صدر للدكتور نشأت حسن الزهري،أستاذ الأثار المصرية القديمة بكلية الأداب بجامعة عين شمس كتاب "مناظر الملك والعائلة الملكية أمام المعبودات في مملكة كوش (نبته ومروي)،الذي يقع في ألف صفحة من القطع المتوسط،وقدم له عالم الآثار الجليل الأستاذ الدكتور علي رضوان رئيس جمعية الأثاريين العرب، وتوزيع المؤسسة المصرية للتسويق والتوزيع (إمدكو). الكتاب وهو الأول من نوعه في مجال آثار مملكة كوش السودانية التي كانت جزءا من الحضارة الفرعونية إبان عصري البطالمة والرومان، عبارة عن رسالة الدكتوراة التي نال بها الباحث درجة الدكتوراه من جامعة القاهرة،وتنقسم الرسالة إلى قسمين،الأول يتناول دراسة وتحليل المناظر ومحاولة تفسيرها ودراسة مغزاها الديني وأسلوبها الفني، وتتبعها منذ بدايتها في الحضارة المصرية القديمة،ويتناول الفصل الثاني مناظر التعبد المختلفة، مناظر الطقوس، ومناظر تقديم القرابين المختلفة، فيما يتناول الأخير دراسة فنية لبعض العناصر الهامة مثل التيجان والحلي والصولجانات والرموز والأسلحة وغيرها. أما القسم الثاني فيتناول دراسة للمناظر بترتيبها الزمني منذ الملك كاشتا وحتى نهاية مملكة مروي،واُلحقت بالكتاب اللوحات والأشكال لهذه المناظر. وفي هذه الدراسة الدقيقة التي بين أيدينا يتناول الدكتور نشأت الزهري موضوعا من أهم موضوعات الآثار والحضارة في كل من مصر والسودان ألا وهو ظهور الملك الكوشي أو أحد أفراد العائلة الملكية أمام المعبودات (متعبدا- مقدما للقربان- مؤديا لطقسة أو شعيرة بعينها- أمام المعبود أوزير في محكمة الآخرة ..........إلخ)، وبالطبع وكما جاء في الفصل الأول فإننا نسمع الكثير عن طبيعة هذه المعبودات التي صورت في تلك المناظر وعن دورهم وأهميتهم بالنسبة لموضوع الملكية المقدسة في بلاد كوش والذي كان ذا صلة وثيقة بما كان معروفا في معابد الكرنك ومدينة هابو والنوبة منذ عهود فراعنة الدولة الحديثة. وعلى صفحات كتاب "مناظر الملك والعائلة الملكية أمام المعبودات في مملكة كوش (نبته ومروي) سوف يستمتع القاريء بتتبع العديد من المظاهر الفنية، والتحليلات الدينية الخاصة بأمور التتويج، وعيد تجديد شرعية جلوس الملك الكوشي على العرش (الحب سد)، وتأسيس المعبد، وهز الصلاصل وإقامة عمود "جد"، وغيرها الكثير، حتى أن مناظر ضرب الأعداء التي عرفتها الحضارة المصرية منذ نهاية عصور ما قبل التاريخ ظلت مستمرة على جدران المعابد واللوحات. بل حتى في بعض المقابر الملكية في بلاد كوش فإننا نجد بعضا من المناظر التي نعرفها تقليدا باسم "الولادة المقدسة" للملك والتي كانت تأكيدا لشرعية جلوس الملك الكوشي على العرش. ويعد منظر رضاعة الملك الكوشي من الربة الأم واحدا من أهم طقوس التتويج. وبطبيعة الحال فلقد كان "آمون-رع" بالنسبة لهم هو الإله الرسمي للدولة الكوشية، وهو أساس قيام الملكية المقدسة على أرضهم. كذلك فلقد حظي المعبود "أوزير" بمكانة خاصة عندهم، كما لعبت الربة "نفتيس" (نبت-حت) ومعها المعبود "إنوبيس" (إنبو) دورا مهما في الطقوس الأخروية (سكب الماء مثلاً !) ناهيك عن مكانة زوجة "أوزيريس"(اوزير) الربة الكبرى "إيزيس" (إيسة) ودورها البارز في عقيدة الكوشيين، حتى أن صاحب هذه الدراسة يربط بينها وبين الدور الهام للملكة الأم (الكنداكة) والذي اشتهرت به بلاد كوش في العالم القديم. وكانت "إيزيس" هي أكثر المعبودات تصويرا في المناظر الكوشية وذلك من بعد ربهم الأكبر "آمون" الذي كان صاحب مكانة وقداسة لا تضارع ولا تقارن. وعموما فلقد حظيت الملكة الأم والزوجة الملكية في مملكة كوش بمكانة رفيعة هي الأخرى حتى أن طقوس التتويج كانت لا تتم إلا بتواجد ومشاركة الواحدة منهما أو كلاهما أحيانا. ويعتبر إعلاء منزلة الزوجة الإلهية لآمون التي كانت تمارس دورا ونشاطا دينيا يكاد أن يتطابق مع ما كان على الملوك أنفسهم أن يؤدونه أمام المعبودات، هو من أهم الأمور التي تميزت بها الأسرة الخامسة والعشرون الكوشية. وبالرغم من كل ذلك التواصل والإندماج الحضاري بين مصر الفرعونية وبلاد كوش في مرحلتي "نبتا ومروي"،إلا أن طابعا وأسلوبا خاصا ونكهة فنية محلية ظلت تنبعث من رحاب تلك الديار الجنوبية العامرة حتى أننا نجد المعبود المحلي "أبيدماك" يصير بالنسبة لهم رمزا وتجسيدا بديلا للملكة المقدسة، ولو أن ذلك كان مرتبطا بالقطع بالمعنى الدقيق لهيئة الأسد في الديانة الشمسية (قارن تصوير "أبيدماك" على هيئة ثعبان عظيم برأس أسد خارجا من زهرة اللوتس) حتى أن معبد "النقعة" - في شمال السودان- والذي كان مكرسا لهذا المعبود الكوشي قد وضعه في مكانة متساوية مع "آمون- رع". أما عن القلنسوة الخاصة بالملك الكوشي، والذي كان يضع حيتي الكوبرا على جبينه (واحدة بتاج الجنوب الأبيض والأخرى بتاج الشمال الأحمر)، فإنها صارت هي الأخرى تقليدا محليا شائعا حتى أن الجزء العلوي من لوحة عثر عليها بمعبد آمون بمنطقة جبل البركل (متحف السودان القومي- الخرطوم) تصور هذا المعبود وهو يقدم للملك "بعنخي" بيده اليمنى هذه القلنسوة (رمزا لمنحه شرعية الملك في الجنوب = أرض كوش)، وبيده اليسرى يعطيه التاج المصري الأحمر (رمزا لمنحه الشرعية ملكا على الشمال = مصر). يذكر أن جزيرة فيلة ( إلى الجنوب قليلاً من أسوان )تقوم بدور حلقة الوصل ومركز الالتقاء الحضاري بين مملكة الكوشيين وبين دولة البطالمة في مصر ثم الرومان من بعدهم،وتبعا لذلك فقد كان طبيعيا أن تظهر بعض التأثيرات الهلينستية في فنون مملكة "مروي". والمؤلف بهذا الجهد الكبير يقدم لمجال الدراسات الأثرية في مصر والسودان بصفة خاصة والمكتبة العربية بصفة عامة إضافة جديدة ومفيدة للغاية.