عند الممر الضيق الواصل بين مدخل نادي مدينة "قليوب" الرياضي، والملعب الملحق به، وبينما كانت الفرق تتجهز للقاء المرتقب عصر الإثنين الماضي، بحث الخمسيني "سيد محمد" عن موضع قدم يكاشف به ساحة الملعب كاملا، الحرارة تضرب رأسه، وما زالت عيناه مثبتتين على النقطة ذاتها، حيث يستعد نجله "علاء" 34 صمت أذنيه وانقطع عن التكلم، جراء إصابته بحمى روماتيزمية، استشرت توابعها زاحفة نحو مراكز السمع والكلام بالمخ، أفقدته القدرة كليا على النطق والسمع، "ابني من وهو عنده نحو 4 سنين جت له حمى اتأخرنا في علاجه لحد ما لقيته فجأة مش قادر يتكلم وعرفت من خلال معهد السمع والكلام إنه هيبقى أخرس طول العمر، قررت من وقتها أعوضه وعلمته يلعب كرة من سن 6 سنوات"، يتحدث والد علاء أحد أفراد فريق الصم والبكم بكرة القدم بالقليوبية، والذي نجح وبعد نحو أربع سنوات في اللحاق بركب الدوري الممتاز للمرة الأولى، في انتظار اللقاء الأول بالموسم القادم. انطلقت صافرة بداية اللقاء، بين الفريق الأحمر والذي حمل اسم اللاعب "محمد صلاح" والأزرق الذي حمل اسم "ليفربول"، في إحدى مباريات الدورات الرمضانية التي ينظمها النادي بالتعاون مع قائد فريق الصم والبكم لكرة القدم بالقليوبية "محمد مدكور".. الصمت هو سيد المشهد، بعض الآباء تراصوا خلف مرمى فريق محمد صلاح، يتابعون بحذر ما يدور على أرض الملعب، يخرج أحدهم عن صمته قائلا: "البعض من ذوي الإعاقات والقدرات الخاصة علشان كدة الأهالي أحيانا بتحرص إنها تحضر".. المباراة تسير في طريقها الصحيح، فريق محمد صلاح يحرز الهدف الأول فالثاني ثم الثالت، تتعالى الصرخات التي تتبعها إيماءات بالرأس وأصوات يصدرها أحد أفراد الفريق الفائز، فيتفهم الجميع مغزاها، ملتفين حوله فرحين بالفوز. "أحسن ما في مباريات الصم إنها مفيهاش دوشة ورغي كتير.. الدنيا صيام"، عبارة أطلقها حارس النادي الذي اعتاد استقبال فريق الصم والبكم كل اثنين في تمام الرابعة عصرا، يعتبرها المباراة الأفضل على الإطلاق ضمن جدول الدورات الرمضانية الذي أقرته إدارة النادي، "أول ما بييجوا بعرفهم على طول يسلموا برأسهم ويقعدوا كلهم في جنب واحد لحين ما يبدأ الماتش". صيف عام 2015، وفي أحد مساجد مدينة القناطر الخيرية، كان اللقاء الأول بين أعضاء فريق الصم لكرة القدم، ومدربهم وأبيهم الروحي "محمد مدكور" الخمسيني الذي يعمل مدرسا بإحدى مدارس الصم والبكم بمدينة شبرا الخيمة، خطبة الجمعة كانت شارة البدء ونقطة الانطلاق، فمن خلال الحلقات التي كانت تتكون حول مترجم الإشارة "أحمد ممدوح" الذي تولى مهام ترجمة ما يلقيه الخطيب للمجموعة الحريصة على حضور كل خطبة دون انقطاع، كانوا في أول الأمر خمسة أشخاص، ثم بدأ العدد يزداد تباعا، أحدهم يخبر صديقه بوجود "أوبشن" الترجمة الجيدة لخطبة الجمعة: "كانوا بيبلغوا بعض إني موجود فبييجوا ومن خلال التجمعات في الخطبة وبعدها وخلق صداقات بينهم، اتخلقت الألفة والعشرة بين الناس دي وقدر كابتن محمد مدكور يكون فريقه"، يتحدث أحمد ممدوح مترجم الإشارة الخاص بالفريق والذي تطوع ليكون حلقة الوصل بينهم وبين عالمهم المحيط، لحين تعترف وزارة الشباب