المنافقون اتهموا أمّ كُلثوم بأن أغنياتها خدرت الشعب قبل النكسة حوربت كوكب الشرق في حياتها كما لم تحارب فنّانة على وجه الأرض برضاكْ يا خالقي ... لا رغبتي ورِضايْ خلَقْت صوتي ، ويدَّكْ صوَّرِتْ أعضايْ أبلُغْ بصوتي يا ربِّي مَقْصِدي ومُنايْ لمّا أناجيكْ ولمَّا تِسْتِمِعْ شكوَايْ وهي تردّدُ هذه المناجاة في فيلم «سلَّامة» ( 1945م )، لم تكن أمُّ كُلثوم تقصدُ سلّامة، ولكنها كانت تقصدها هي، أعني أمّ كُلثوم، فهذا الموّال الرباعي البسيط الذي صاغه زعيمنا الخالد بيرم التونسي بحكمة وبراعة وعبقريّة واقتدار، هو أمّ كُلثوم من الألفِ إلى الياء، وكأنّه يقوم بتقطير سبعة وسبعين عامًا، هي مشوار عمرها، ليضعها لنا في هذه الماسة التي تزداد قيمةً ولمعانا وبريقا بمرورِ الزمنِ، وتكاثُرِ المحنِ والمصائب التي يفقسها العصر الفوضوي الغوغائي الهلامي الذي نتعثّر فيه الآن ! لم يكن طريق الأسطورة أمّ كُلثوم مفروشًا بالورود، وبحرسِ الشرفِ وحاملي المباخرِ والمنافقين، فقد جاءت إلى الوجود كأيّةِ فلاحةٍ مسكينةٍ في نهاياتِ القرن التاسع عشر، لأسرةٍ فقيرةٍ تعيشُ على العمل في حقول أغنياء «طماي الزهايرة » ( السنبلاوين دقهليّة )، وما يتقاضاه الوالد قارئ القرآن ومؤذن الجامع ومنشد الأفراح والموالد والمناسبات السعيدة ، وبين البؤسِ والألم ورائحة الشرفِ وآياتِ القرآن وقصائد المديح كانت الطفلة أمّ كُلثوم تحبو وتصعد حتى وافق أبوها على ضمّها إلى جوقته ، وعندما انتقلوا إلى القاهرة بناءً على نصائح الشيخين زكريّا أحمد وأبو العلا محمد، لم يكن الأب مستريحا لهذا «الجو»، وكان يستثمرُ كلّ خلافٍ ليطالب بالعودة إلى طماي ، إلى أن بدأت الحروب الكبرى ضدّها إذ حطمت عروش الجميع، وأصبحت وحدها تصعد بفنّ الغناء من مستنقعات الابتذال والرقاعة إلى قمم الفصحى والمعاني الإنسانية الكبرى، وكانت الطعنة القاسية أن قام أحد الصحفيين بتلفيق قصة حملِها سفاحًا، فأصرّ أبوها على ترك المجتمع القاهري المليء بالأحقاد والفتن والضغائن، لكنه لم يفلح أمام تدخّلات كبار رجال الأدب والدين والفن والسياسة و.... استمر الصعود ، واستمرّت المكائد . بعد ثورة يوليو 1952م فوجئ المستمعون بوقف إذاعة أغنيات أمّ كُلثوم ، وعندما علمَ جمال عبد الناصر قيلَ له إنها «غنت للعصر البائد»، فقال : الأهرام أيضا من العصور البائدة .. لماذا لم تهدموها ؟ وأمر بإعادة صوتها إلى جمهورها على الفور ، وألا تحدث مثل هذه التصرّفات الغبية مرّةً أخرى !! كان صاحب قرار المنع هو الشاعر عبد المنعم السباعي الذي شاء القدر أن يقوم عبد الناصر بفصله من الإذاعة بعد أن كتب أغنية لعبد الوهاب «انده على الأحرار» فسّرها خبثاء عبد الناصر بأنه يتهمّه ضمنا بالديكتاتورية، فهجاه الشاعرُ قائلا «أروح لمين»، وعندما أسرّ إلى السنباطي به في حديقة معهد