لا صوت يعلو على صوت الدستور فى كل بيت فى مصر .. الجميع يتحدثون .. يتناقشون .. يتجادلون .. يختلفون ويتفقون ، ويتصارعون ، غير أن الحقيقة المرة هى أن أحدا لم يقرأ مسودة الدستور بالكامل، ولم يحصل على فرصة جيدة لقراءتها وفهم موادها وما بين سطورها، رغم اقتراب «موقعة الاستفتاء» على مشروع الدستور أو ما يطلق عليه «موقعة الصناديق الثانية». مسودة الدستور، التى من المقرر أن يتم استفتاء الشعب عليها فى 15 ديسمبر الجار وأقرتها – بليل - جمعية تأسيسية تهيمن عليها جماعة الإخوان المسلمين، وحلفاؤها من السلفيين والجماعات الإسلامية، والأحزاب التى تدور فى فلكها، جاءت غير معبرة عن أطياف المجتمع وقواه الوطنية والطوائف المسيحية بأنواعها الثلاث: الأرثوذكسية والكاثوليكية والانجيلية . والمفارقة أن «دستور الإخوان» الذى يأتى بعد ثورة 25 يناير العظيمة التى استشهد وأصيب فيها الآلاف من خيرة شباب مصر من أجل الحرية والحياة الكريمة، يؤسس ل «دولة الميليشيات» فقد جعل حماية الأخلاق حق للمجتمع وليس الدولة وحدها، ما يتيح للجماعات المتطرفة وما تسمى جماعة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ممارسة «الحسبة الدينية»، وهو الأمر الذى يهدد مدنية الدولة وينذر بتصاعد العنف الديني. وقد أبدت كثير من فئات المجتمع تحفظها على مشروع الدستور، الذى أصر المستشار حسام الغرياني على تمريره فى ليلة واحدة، فالقضاة يرون أنه يهدر استقلال السلطة القضائية ويعطى الحق للسلطتين التشريعية والتنفيذية للتدخل فى أعمال القضاء، وعزل وتعيين القضاة فى مخالفة ضارخة لمبدأ الفصل بين السلطات والمبادىء الدستورية المتعارف عليها عالميا، كما يرى القضاة أن هناك مواد خطيرة تعصف بالقانون وأن بعضها تم «تفصيله» على مقاس أشخاص بعينهم، ومنها المواد الخاصة بالمحكمة الدستورية العليا التى تبيح عزل عدد من قضاتها خاصة المستشارة تهانى الجبالي . أما السياسيون وقيادات الأحزاب والشخصيات الوطنية فيرون أن مشروع الدستور الجديد يجعل من الرئيس فرعونا مستبدا أو «حاكما بأمره» لا معقب لقراراته، ولا راد لأمره، مؤكدين أنه يعصف بحقوق وحريات المواطنين ، ويعيد إنتاج نظام ديكتاتورى يتسم بالفاشية الدينية التى تهدد مصر وطنا وشعبا. ويرفض الصحفيون المواد الخاصة بالصحافة والحريات، وخاصة أن مشروع الدستور ينص على غلق الصحف بأمر قضائي، ما يعد ردة إلى عصر ما قبل مبارك، كما يتيح حبس الصحفيين وإغلاق القنوات الفضائية فضلا عن عدم النص على أن الصحافة سلطة شعبية رابعة خلافا للدساتير المصرية السابقة التى نصت على أن الصحافة سلطة شعبية حيث تم وضع باب كامل لها في التعديلات الدستورية التي تمت في أوائل ثمانينيات القرن الماضي، ومنها على سبيل المثال القانون رقم 148 لسنة 1980 والذي نص في أولى مواده «على أن الصحافة سلطة شعبية تمارس رسالتها خدمة للمجمتع وليس خدمة لأصحاب المهنة «. فيمايري فقهاء الدستور أن كثيرا من مواد هذا المشروع غير دستورية بطبيعتها، مشددين على أنه كان يجب ألا يتضمن إلا ما هو دستوري بطبيعته، لأن الدستور كوثيقة تحدد الحقوق والحريات العامة والنظام السياسي واستقلال القضاء، وماعدا ذلك يترك للقوانين المكملة للدستور . وأوضحوا أن المادة 145من المسودة تعطي لرئيس الدولة الحق في تعديل الحدود بعد موافقة البرلمان، وتعد مصدر خطورتها أنها تدور حول أرض سيناء، كما أنه لم يحدث في تاريخ أي دستور في العالم أن يعطى لرئيس الدولة حق التنازل عن قطعة من أرض الوطن بموافقة البرلمان. وأشاروا إلى أن نصوص المسودة تسمح بأن يكون الرئيس متجنسا بجنسية أجنبية، موضحين أن هذه أخطر مادة ولم تحدث في أي دستور في العالم أن يباح لأي مواطن يكون جده أو أجداده أو جدته متجنسين بجنسيات أخري. الفلاحون والعمال لديهم أيضااعتراضات عديدة على مشروع الدستور، فهم يرون أنه يسقط حقوقهم ومكتسباتهم التى حققوهابالعرق والكفاح والدم على مدار عقود عدة، فطبقا لمسودة الدستور الجديد سيتم إسقاط نسبة ال 50 % عمال وفلاحين فى البرلمان بعد دورة واحدة مدتها 5 سنوات . مشروع الدستور الجديد لا يعترف أيضا بأن المرأة نصف المجتمع، فهو يهدر الكثير من حقوقها، وهذا ما دفع المجلس القومي للمرأة للتعبيرعن استيائه الشديد إزاء عدم تضمن مسودة الدستور عددا من النصوص والمواد الأساسية التي تكفل حماية حقوق المرأة والطفل. وأكد المجلس أن الدستورالجديد لا يتضمن التزاما من الدولة باحترام الاتفاقات والمعاهدات الدولية التي صدقت عليها فيما يخص المرأة والطفل، والنص على التزام الدولة بإنشاء آلية وطنية لمراقبة عدم التمييز. والغريب أن تيار السلفية الجهادية أصدر بيانا علق فيه علي مواد الدستور الجديد تحت عنوان « شرع الله فوق الدستور « أوضح فيه ان من ما يقرب من 52 مادة مخالفة للشريعة الإسلامية،وقواعدها الحاكمة، متهما جماعة الإخوان المسلمين بأنها تنازلت وباعت قضية « الشريعة الإسلامية» التي يتشدقون بها، لصالح قلة من العلمانيين والأقباط لمحو فكرة التشدد والعنف عنهم !! كما أبدي العديد من دعاة الأزهر ووزارة الأوقاف رفضهم لهذا المشروع، مؤكدين أنه تجاهلهم تماما ولم يعطهم أى حقوق، لمصلحة الإخوان والسلفيين والمتشددين الذين يصرون على إبعادهم عن ساحة الدعوة للسيطرة على المساجد والمؤسسة الدينية بالكامل. كل هذا الرفض لمشروع الدستور من فئات كثيرة فى المجتمع، يؤكد أنه دستور لا يراعي مصالح البلاد والعباد، أو بالأدق «دستور ضد الدين» – فأيما كانت مصلحة البلاد والعباد كانت الشريعة . «فيتو» تقدم فى هذا الملحق قراءة دقيقة لمواد الدستور من خلال مجموعة من اللقاءات والحوارات مع عدد من السياسيين، والقضاة، وفقهاء القانون الدستورى، وقيادات حزبية، وعمالية، وفئات أخرى من المجتمع.