعاً لم تعرفه مصر إلا متأخراً جداً.. فمصر.. كأقدم دولة فى التاريخ.. لم تعتقد أبدا أنها تحتاج إلى حكومة.. ولم يبد أنها مقتنعة بهذه الفكرة أصلاً.. وما الداعى لمثل هذا الاختراع.. فالسلطة التى تمثلها الدولة يمكن جداً اختصارها فى فرعون أو حاكم أو إمبراطور أو والى أو باشا أو سلطان أو ملك أو رئيس جمهورية.. ومعه كثير من المعاونين الذين تختلف درجاتهم وأدوارهم وأهميتهم أيضا سواء كانت أهمية مناصبهم أو أهمية شخوصهم.. وهكذا عاشت مصر كثيراً وطويلاً.. وحين جرت الأزمان والفصول وبدأت مصر، مع العالم كله حولها، السعى وراء حياة جديدة ومختلفة.. بدأ هناك تغيير حقيقى يسرى فى أوساط السياسة المصرية وفى مفهوم السلطة المصرية للسلطة وللإدارة.. ففى عام 1805.. بدأ زمن محمد على فى مصر.. وحتى ذلك التاريخ.. كان السلطان العثمانى فى اسطنبول يرسل إلى الوالى التركى فى مصر 24 بيك، يتولون إدارة المصالح الحكومية فى مصر.. وهو ما كان ضمنيا يعنى الحكومة التى تدير شئون الأمة وأحوال الناس فى مصر.. ولكن مصر مع محمد على لم تعد ولاية عثمانية.. ولم يعد محمد على مستعدا لأن يستقبل البكاوات القادمين من اسطنبول لإدارة شئون البلاد.. فكان هو صاحب الخطوة الأولى.. وأنشأ جهازا إداريا جديدا اسمه الدواوين.. وفى عام 1825.. أصدر محمد على الأمر العالى بإنشاء المجلس العالى الذى ضم ديوان الخديو.. وديوان الإيرادات.. وديوان الجهادية.. وديوان البحر.. وديوان المدارس.. وديوان الأمور الإفرنجية والتجارة.. وديوان الفابريقات أى المصانع.. وكانت هذه الدواوين هى أول نواة لأول نظام حكومى فى مصر.. وكان لكل ديوان رئيس يدير شئونه أصبح يعرف فيما بعد باسم ناظر الديوان.. وكلمة ناظر كلمة عربية وتعنى إشراف أو إدارة.. وسرعان ما بدأت هذه الدواوين تتحول إلى نظارات.. أى وزارات.. وهى كلمة فارسية.. فالوزير باللغة الفارسية هو الناظر باللغة العربية.. فتأسست نظارة الأشغال العمومية عام 1864.. وتأسست نظارة الحقانية عام 1872.. وتحول ديوان الخديو إلى نظارة للداخلية.. وتحول ديوان الأمور الإفرنجية إلى نظارة للخارجية.. وهو ما يعنى أن مصر امتلكت النظار.. أى الوزراء.. أولاً.. ثم غيرت الدواوين إلى نظارات.. أى وزارات.. وهى بعد لا تملك الحكومة ولا تشعر أنها فى حاجة إلى مثل هذه الحكومة.. فالنظار بدواوينهم أو وزاراتهم.. يتبعون الوالى مباشرة.. أو الباشا.. ويخضعون لسلطاته ويسعون جاهدين لتنفيذ أوامره أو طموحاته.. حتى جاءت اللحظة الفارقة التى تعين فيها على مصر أن تملك حكومة لأول مرة فى تاريخها الطويل.