الموسيقى ، قال له السنباطي : خذ المطلع واجعل العمل أغنية عاطفية ، واترك الباقي على الله ، وكان له ما أراد ، وفي حفلها الساهر بمسرح حديقة الأزبكية في الرابع من ديسمبر 1958 صدحت بها أمّ كُلثوم للمرة الأولى في الوصلة الثانية ، وأصبحت واحدة من روائعها الخالدة ، ولو كانت تدرك ما وراءها لما غنّتها فقد كان عبد الناصر كلّ شيء بالنسبة لها ، ولهذا ، سخّرت صوتها للغناء له، وكان كبار الشعراء يساعدونها في ذلك فيحشرون اسمه في الأغنيات الوطنية ، وعادت لتدفع الثمن مرّة أخرى بعد الهزيمة النكراء التي جاءت على يد ناصر في 5 يونيو 1967 م ، إذ أراد منافقوه أن يخففوا حِمْلَ المسئولية عن كتفيه ، فاتهموا أمّ كُلثوم وقالوا إن أغنياتها كانت «الأفيون الذي خدّر الشعب»، وأنا أعلم أن القادة هم الذين يخططون للحرب، والذين يحاربون هم جنود القوات المسلّحة ، فما دخل الشعب الغلبان المضحوك عليه ؟ وتمّ إيقاف إذاعة أغنياتها مرّةً أخرى ، وعلم عبد الناصر فأعادها . كانت أم كُلثوم قد غنت في أوّل يونيو ثلاثية «الله معك» ( راجعين بقوة السلاح) ومعها « سلوا قلبي» و «حديث الروح»، وبعد أربعة أيام حدثت الفضيحة ، ثم تمثيلية التنحّي ، فغنت «حبيب الشعب» ( قم واسمعها من أعماقي ) ، ثم غنت « إنّا فدائيون « ( كُشف النقاب ) في 25 يونيو ، وكانت قد وقعت في دوامة الاكتئاب بعد الهزيمة ، فسكنت بدروم الفيلّا ، لا تقابل ولا تكلّم أحدا ، ، ودخلت شرنقة انكسارها وأحزانها ولم تعبأ بمنع إذاعة أغنياتها ولا بعودتها ، لكنها أفاقت مرّةً أخرى لتعطينا أعظم دروس الوطنية والبطولة إذ استغلت سلاحها ( صوتها الذي خلقه الله ) لدعم المجهود الحربي ، وبدأت من 23 يوليو 1967م رحلاتها داخل مصر وخارجها في باريس ومعظم العواصم العربية لتغني كما لو كانت بُعثت من جديد ، ولتعطي الشعب كله دفعة معنوية لا مثيلَ لها ، ظلّت تغني للدين وللوطن وللحب ولكل القيم الإنسانية العظمى ، وعندما انتصرنا في 1973 كان المرض قد أكلَ جسدها المنهك فلم تستطع أن تحتفل بالنصرِ بأغنية رائعةٍ لصالح جودت والسنباطي اختفت معها . حوربت أمّ كلثوم في حياتها كما لم تحارب فنّانة على وجه الأرض ، وانتصرت ، واستمر صوتها يملأ ليالي العمر بأغلى المعاني ، لم تلتفت لعواء الكلاب الضالة، وراحت تتقافز بين عصور الشعر العربية لتغني لخمسةٍ وخمسين شاعرًا ( في آخر إحصاء لي لشعرائها ، وأنا أعمل في حقلها على مدار ثلاثين عاما الآن ، لم يعد منهم على قيد الحياة سوى الشاعر اللبناني الكبير جورج جَرداق ) ، غنّت لقدماء ومعاصرين ، مصريين وعرب وإسلاميين ، صعدت بالفصحى إلى القمة، وأخذت المستمعين من دوّامات الابتذال ومستنقعاته إلى آفاق الخيال والمعاني الكبرى ، غنت للدين فعرف الآخرون ما لم يعرفوه من القيم السامية التي أفسدها المتنطّعون ، غنّت للوطن فاستقر في