والرياضة بهم فتمدهم بمترجم خاص براتب ثابت. في بداية الأمر كان محمد مدكور قائد الفريق المكون من 50 فردا مقسمين إلى ثماني فرق، يشترك في الدورات الرمضانية ودورات الأقاليم بالقليوبيةوشبرا الخيمة وما يجاورها مع فريق منافس لكن فريقه كان يجد صعوبة في التعامل أثناء المباراة وبين الشوطين، لأن المنافسين كانوا خارج مربعهم الصغير وعالمهم الخاص، فكلما أرادوا التعبير عن استيائهم من أمر ما، لم يجدوا صدى لغضبهم عند الطرف الآخر، الأقوى بطبيعة الحال، الأمر الذي دفعه لتشكيل فريق متكامل من فئات الصم والبكم، ليصبح "أصم يلاعب أصم، لا متكلم لاعب أصم"، فتولد العراقيل وتعطل سير المباراة. وبالفعل نجحت التجربة والفريق الذي كان قوامه 11 فردا، أصبح مكونا من أكثر من خمسين شخصا من مناطق متفرقة بالبلاد، ما بين المنوفية والشرقية والقليوبية، تباينت أعمارهم وصورهم، لكن جمعهم عشق الساحرة المستديرة والحياة الاستثنائية التي يعيشونها. منذ تكوين الفريقين "أ" في القناطر و"ب" في قليوب، بات حلم الوصول للدوري الممتاز والسعي الدائب للفت أنظار "دنيا الرياضة" لهذا العالم الصغير، هما أهم ما يشغلان مدكور، كثف عدد المباريات التي يؤديها فريق الصم خلال شهر رمضان وما يليه، أصبح جدول المباريات متخما بالمواعيد الدورية، اللقاء يتجدد كل يومين على الأقل، أراد مدكور الذي حمل على عاتقه مهام إمداده بالأموال والملابس وتقديم الدعم المادي، بعد أن خصصت وزارة الشباب والرياضة بالتعاون مع جمعية الصم والبكم مبلغ 25 ألف جنيه مصروفات اللاعبين وبدلات انتقال بين الأندية ومراكز الشباب، وأحيانا تقدم كرواتب للاعبين، ولكن مع الزيادة المستمرة في عدد اللاعبين وثبات المبلغ المحدد، واجهت محمد مدكور مشكلة التمويل والنفقات، ما دفعه للاعتماد على المجهود والتمويل الذاتي لسد احتياجات فريقه، بعد أن تضاعفت بصعود فريق القناطر للدوري الممتاز مطلع العام الجاري. ترك مدكور بصمة في كل نادٍ تطأه قدماه في محيط محافظة القليوبية، فنادي قليوب كان أول عهد له بتنظيم مباريات الصم والبكم كان من خلال مبادرة "مدكور"، وسرعان ما وجد علاء وعبد المنعم وأقرانهما تحت قيادة محمد مدكور، موقعهم الثابت في جداول مباريات مراكز الشباب، في شبرا الخيمة والقرى المجاورة لمدينة قليوب ومحيط المطرية. "الجماعة دول تعرفهم من وسط مليون من أول ما يدخلوا النادي، الحماس بعيونهم دايما وكثيري الحركة في النادي خلال الساعتين المخصصتين للمباراة"، يقول أحد أفراد الأمن متفحصا الإيماءات التي يصدرها عبد المنعم وأصدقاؤه الملتفون حول جدول المباراة. ما زال مدكور مدركا وبوعي تام التدريبات والمجهود الذي لا بد أن يتضاعف عشرات المرات، حتى يستحق فريقه أن ينزل إلى ساحة المعركة مع أبناء الفرق والأندية الكبرى، فنواة عمله التي ألقاها في نادي القناطر منذ ثلاث سنوات بالكاد شارفت اليوم على تحقيق حلمها بالصعود للدوري الممتاز، أما بقية الفرق فأبناؤها إما حديثو السن أو قليلو الخبرة، الأمر الذي يتطلب منه المزيد من المحاولات مع الجهات المعنية بالأمر كجمعية الصم والبكم، لتوفير مدربين متخصصين ومترجم إشارة للفريق.