فى تلك اللحظة.. لم يعد محمد على هو صاحب السلطة فى مصر.. وإنما الخديو إسماعيل.. ونتيجة لطموحات وجموح وأحلام مشروعة ونزوات غير ممكنة للخديو.. سقطت مصر فى شباك الديون التى تنتقص من السلطة ومن السيادة وفقا لأى مفهوم سياسى أو اقتصادى.. وكانت الديون كلها لأوروبا التى شكلت صندوقا للدين ولجنة تحقيق عليا برئاسة اللورد ديليسبس ونائبه ويلسون.. وانتهت اللجنة فى عام 1868 إلى ضرورة تقييد السلطة المطلقة للخديو فى إدارة شئون البلاد وتأسيس حكومة مستقلة عن الخديو لإصلاح الأوضاع المالية والإدارية فى البلاد.. ولم يكن الخديو إسماعيل.. بكل ما يمنحه التراث السياسى المصرى منذ زمن الفراعنة من سلطة ونفوذ.. ليقبل فكرة تأسيس مثل هذه الحكومة فى مصر.. وقد حاول الرجل واجتهد وفكر ودبر وسعى للهروب من هذا المأزق التاريخى.. إلا أن ديونه وقيوده وعثراته لم تسمح للرجل بكثير من الوقت أو بقليل من ترف السلطة والقدرة على الرفض.. فجاء يوم الثامن والعشرين من شهر أغسطس عام 1878 ليوقع الخديو إسماعيل الأمر العالى بتأسيس أول حكومة مصرية.. وقد بدت المرارة واضحة.. والهزيمة مؤكدة.. حين ذهب القنصل الإنجليزى لتهنئة خديو مصر بتشكيل أول حكومة مصرية.. فقال له الخديو إسماعيل هذه العبارة الخالدة: «إننى منزعج من التنازلات التى قدمتها والتضحيات التى ضحيتها ولكن لعلمى بأنها ضرورية فقد قبلتها بدون أسف رغم أنها تكلفنى خسارة كبيرة فى سلطتى وهيبتى كما أنها تكلف عائلتى أملاكها».
هذا بالضبط هو ما أردت التوقف عنده كثيراً وطويلاً.. المعنى وليس مفردات اللغة التى استخدمها الخديوى وهو يعرب عن إحساسه ومشاعره.. فالحكومة فى مصر تأسست بضغوط أوروبية.. ولم يكن تأسيسها يوافق هوى الحاكم فى مصر.. أوروبا أرادت ألا ينفرد الحاكم فى مصر بسلطة مطلقة.. والحاكم شعر أن الحكومة ستقتطع جزءا من هيبته وسلطته.. وكما أكدت من قبل والآن.. لا تعنينى الكلمات ولا التعابير والألفاظ.. وإنما تعنينى المعانى.. وهذا التراث الذى أراه لا يزال حيا ونابضا حتى الآن.. حيث الحاكم - أى حاكم - فى مصر رافض لهذه الحكومة.. ويتخيلها تريد اقتطاع جزء من هيبته وسلطته.. وحيث كل حكومة تشعر أنها لا تملك أى قوى فى مواجهة الحاكم.. وطالما فقدت هذه الضغوط الخارجية الداعية لبقائها فمن الأصلح أن ترتدى بسرعة مسوح الدواوين التى كانت تعين محمد على فى إدارة شئون البلاد.. وهذه هى المسألة والمشكلة والحكاية كلها.. وبكل ذلك بدأت أول حكومة فى مصر.. وبدأ يمارس مهامه نوبار باشا كأول رئيس للحكومة فى مصر.. ولم تكن العلاقة بين نوبار باشا وبين الخديو صافية أو طبيعية.. أو حتى واضحة يحددها دستور أو قانون أو نظام جرى إقراره والاعتراف به واحترامه.. وإنما بقى نوبار باشا طول الوقت يعرف أنه رئيس للحكومة