اللهم بلغنا ليلة القدر"، دعاء لا تتوقف ألسنة المسلمين في أنحاء العالم الإسلامي عن ترديده مع ظهور هلال الشهر الكريم. فمن منا لم يحلم بليلة قال عنها المولى عز وجل " ليلة القدر خير من ألف شهر"، وحث حبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم المسلمين بعدم التفريط فيها حين قال " مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ". وليلة القدر ينتظرها المسلم في العشر الأواخر لما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " هي في العشر الأواخر من رمضان"، وهى في الليالى الوترية منها، وهو ما أجمع عليه جمهور العلماء، فقال الإمام النووي " مذهب الشافعي وجمهور أصحابنا أنها منحصرة في العشر الأواخر من رمضان مبهمة علينا ولكنها في ليلة معينة في نفس الأمر لا تنتقل عنها ولا تزال في تلك الليلة إلى يوم القيامة، وكل ليالي العشر الأواخر محتملة لها لكن ليالي الوتر أرجاها وأرجى الوتر عند الشافعي ليلة الحادى والعشرين، ومال الشافعي في موضع إلى ثلاثة وعشرين. البندنيجي - أحد فقهاء الشافعية - قال إن مذهب الشافعي أرجاها عنده ليلة الحادى وعشرين، وقال في القديم ليلة الحادى وعشرين أو الثلاثة وعشرين، فهما أرجي لياليها عنده وبعدهما ليلة السابع وعشرين، هذا هو المشهور في المذهب أنها منحصرة في العشر الأواخر من رمضان. وقال إمامان جليلان هما المزني وصاحبه أبو بكر محمد ابن اسحق بن خزيمة أنها منتقلة في الليالي العشر، فتنتقل في بعض السنين إلى ليلة، وفى بعضها إلى غيرها جمعا بين الأحاديث، وهذا هو الظاهر المختار لتعارض الأحاديث الصحيحة في ذلك. وبين الرسول الله صلى الله عليه وسلم مجموعة من العلامات، لكي تنبه الغافل، وتطمئن المؤمن وتبشره، وعلاماتها يومها وبعدها. ودليل يوم ليلة القدر، ما رواه أحمد من حديث عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن أمارة ليلة القدر أنها صافية بلجة كأن فيها قمرًا ساطعًا، ساكنة ساجية، لا برد فيها ولا حر، ولا يحل لكوكب أن يرمى به فيها حتى تصبح". وقال في تفسير ذلك الإمام المناوي، رحمه الله ( ليلة القدر ليلة بلجة) أي مشرقة، (لا حارة ولا باردة ) بل معتدلة، (ولا سحاب فيها ولا مطر ولا ريح) أي شديدة، (ولا يرمى فيها بنجم ومن علامة يومها تطلع الشمس لا شعاع لها). وقال أبي بن كعب رحمه الله (ليلة القدر ليلة سمحة طلقة)، أي سهلة طيبة، (لا حارة ولا باردة) أي معتدلة، يقال يوم طلق، وليلة طلق وطلقة إذا لم يكن فيها حر ولا برد يؤذيان. ومنها ما أخرجه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: تذاكرنا ليلة القدر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أيكم يذكر حين طلع القمر وهو مثل شق جفنة"، فرجح بعض العلماء إشارة ذلك إلى أن ليلة القدر تكون في أواخر الشهر لأن القمر لا يكون كذلك عند طلوعه إلا في أواخر الشهر. وأما العلامة التي تأتي بعد انقضائها فهي أن تطلع الشمس في صبيحة يومها بيضاء لا شعاع لها، كما ثبت ذلك في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي بن كعب، فكأن الشمس يومئذ لغلبة نور تلك الليلة على ضوئها، تطلع غير ناشرة أشعتها في نظر العيون، وهو ما قاله الإمام النووي في شرح مسلم. أما علامتها بعدها، فما ذكره أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الشمس تطلع من صبيحتها بيضاء لا شعاع لها وفي بعض الأحاديث بيضاء مثل "الطست"، وروي عن النبى أيضا أنها " ليلة بلجة سمحة لا حارة ولا باردة تطلع الشمس من صبيحتها لا شعاع لها ". أهل اللغة قالوا في تفسير "الشعاع" - بضم الشين - هو ما يرى من ضوئها عند بروزها مثل الحبال والقضبان مقبلة اليك إذا نظرت اليها، وقال صاحب المحكم هو الذي تراه ممتدا بعد الطلوع، وهو انتشار ضوئها وجمعه أشعة و"شعع". وفسر القاضي عياض معنى "لا شعاع لها" على أنها علامة جعلها الله تعالى لها، لكثرة اختلاف الملائكة في ليلتها ونزولها إلى الأرض وصعودها بما تنزل به سترت بأجنحتها وأجسامها اللطيفة ضوء الشمس وشعاعها. أما "تصبح الشمس صبيحتها ضعيفة" فذكر ابن الأثير أي ضعيفة الضوء، و(حمرا) أي شديدة الحمرة.