بينما كانت مصر قابعة تحت الاحتلال، كان هناك صحفيون شرفاء وهبوا أقلامهم للدفاع عن القضايا الوطنية ومناهضة غطرسة المحتل بالكلمة، ومن بين هؤلاء كان الثائر المناضل عبد الله بن مصباح الشهير بعبدالله النديم المولود عام 1854 بحى المنشية بالإسكندرية، ظهر ولعه بالصحافة والخطابة منذ صباه، عمل بالتجارة، وفى أواخر عهد الخديو إسماعيل انضم إلى جماعة مؤسسى مصر الفتاة، وبدأ يكتب في صحيفتى "مصر" و"الصباح"، ثم أسس مع أقرانه جمعية لترقية الفكر ونشر العلوم باسم (الجمعية الخيرية الإسلامية ). حين جاء جمال الدين الأفغانى إلى مصر التف حوله النديم ولازمه أربع سنوات، بعدها بدأ النديم انطلاقته الصحفية والوطنية بإصدار مجلة "التنكيت والتبكيت " في يونيو 1881 وهى صحيفة أسبوعية أدبية هزلية عالج فيها العيوب الاجتماعية المنتشرة في المجتمع، وكان يعرض النصيحة في صورة قصة والعبرة في شكل نكتة، وتصدى على صفحاتها لموضة الفرنجة في العادات والتقاليد والملابس. اتجه النديم إلى الخطابة السياسية يشعل الجماهير وطنية وحماسة ويملأها ثقة وقوة، وأغلقت الجريدة في أكتوبر 1881. ولما ظهرت في الأفق بوادر التدخل الأجنبى في شئون البلاد أصدر جريدة "اللطائف" لتكون لسان حال الثورة العرابية فحمل مطبعته وذهب خلف المقاتلين في الجبهة يصدر جريدته فكان بحق قلم الثورة ولسانها والمسئول الصحفى عنها، حتى أنه بعد دك الإنجليز للإسكندرية انتقل مع عرابى إلى التل الكبير ومنها إلى القاهرة.. وكان احتشاد المصريين خلف عرابى في ميدان عابدين أكبر شاهد على قدرة النديم على الوصول بخطاب الثورة إلى الطبقات الشعبية والأحداث التي تطورت بعد ذلك إلى حد الهتاف بإسقاط الخديو. وفى سبتمبر 1882 دخلت بريطانياالقاهرة ورفع النديم شعار عدم الاعتذار عن الثورة وعدم الاستسلام وألقى بالمسئولية على الاحتلال والخديو توفيق وأبرأ ساحة عرابى والعرابيين، وانتهى الأمر بالقبض على عرابى ورفاقه واعتقال 30000 من المؤيدين لعرابى وهرب النديم إلى الأرياف وسط الفلاحين في بنها ثم قرية ميت الغرقى بالغربية. رصدت الحكومة مكافأة 1000 جنيه لمن يقبض عليه بعدما حكمت عليه بالنفى خارج البلاد غيابيا، وبينما كان هاربا عرفه مأمور المركز واتجه إليه وقال له لا داعى للتنكر واذهب في حفظ الله آمنا وأعطاه ثلاث جنيهات تعينه على الهرب، ثم آوى إلى بيت سيدة نبيلة هي وزوجها وأولادها أربع سنوات. لكن اشتبه فيه حسن الفرارجى، أحد العاملين بالبوليس السرى المحال إلى المعاش، فأبلغ السلطات طمعًا في المكافأة وصدرت الأوامر بالقبض عليه بعد تسع سنوات اختفاء، وعرض على التحقيق في طنطا وكان رئيس النيابة هو قاسم أمين، وكان أول ما اهتم به النديم في التحقيقات هو قوله إن كل الذين آووه وقدموا له المساعدة لم يعرفوا أنه هو عبدالله النديم. أمر الخديو توفيق بنفيه خارج البلاد خوفا من تأثيره في إشعال الحركة الوطنية فاختار النديم يافا واستضافه هناك السيد على أبو الدهب مفتى يافا، وبعد وفاة توفيق أصدر الخديو عباس حلمى عفوا عن النديم فعاد إلى مصر في 9 مايو 1892، وانطلق يشعل الحركة الوطنية بالخطابة والكتابة وينبه إلى خطر روح الاستسلام الذي خيم على الأمة داعيا إلى الوحدة في مواجهة الاستعمار الغربى. يعد النديم أول من رفع شعار مصر للمصريين وترك بذوره الثورية في جيل مصطفى كامل حتى أنه أصبح المصباح المضيء في ليل الاحتلال، خاصة بعد إصداره مجلة الأستاذ التي تحولت إلى صحيفة سياسية، مما دفع اللورد كرومر إلى إغلاقها عام 1893، ونفى النديم مرة أخرى إلى القسطنطينية بأمر السلطان العثمانى عبد الحميد مع منعه من كتابة أي شيء عن الشئون المصرية. أصابه مرض السل وتمكن منه حتى توفى في أكتوبر 1896 وشيع جثمانه رسميًا يتقدمها جمال الدين الأفغانى ودفن في تركيا ونعاه كرومر بقوله (لم تكن الوطنية لدى النديم شعارا إنشائيا، وإنما كان نضالا وحركة على أرض الواقع وكان يحذر من التعصب للعنصرية والدين وأثرهما الوبيل في وحدة الصف.