جمال حماد: جيش إسرائيل قوبل بأعنف حرب شعبية عرفها التاريخ « يا بيوت السويس يا بيوت مدينتي.. أستشهد تحتك وتعيشي إنتي» هكذا كان شعار السوايسة الذى طبقوه بالفعل يوم 24 أكتوبر 1973, حيث اعتبر المؤرخون العسكريون هذا اليوم ميلادا جديدا للسويس, مدينة البطولات والفدائيين , ولذا فقد اتخذت المحافظة من هذا اليوم عيدا قوميا لها تحتفل به كل عام. في يوم 20 أكتوبر 1973 كان التواجد الإسرائيلي غرب القناة كبيراً بعد استغلال الجيش الإسرائيلي لثغرة الدفرسوار، وتم تكليف فرقة (آدن) الإسرائيلية بالتقدم جنوبا إلى السويس، وكانت القوات المصرية قد نجحت في دحر الهجوم الإسرائيلي في اتجاه الإسماعيلية بواسطة اللواء 150 مظلات، واللواء 15 مدرعات, و تكبد العدو الإسرائيلي في ذلك اليوم خسائر فادحة، هي الأكبر طوال أيام حرب أكتوبر من حيث العتاد والأرواح, وكان القتال يدور بجميع الأسلحة من المدفعية إلى المدرعات ومن الصواريخ إلى الطيران. ولم يجد العدو امامه إلا استخدام أسلوب حرب العصابات التى يجيدها، وعلى الفور اندفعت أعداد قليلة من مدرعاته في كل اتجاه لتشتيت القوات المصرية, وفي اليوم نفسه قامت الفرقتان «آدان» و«ماهيه» الإسرائيليتان بالتقدم نحو السويس، وقطعتا طريق القاهرة-السويس. وفي اليوم التالي اتجه الجنرال «آدن» بفرقته المدرعة تجاه السويس، ومع حلول منتصف ليلة 22 أكتوبر صدر قرار مجلس الأمن رقم 338 بوقف إطلاق النار وكانت القوات الإسرائيلية وقتها على بُعد 35 كيلو مترا شمال السويس. التزمت مصر بقرار مجلس الأمن, لكن إسرائيل -كالعادة- بدأت في التحرك باتجاه السويس كآخر مكسب يمكن أن تحققه في الحرب. وعن هذا الحديث يقول المشير محمد عبد الغنى الجمسى, رئيس هيئة العمليات بحرب أكتوبر 1973 فى مذكراته: حاول لواءان من فرقة أدان المدرعة اقتحام المدينة من الشمال والغرب بعد قصف بالمدفعية والطيران مدة طويلة لتحطيم الروح المعنوية للمقاتلين داخل المدينة, ودارت معركة السويس اعتبارا من 24 أكتوبر بمقاومة شعبية من أبناء السويس مع قوة عسكرية من الفرقة 19 مشاة داخل المدينة. ويحكي الجمسي في مذكراته قائلاً: يصعب على المرء أن يصف القتال الذى دار بين الدبابات والعربات المدرعة الإسرائيلية من جهة وشعب السويس من جهة أخرى وهو القتال الذى دار فى بعض الشوارع وداخل المبانى, وبجهود رجال السويس ورجال الشرطة والسلطة المدنية مع القوة العسكرية ، حيث أمكن هزيمة قوات العدو التى تمكنت من دخول المدينة، وكبدتها الكثير من الخسائر بين قتلى وجرحى, وظلت الدبابات الإسرائيلية المدمرة فى الطريق الرئيسى المؤدى إلى داخل المدينة شاهداً على فشل القوات الإسرائيلية فى اقتحام المدينة والاستيلاء عليها. ويقول المؤرخ العسكرى جمال حماد فى كتابه «المعارك الحربية على الجبهة المصرية:»: كان معظم سكان مدينة السويس قد تم تهجيرهم إلى خارج المحافظة، منذ ان بدأت معارك حرب الاستنزاف عام ,1968 ولذا لم يكن داخل المدينة عند نشوب حرب أكتوبر 73 سوى عدد قليل، لا يتجاوز خمسة آلاف فرد، كان معظمهم من الجهاز الحكومى ورجال الشرطة والدفاع المدنى وموظفى وعمال شركات البترول والسماد بالزيتية» ويصف «حماد» بطولة أهالي السويس فيقول:» جاء يوم 23 أكتوبر ليحمل فى طياته إلى السويس أسوأ النذر, فقد قامت الطائرات الإسرائيلية ظهر ذلك اليوم بغارات وحشية على شركة النصر للأسمدة، مما أشعل الحرائق فى كثير من أقسامها، وأصاب القصف الجوى أيضا مبنى الثلاجة الرئيسية على طريق عتاقة, ولم تكتف