بضغوط إنجليزية وفرنسية.. وبقى الخديو إسماعيل طول الوقت يعرف أن فكرة الحكومة بأسرها مجرد أزمة عابرة ومحنة سرعان ما سيجرى تجاوزها وعبورها.. وهو ما جرى بالفعل.. ففى الثالث والعشرين من شهر فبراير عام 1879.. صدر الأمر العالى بإعفاء الحكومة من مهامها.. أى أن أول حكومة فى تاريخ مصر لم تدم أكثر من مائة وتسعة وسبعين يوما فقط.. وما يعنينا من ذلك كله أنه إذا كان الخديو إسماعيل قد أصبح أول حاكم فى مصر يضعف وتهتز هيبته وسلطاته إلى درجة أن يسمح بتأسيس أول حكومة فى تاريخ البلاد.. فإنه سرعان ما استرد هيبته وسلطاته وسمعته بأن جعل الحاكم يستطيع إبعاد أى حكومة لا توافق هواه ولا تنال رضاءه.. ومات إسماعيل فى العام التالى ليرث عنه توفيق مصر والحكم ولقب الخديو.. وفى الثامن عشر من شهر أغسطس عام 1879.. يصدر الخديو توفيق الأمر العالى بتشكيل خامس حكومة فى تاريخ مصر.. وكانت حكومة تضم ثمانية وزراء يتولى كل منهم وزارة واحدة.. ولكن بدون رئيس للوزارة.. وفى السجلات الرسمية المصرية نقرأ أنه بعد استعفاء حضرة دولتلو شريف باشا رئيس مجلس النظار.. ألغيت تلك الرئاسة وصدرت الإدارة السنية بأن يكون كل ناظر مسئولا عن جميع الأمور المختصة بنظارته.. ولو استكملنا القراءة فسنكتشف بسهولة أن الخديو توفيق قرر إلغاء منصب رئيس الحكومة.. فإن كان هناك إصرار على هذا المنصب فسيصبح الخديو توفيق نفسه هو رئيس الحكومة.. وهكذا اتضحت الصورة تماما.. وانتصر توفيق لوالده الخديو إسماعيل ولكل حكام وسلاطين وملوك ورؤساء مصر فيما بعد.. وبعد عام واحد فقط من ظهور منصب رئيس الحكومة لأول مرة فى مصر.. تحول هذا المنصب إلى مجرد منصب شرفى.. يمكن ويجوز الاستغناء عنه.. ويمكن للحاكم - أياً كان لقبه - أن يشغله بالإضافة إلى شئون وشجون وأعباء الحكم.. فالرئيس محمد نجيب تولى بنفسه رئاسة ثانى حكومة بعد قيام ثورة يوليو.. وجاءت أوقات تالية شغل فيها الرئيس جمال عبدالناصر والرئيس السادات منصب رئاسة الحكومة.. وكان تسويق ذلك سياسيا وإعلاميا يجرى تحت غطاء الحرب والاستعداد لها أو مهام وطنية رفيعة المستوى لابد من الاستعداد لها وبالتالى كان من المحتم أن يصبح الرئيس نفسه هو رئيس الحكومة.. وهو أغرب منطق يمكن قبوله لأنه بمنتهى البساطة يعنى عدم الاعتراف الرسمى والسياسى والإعلامى بمنصب رئيس الحكومة.. وبالتالى فإنه فى الأوقات العادية يمكن أن تكون هناك حكومة وأن يكون لها رئيس.. أما فى أوقات الشدة والأزمة.. فمن الجائز أن تبقى الحكومة.. ولكن يختفى هذا الهزل الذى هو رئاسة الحكومة ليتولى رئيس البلاد بنفسه كل الأمور.. نفس ما كان يريده الخديو إسماعيل الذى مات مقهوراً بسبب هذه الحكومة.. ونفس النظام الذى بدأه محمد على باشا.. دواوين متناثرة يقود زمامها الباشا شخصياً.
