نيران على الجبهات.. إطلاق صواريخ لإضعاف العدو.. دماء تسيل وشهداء يسقطون ثمنًا لتحرير أراضى وطنهم الغالي.. كانت تلك المشاهد تلخص حقيقة الأوضاع على الأرض في حرب الاستنزاف التي شهدتها سيناء، والتي سال على أرضها دماء الآلاف من أبناء وجنود مصر البواسل الذين قدموا دروسًا للعالم أجمع في التفانى في حب الوطن، فهى ملحمة بطولية رائعة في تاريخ الجيش والشعب المصرى، الذي ساند قواته المسلحة ماديًا ومعنويًا خلال ثلاث سنوات ونصف السنة. تحمل الجيش المصري تبعات هزيمة يونيو 1967 بشجاعة وصمود وإيمان بالقدرة على تحويل تلك النكسة إلى انتصار والثأر من العدو وإزالة آثار تلك النكبة، وبالفعل بعد أيام على تلك الكارثة العسكرية، أعطى عبد الناصر أوامره ببدء العمليات العسكرية بين القوات المصرية شرق قناة السويس والقوات الإسرائيلية المحتلة لمنطقة سيناء. ونفذ الجيش المصرى العديد من العمليات العسكرية التي كبدت العدو خسائر من الجنود والضباط والمعدات جعلته يشهد للقوات المصرية بالكفاءة والشجاعة بل التفوق العسكري، حيث اعتمدت خطة الحرب على نقاط القوة لدى الجانب المصري، والتركيز الحاسم ضد نقاط الضعف والمراكز الحساسة لدى العدو، لتغيير موازين القوى، وأن تتناسب مكاسب الاستنزاف مع تكاليف وردود أفعال العدو للحصول على أكبر قدر من الخسائر، كما اعتمدت على تشتيت انتباه العدو ومجهوده إلى أكثر من اتجاه. ومرت مصر بعدة مراحل خلال فترة الحرب التي استمرت ستة سنوات أو كما يسميها العدو الإسرائيلى "حرب الألف يوم"، أولها مرحلة الصمود، والتي كان الهدف منها هو سرعة إعادة البناء للجيش المصري، ووضع الهيكل الدفاعي عن الضفة الغربية لقناة السويس، من ثم انتقلت بعدها القوات المسلحة المصرية إلى مرحلة الدفاع النشط، ثم تطور القتال إلى مرحلة جديدة أطلق عليها الاستنزاف لتصل الحرب إلى ذروتها في عام 1973. عقب نكسة يونيو تعرض الجيش المصري لحملة انتقادات شعبية لاذعة وسخرية مما اضطر الرئيس جمال عبد الناصر للطلب من الشعب التوقف عن حملته مذكرًا أن الجيش يبقي أمل الأمة، حيث كشفت هذه الهزيمة عن كثير من أوجه القصور في هيكلة وصفوف القوات المسلحة المصرية بشكل عام وفي القوات التي تتولي مهام الدفاع الجوي بشكل خاص. وبدأت هذه المرحلة بلقاء بين عبد الناصر والفريق أول محمد فوزي في11 يونيو1967، ولقد تم الاتفاق في هذه الجلسة أنه من المصلحة ألا نثير العدو في هذه المرحلة، بحيث أن نبقي سلبيين، ومن يفتح النيران على الخط الأمامي غرب القناة يحاكم محاكمة عسكرية، وقد وقع الفريق فوزي منشورًا بذلك، إلا أن الجنود في منطقة الشط شمال السويس لم يستطيعوا تنفيذ هذه الأوامر وكانوا يوجهون أسلحتهم في اتجاه أي إسرائيلي على الضفة الأخرى للقناة ولم تستطع القيادة العسكرية إيقاف هذا الأمر بعد ما حدث في يونيو1967. وبدأت المناوشات بين الجانبين بعدة معارك أولها معركة "رأس العش"، والتي وقعت أحداثها يوم 1 يوليو1967، وتعتبر الشرارة الأولى للحرب، عندما حاولت المدرعات الإسرائيلية احتلال مساحات أوسع من أرض سيناء، حيث تحركت قوات العدو من القنطرة في اتجاه ميناء بور فؤاد، فصدتها عن المدينة قوة من الصاعقة المصرية. وأثار نجاح القوات المصرية في تلك المعركة مشاعر المقاتلين المصريين الموجودين على طول خط الجبهة حمية وحماسًا واستعدادا للمواجهة المنتظرة لطرد العدو شر طردة من البلاد. نفذت القوات الجوية المصرية طلعات هجومية جريئة ضد القوات الإسرائيلية في سيناء، يومي 14 و15 يوليو، أحدثت فيها خسائر فادحة، أدت إلى فرار بعض من الأفراد الإسرائيليين من مواقعها. حيث قامت القوات المصرية بإطلاق مدفعية عنيفة على طول الجبهة وذلك بعد اشتباكات مع العدو في الجنوب في اتجاه السويس والفردان وقد كان ذلك تمهيدًا لطلعة طيران قوية، حيث خرجت القوات الجوية بكاملها وهي تضرب في الشمال فتحول العدو بقواته إلى الجنوب وترك الشمال بغير غطاء فانطلق الطيران المصري إلى الشمال وأوقع خسائر كبيرة في صفوف القوات الإسرائيلية. وقامت القيادة الإسرائيلية على صدى هذه الضربة الجوية الصائبة بطلب وقف إطلاق النار من أمريكا التي كلفت سكرتير عام الأممالمتحدة