وجداننا ضوءًا ناصعًا لا تُطفئه الخيانات والهزائم والتواطؤات ، غنت للحب فعلّمتنا الرقيَّ والسّموّ ، وكلما ضاقت ليالينا بغثاء السيل وغبار الكلام وجدنا فيما تركته ما يكفي آلاف الأجيال المقبلة ! كانت بشرا مثلنا تخطئ وتصيب، في حياتها لم تكن معصومةً من الخطأ ، وفي مماتنا جميعًا ليس بيننا معصوم من النّار إلا مَنْ رحِمَ ربّي ، وبعد رحيلها عصر الاثنين ، الثالث من فبراير 1975م لم تسلم من الحروب ، فتم التفريط في فيلَّتها التي كانت مثل عُشّ يمامٍ على نيل الزمالك لتصبح الآن فندقا فَجًّا غبّيَ الملامح إرضاء لرغبات سيّدة حاربتها في حياتها بدفع مطربات ربع لبّة إلى الساحة ، وحاربتها في موتها بدفن بيتها قبل أن يصبح مُتحفا ، وعندما أنشأوا لها مُتحفا جاء بائسا لا يعادلُ فتلةً من مِنديلها ، كما تتبارى مطربات الأوبرا في إفساد أغنياتها الرائعة بلا ضابط ولا رابط ، وتترامى حولنا الكتب المليئة بالاختراعات في سيرتها، ويتكالبُ النقاد الهواة على تجريف أعمالها على الهواءِ مباشرةً ، غير أنّ كلّ ذلك يهون أمام المتنطع المصري الذي وضع على اليوتيوب جزءًا من انفجارٍ بركانيٍّ، وكتب أنه منبعثٌ من قبر أمّ كُلثوم مع أصوات غريبة هي استغاثاتها ، وهو يظنّ أنه بذلك يتقرّب إلى الله وينال رضاه ، وإذا كان عبد الناصر قد قال ساخرًا : اهدموا الأهرامات ، فقد سارع أحد متنطّعي الخليج ، من مواطني عزبة لا تُرى بالعين المجردة ، معلنا ابتهاجه بالفتح أو الاحتلال الإخواني لمصر، وطالب بأن يقوموا بإنجاز ما لم ينجح فيه عمرو بن العاص وهو هدم الأهرامات وإزالة المعابد وكلّ الآثار الفرعونية الوثنية ، لكنَّ متنطّعًا خليجيّا وجد ضالته في أمّ كلثوم فراح يصبّ جام حقده عليها ويطالب بأن نسمّيها «أمّ الثوم» لأن شجرة الثوم خبيثة وتؤذي الآخرين ، مستغربًا من كثرة المعجبين بصوتها خصوصا الذين ولدوا بعد رحيلها !! هذه الأشكال من البشر قُدّت قلوبهم من صخر ، وعقولهم من بيادات قديمة من مخلّفات الحرب العالمية الأولى ، وبأفعالهم هذه يسيئون إلى ديننا ، ويثيرون ضحكات الأعداء والمتربصين ،ويصدق فيهم قول المتنبي : أغايةُ الدّينِ أن تحْفُوا شوارِبَكم يا أمةً ضحِكتْ من جهلِها الأمَمُ لو أنهم سمعوا روحها في قصيدة «توبة» أو «سلوا قلبي» أو « نهج البردة» أو «وُلِدَ الهدى» أو «حديث الروح» أو « الثلاثيّة المقدّسة» أو « غريبٌ على باب الرجاء» أو سمعوا بكاءها في آخر رباعيات الخيام وهي تطير إلى السماء في غلالة من نور : يا عالمَ الأسرارِ علمَ اليقينْ يا كاشفَ الضُّرِّ عن البائسينْ يا قابلَ الأعذارِ عُدنا إلى ظلِّكَ فاقبلْ توبةَ التائبينْ ما كان لهم أن يتغاشموا ، لكن ماذا نفعلُ ؟ وكيف ننزح الظلام من عقولٍ عليها أقفالٌ صدئة «مسوجرة»، وقلوبٍ أصبحت كالأرض المحروقة من هول ما بها من غلٍّ وحقدٍ وخراب ؟!!