القوات الإسرائيلية بالحصار البرى الذى ضربته على السويس، بقطع كل الطرق المؤدية إليها، ولا بالحصار البحرى بقطع الطريق المائى المؤدى إلى الخليج والبحر الأحمر، بل عمدت إلى توجيه أقسى أساليب الحرب النفسية ضد سكانها، وبغير شفقة ولا رحمة بقصد ترويعهم والضغط على أعصابهم لحملهم على التسليم واستطرد حماد ولهذا قامت بقطع ترعة السويس المتفرعة من ترعة الإسماعيلية، والتى تغذى المدينة بالمياه الحلوة ، ودمرت شبكة الضغط العالى التى تحمل التيار الكهربائى من القاهرة إلى السويس، وقطعت بعد ذلك اسلاك الهاتف التى تربط المدينة بالعالم الخارجى, وكانت القيادة الإسرائيلية على يقين بأن أهل السويس سوف يقابلون دباباتها ومدرعاتها بالأعلام البيضاء حال ظهورها فى الشوارع، بعد أن أصبحوا فى هذه الظروف المعيشية التى لا يمكن لبشر أن يتحملها، فلا مياه ولا طعام ولا كهرباء ولا معدات طبية أو أدوية للمرضى والمصابين، ولا اتصالات هاتفية مع الخارج», وهو ما حدث عكسه وقوبلت بأعنف حرب مقاومة شعبية عرفها التاريخ. ويقول اللواء جمال حماد: « فى مساء يوم 23 أكتوبر وعقب حصار المدينة كلف العقيد فتحى عباس مدير مخابرات جنوب القناة بعض شباب منظمة سيناء بواجبات دفاعية وزودهم ببعض البنادق والرشاشات ووزعهم فى أماكن مختلفة داخل المدينة بعد أن ابقى بعضهم كاحتياطى فى يده تحسبا للطوارئ, ولم يغمض لهم جفن طوال ليلة 23 / 24 أكتوبر، فقد خططوا لعمل عدة كمائن على مدخل السويس لملاقاة العدو، وعندما نادى المؤذن لصلاة فجر يوم 24 أكتوبر اكتظت المساجد بالناس، وفى مسجد الشهداء بجوار مبنى المحافظة أم المصليين الشيخ حافظ سلامة رئيس جمعية الهداية الإسلامية وقائد المقاومة الشعبية آنذاك والحاصل على وسام بذلك من الرئيس السادات , وعقب الصلاة ألقى المحافظ بدوى الخولى كلمة قصيرة أوضح فيها للناس أن العدو يستعد لدخول السويس، وطالبهم بهدوء الأعصاب، وأن يساهم كل فرد بما يستطيعه، واختتم كلمته بالهتاف « الله أكبر» وارتفع الدعاء من أعماق القلوب إلى السماء. وفي اليوم نفسه أصدر مجلس الأمن قراراً ثانياً بوقف إطلاق النار على أن يبدأ سريانه اعتباراً من السابعة صباح 24 أكتوبر, وابتداء من الساعة السادسة صباحا بدأت الطائرات الإسرائيلية قصف أحياء السويس لمدة ثلاث ساعات متواصلة فى موجات متلاحقة وبشدة لم يسبق لها مثيل، وكان الغرض هو تحطيم مراكز المقاومة داخل المدينة والقضاء على اى تصميم على القتال لدى أهل السويس رغم أن أهل السويس كانوا صائمين فى هذا اليوم من شهر رمضان المبارك، لكن لم يشعر بالجوع أو العطش ولم يهتم بتناول طعام أو شراب إلا القليل، فقد كانت المعركة ضد الاعداء هى محور اهتمام جميع أهالي السويس، وعندما سرت فى المدينة أنباء النصر خرج أهل السويس جميعاً إلى الشوارع يهللون ويكبرون ويشهدون فى فخر واعتزاز مدرعات العدو المحطمة التى تناثرت على طول شارع الأربعين، وكان عددها نحو 15 دبابة وعربة مدرعة نصف جنزير. وقام محمود عواد من أبطال المقاومة الشعبية بسكب كميات من البنزين عليها عند منتصف الليل وأشعل فيها النار خشية أن يقوم الإسرائيليون بسحبها, وقام المحافظ بدوى الخولى بالاتصال ظهر يوم 24 أكتوبر بعد انتهاء معركة ميدان الأربعين بالرائد شرطة محمد رفعت شتا قائد الوحدة اللاسلكية وطلب منه إبلاغ القاهرة بأنباء المعركة وبتحطيم 13 دبابة وعربة مجنزرة للعدو, وهنا صدر البيان العسكرى رقم 59 فى الساعة الرابعة مساء يوم 24 أكتوبر الذى يتضمن أنباء معركة السويس.