الشىء اللافت للانتباه أيضاً.. هو عدد الوزارات فى أى حكومة مصرية.. وإذا كانت الحكومة الأولى قد بدأت برئيس للحكومة ومعه ثلاثة وزراء فقط.. وعين فيما بعد وقبل مضى شهر واحد وزيرين غير مصريين.. فإن هذا الرقم لم يثبت أبداً على حال فى حكومات كل العصور والعهود التالية.. وبات من الممكن أن تختفى وزارات فجأة وتولد - أيضاً فجأة - وزارات جديدة.. ولا أحد يعرف لماذا اختفت تلك الوزارات ولا الدوافع والمبررات التى جاءت بهذه الوزارات الجديدة.. فالتجارة كانت أحيانا تابعة للصناعة وأحيانا أخرى وزارة قائمة بنفسها.. وأحيانا تصبح التجارة وزارتين مرة واحدة.. واحدة للتجارة الداخلية وأخرى للتجارة الخارجية.. وفجأة تصبح هناك وزارة للإرشاد القومى ولا يرى أحد تعارضا بينها وبين وزارة للثقافة.. وغالبا ما يحار المؤرخون لتحديد الفترات التى كانت هناك فيها وزارتان واحدة للتعليم وأخرى للتعليم العالى والفترات التى اندمجت فيها الوزارتان تحت اسم وزارة للتعليم.. وفجأة تصبح هناك وزارة لشئون رئاسة الجمهورية.. أو وزارة للسكان.. ووزارة للشباب تظهر أكثر من مرة وتختفى فجأة مثلما ظهرت.. وهو ما يعنى فى النهاية أن المسألة لم تنظر إليها الدولة فى مصر أبدا بالشكل الكافى ولا الاحترام اللازم لفكرة الحكومة ودورها هى ووزاراتها.. وأظن أن أحدا لن يعارضنى إن قلت إننا فى مصر لا نزال مأخوذين بهذا الإرث.. وأننا نتعامل مع أى حكومة وأى وزارة وكأننا لا نزال محبوسين داخل دائرة الانتقام لإسماعيل الذى أجبرته أوروبا على تشكيل الحكومة لأول مرة فى مصر.
وبإمكانى أن أسرد كثيراً من التفاصيل والوقائع والتناقضات والغرائب التى شابت التاريخ الحكومى فى مصر.. ولكننى كما سبق أن أشرت.. لسنا فى حصة للتاريخ ولا فى حلقة تليفزيونية عن غرائب وطرائف الدولة المصرية مع الحكومة.. وبالتالى فقد قررت.. غامرت وخاطرت.. بأن أفتح مثل هذا الملف الضرورى جداً.. والشائك جداً.. والغريب جدا.. وأدعو كل الناس لأن تشاركنى التفكير والبحث.. ومن ثم الإعلان والإقرار والاتفاق الواضح على دور محدد.. وسلطة واضحة وثابتة.. لأى حكومة فى مصر.. وأؤمن أن هذا هو الحل الحاسم لكثير من همومنا ومشكلاتنا.. حتى وإن كان حلا يتعارض مع إحدى أهم عاداتنا وطبائعنا العاشقة لأنصاف الحلول ولأنصاف الطرق وأنصاف المواجهة وأنصاف الحروب والمعارك.. وهو أيضاً حل صعب يتعارض مع غرامنا بالسهل والمتاح.. فليس فى مصر الآن - وسابقا أيضاً - ما هو أسهل من إعلان الحرب على الحكومة.. وشتيمتها والسخرية منها والانتقاص من أقدار ومكانة رئيسها ووزرائها.. أولا لأن هذه الحرب غالبا بدون أى تداعيات مزعجة أو عواقب مهلكة.. ولأنها ثانياً حرب ترضى الناس وتصادف هواهم وتعينهم على تحمل ما فى حياتهم وواقعهم من هموم وجروح.. وإذا كان الكثيرون قد سايروا هذه العادة وواصلوا الحرب على الدكتور أحمد نظيف وحكومته.. فإننى أستأذن الجميع الآن فى التوقف وأدعوهم كلهم لمراجعة النفس والأحوال والتاريخ والحاضر.. ليس دفاعا عن الدكتور أحمد نظيف وحكومته.. وإنما لأننا بالفعل لا نملك الأسس التى نستند إليها لتقييم أداء حكومة الدكتور نظيف ووزرائها.. والآن.. وبعد خمسة وأربعين ألف يوم.. جاء الوقت والأوان لأن نملك هذه الأسس.. ونملك حكومة نستطيع بالفعل أن نحاسبها.. أو نعقد عليها آمالا ورهانات.. وجاءت اللحظة التى يجب فيها على أقدم دولة فى العالم والتاريخ.. أن تملك حكومة.
لمعلوماتك...
◄2004 تولى الدكتور نظيف رئاسة الوزراء قادما من وزارة الاتصالات
◄1952 ولد الدكتور أحمد نظيف فى مدينة الإسكندرية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.