إذاعة السكة الحديد بمحطة مصر – رمسيس - تعلن عن قرب انطلاق قطار 979 المتجه إلى وجه قبلي - محافظة أسيوط - يبدأ المسافرون الرابضون على الرصيف في جمع أمتعتهم للحاق بالقطار لحضور أولى أيام رمضان مع ذويهم وأسرهم. نساء وشباب وأطفال وكُهل، الكل يهرول ناحية القطار ويبدأ في البحث عن العربة التي سيستقلها، جلبة تحدث داخل عربات القطار ومناوشات على أرقام الكراسي والعربات، داخل العربة يستند أصحاب الحظ التعس على الكراسي في الممر الفاصل بين الكراسي، فيما يجلس آخرون ويغطون في نعاس عميق تحت نسمات هواء المكيف، فيما ذهب الشباب إلى الفواصل بين العربات ليتمكنوا من التدخين دون أن يعترض عليهم أحد. عربات القطار مزدحمة، الفواصل الرابطة بينهم تحولت لسُكنة يفترشها المسافرون، بعضهم يجلس فوق أمتعته، وآخرون لم يتمكنوا من أن يجدوا لأنفسهم سوى موطأ قدم للسفر وقوفًا، ويتبادلون الأحاديث مع بعضهم البعض، فيما اشتبك آخرون لخلافات هندسية على المساحة المتاحة لوضع أقدامهم. رجل ستيني خط الشيب شعره، يرتدي بدلته الزرقاء، جسده المكتنز يجبره على أن يتحرك ببطء، ويتقلص حسب المساحة المتاحة له، وبصوت رخيم يصدح: «التذاكر يا أفندية». «عم أمجد» رجل ستيني، هادئ الطباع، بشوش الوجه، كمسرى درجة أولى ويعاونه اثنان آخران، أمضى نحو 35 عامًا في هيئة سكة الحديد - كمسري – يرتحل يوميًّا بين عربات القطار: «أنا عشت في القطر عمر فوق العمر». «أنا طول عمري بحب السفر والترحال، وظيفة كمسري ساعدتني إني أزور كل شهر على الأقل 7 محافظات وأبات فيهم ليلة على الأقل»، يقول عم أمجد. طريقة عمل «عم أمجد» مرهقة إلى أبعد حد، يبدأ رحلته الصباحية مع بزوغ أول شعاع شمس - حسب جدول القطارات – يجلس في كابينة القيادة يتبادل مع قائد القطار أطراف الحديث حتى يؤذن له بالخروج من المحطة منطلقة إلى وجهته. «مهمتي الإطلاع على تذاكر الركاب، وتغريم الذين لم يحجزوا مسبقًا، أبدأ من العربة الأولى ويرافقني فرد أمن شرطة في حال حدوث شغب من أحد المسافرين»، يقول عم أمجد. يتحرك «عم أمجد» ببطء، يرافقه فرد الأمن أينما تحرك، يبدأ في السؤال عن التذاكر وفي حال لم يجد مع أحدهم تذكرة ركوب القطار يطالبه بالدفع أو يتحفظ على بطاقته الشخصية أمين الشرطة المصاحب له. مع نهاية كل جولة يلتقي هو ومعاونوه في «كافيتريا» القطار، التي تعد مكتب التحقيقات الخاص بهم لكل من سولت له نفسه التهرب من دفع ثمن التذكرة: «أنا ماليش دعوة دة حق الحكومة، والحكومة مبتسيبش حقها». القانون دائمًا يطبق على الجميع إلا أن جلسة الكافتيريا تمثل جلسة صلح عرفية، أطرافها 3 معروفون «عم أمجد الكمسري، وأمين الشرطة، والمتهربون»، ويقف جمهور عريض داخل الكافتريا يشاهد مرافعة المتهرب لدفع الظلم عنه، فيما يمثل عم أمجد دور وكيل النيابة والقاضي في ذات الوقت، أما أمين الشرطة فهو يلعب دوره المعتاد في تقريب وجهات النظر. جلس «عم أمجد» خلف طاولة المشروبات داخل الكافتيريا، على يساره أمين الشرطة وفي مواجهته شباب لم يكمل بعد عامه العشرين، يسأله أمين الشرطة: «أنت مدفعتش ليه ثمن التذكرة»، فقال له: «أنا معييش فلوس»، فباغته أمين الشرطة بنظرة متفحصة قائلاً: «أومال راكب ليه طالما ممعاكش فلوس؟ ويطالبه بتقديم بطاقته له»، يجد في البطاقة مبلغ 20 جنيهًا، ينظر إلى «عم أمجد»، لينطق الأخير: «هات منهم 15 جنيه وخلي الباقي وينزل المحطة الجاية»، يتوجه المتهرب بالشكر إلى الكمسري الذي لعب دور «روح القانون». بجانب الشاب العشريني، وقف رجل بجلباب مهترئ، بجانبه زوجته المتشحة بالسواد وتحمل طفلها الذي لم يتجاوز عامين على كتفيها محتضناه بكلتا يديها، ينظر إليهم «عم أمجد»: «انتوا مقطعتوش تذاكر ليه، مش حرام عليكم تبهدلوا العيل اللي معاكم دة»، يجيب الأب: «ملحقناش يا باشا ومفيش مشكلة نقطع تذاكر بس متحاسبنيش على إني راكب المكيف، أنا عايز تذكرة من بتاعت الشعب الغلابة اللي زينا»، يبتسم عم أمجد ويوافق سريعًا دون تدخل من أمين الشرطة. يطلب «عم أمجد» من الكافتريا كوبًا من الشاي، وتباغته الذكريات التي حملها بعد العمل لما يزيد عن 35 عامًا في عربات القطارات المختلفة: «أنا فاكر في أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات كنت بطلع على سطح القطر عشان ألم فلوس من المسطحين فوقه، أنا مر عليا كتير أوي يا جماعة فمحدش يفتكر إنه هيضحك عليا أو يستغفلني، اطلب مني بالذوق وأنا هقف جنبك»، تلك كانت رسالة مررها الكمسري درجة أولى في القطار، للمتهربين الواقفين أمامه، في أثناء احتسائه كوب الشاي. يستكمل عم أمجد فرزه للمتهربين واحدًا تلو الآخر، يتعاطف مع أحدهم ويغضب على أحدهم، ويلجأ لتسليمه إلى أقرب مركز في حال فشل في الحصول معه إلى تسوية: «دة حق الحكومة أنا مقدرش أسيب حق الحكومة، أنا كل يوم بطلع عجز في الإيراد بدفعه من جيبي، هو أنا هصرف على هيئة السكة الحديد». يفتح عم أمجد قلبه ويبدأ بالحديث عن صعوبات واجهته في أثناء عمله، لحظات الفرح والحزن التي واجهت عائلته وأسرته الصغيرة، لحظات تمنى أن يكون بجانب زوجته أو أطفالها عند حدوثها : «أنا عندي أول ولد ليا ملحقتش ولادته، كانت أياميها التليفونات المحمولة مظهرتش - حتى لو ظهرت مكنتش هبقى من الناس الأغنيا اللي اشتروها - المهم كنت بكلم بيتي من تليفون في البيت اللي جنبنا، كان زمان الجيران لبعضيها بجد، وعرفت من جارتي إني مراتي ولدت وجابت ولد». ساعات تمر حتى وصل القطار إلى محطته الأخيرة، يهم الكمسرية الثلاثة إلى الخروج من القطار متجهين إلى مبنى الاستراحة: «بنقعد في الاستراحة لحد الساعة 11 بليل ونطلع مع القطر العائد إلى القاهرة وتستمر الحكاية».