بإبلاغ عبد الناصر عبر الهاتف بهذا الطلب الإسرائيلي. استمرت معارك المدفعية والتراشق بالنيران طوال مرحلة الصمود، واستهلكت فيها 3 آلاف طن من الذخائر بمعدل فاق جميع الحروب السابقة، إضافة إلى نشاط أفراد القناصة المهرة، الذين دربوا لقنص أفراد الجيش الإسرائيلي وقادته، سواء في نقاط المراقبة، أو أثناء تحركهم على الضفة الشرقية للقناة. وكان الاشتباك الكبير الذي ركزت فيه المدفعية المصرية كل إمكاناتها في قطاع شرق الإسماعيلية يوم 20 سبتمبر1967، والذي تمكنت فيه من تدمير وإصابة عدد غير قليل من الدبابات الإسرائيلية، وصل إلى 9 دبابات مدمرة، فضلا عن الإصابات في الدبابات الأخرى وعربتي لاسلكي، وقاذف مدفعية صاروخية، بالإضافة إلى 25 قتيلا و300 جريح منهم ضابطان برتبة كبيرة. تحركت القوات البحرية المصرية يوم 21 أكتوبر1967، وتمكنت زوارق صواريخ البحرية المصرية من إغراق المدمرة إيلات في منطقة شمال شرق بورسعيد، وتعد هذه المعركة أول استخدام للصواريخ سطح سطح. وكانت خسارة فادحة للقوات البحرية الإسرائيلية، خاصة أن هذه المدمرة كانت تمثل أهمية كبيرة لها في ذلك الوقت، كما كانت خسائرها كبيرة في الأرواح، واستمرت في عمليات البحث والإنقاذ عن القتلى والمصابين لأكثر من 48 ساعة بعد القذف، ومع استكمال الخطوط الدفاعية وتماسكها في نطاقات عميقة غرب القناة، تكونت احتياطيات الجبهة خفيفة الحركة. واستمرت ردود الأفعال بين الجانبين فبعد ثلاثة أيام من تدمير المدمرة ايلات، وجهت القوات الإسرائيلية، قصفات نيرانية على طول الجبهة مركزة ضد مدن القناة ومصانعها وضد المدنيين، وتكبد فيها الجانبان كثيرًا من الخسائر، خاصة في الأفراد المدنيين المتبقين بمدن القناة. شهدت مرحلة المواجهة والدفاع والتي امتدت إلى عام ونصف العام نوعًا فريدًا من العمليات العسكرية قامت بها وحدات الجيش المصري ضد العدو، فما كان منهم إلا بالرد الوحشى على خسائره في حرب الاستنزاف، حيث هاجم العدو الإسرائيلى أهدافًا مدنية داخل مصر بسبب ضعف الدفاعات الجوية المصرية مثل مجزرة بحر البقر التي قصف فيها العدو مدرسة ابتدائية والتي أزهق فيها العشرات من أرواح الأطفال البريئة. فكان ولابد من إجراء عملية تهجير لسكان مدن القناة إلى داخل الوادي ونقل المنشآت الصناعية الرئيسية إلى مناطق أكثر أمنًا، هي الوسيلة الرئيسية التي أفقدت العدو ميزة ضرب السكان المدنيين، وجعلهم رهينة للتأثير في القيادتين، السياسية والعسكرية، في سبيل تهدئة الموقف على خط القناة. كان واضحًا أمام القيادة الإسرائيلية أن مراحل الاستنزاف المضاد لم تتمكن من تحقيق أهدافها، فالقوات المصرية لم تتشتت في الجبهة لمواجهة أعمال الاستنزاف الإسرائيلية في عمق الصعيد والبحر الأحمر، لذلك كان لا بد من التفكير في الدخول في مرحلة جديدة للاستنزاف، يكون الهدف منها استخدام سلاح الجو الإسرائيلي لقصف العمق المصري بكثافة أكبر، لزيادة الضغط على الشعب المصري ودفعه إلى الثورة على قيادته لإيقاف حرب الاستنزاف، وإضعاف نظام عبدالناصر أو الإطاحة به. وبدأ العدو المحتل بتنفيذ طلعة جوية فوق سماء القاهرة، تخترق حاجز الصوت وتحدث فرقعة شديدة لتعلن عن بدء مرحلة جديدة من تصعيد حرب الاستنزاف. وقد شدت هذه المرحلة انتباه المعسكرين الشرقي والغربي في آن واحد، حيث تشترك المقاتلات الأمريكية الحديثة من طراز فانتوم، واستمر القصف الجوي العنيف من الطائرات الحربية الإسرائيلية طوال أربعة أشهر. كما استمرت الأعمال القتالية المتبادلة حتى حدث تغير هائل بعد ظهر الثلاثين من يونيو 1970، ليحسم الصراع الدائر بين بناة مواقع الصواريخ المصرية وبين ذراع إسرائيل الطويلة، حيث احتلت بعض كتائب الصواريخ مواقعها من خلال تنظيم صندوقي لعناصر الدفاع الجوي، ابتكرته العقول المصرية في قيادة الدفاع الجوي المصري. وبدأ عقب ذلك تساقط الطائرات الإسرائيلية فيما عرف بأسبوع تساقط الفانتوم، ليصاب الطيران الإسرائيلي بأول نكسة في تاريخه أثرت في أسس نظرية الأمن الإسرائيلي بالكامل. وكان هذا اليوم بمثابة إعلان لخسارة إسرائيل لجهودها في معارك حرب الاستنزاف، التي ركزت خلالها على عدم إنشاء أي مواقع صواريخ في مسرح العمليات.