لم تكن فكرة التجديد في الخطاب الدينى وليدة اليوم ولكنها إرث عهده الأئمة القدامى في مناهجهم الفقهية تماشيا مع ما يناسب العصر الذي يعيشون به مقارنة بما كان يسبقهم، ولكن ما يحدث حاليًا من محاولات تخريب لأساسات الدين الإسلامى لا يمكن إدراجها تحت مسمى التجديد بأى حال من الأحوال. تثير كلمة «التجديد» في الدين حاليا جدلا واسعا نظرا لسوء استخدامها واتخاذها ستارا للتلاعب بالدين، ويبقى مصطلح التجديد في الدين محاطا بخلافات ويتباين مفهومه من مفكر لآخر، وهو ما ينتج عنه استمرار الصراع والخلاف بين حاملى ذلك الشعار الذي لا توجد له ضوابط متعارف عليها. المؤكد أن التجديد ليس المقصود منه هو تغيير المعالم الأساسية للدين والقواعد الثابتة ولكنه يعنى المزيد من الاجتهاد من قبل علماء الدين لتناسب فتاواهم ومذاهبهم الفقهية لاحتياجات العصر الموجودين به، حيث كان المصطلح دائما ذا صلة بطبيعة التحديات التاريخية التي واجهت المسلمين كأمة ووجود مع انفراد كل عصر بخصوصياته عن باقى العصور الأخرى. الإمام الشافعى كان من أبرز الأئمة الذين اعتنقوا فكر التجديد الدينى وذلك بعد انتقاله من العراق إلى مصر، حيث أراد لمذهبه الاستمرارية فجدد اجتهاده خلال انتقاله بين القطرين بعد أن وضع الأسس الأولى لعلم أصول الدين. هاجر الإمام الشافعى من العراق إلى مصر عام 198 هجريا وتوفى في مصر عام 204 أي أنه مكث في مصر 6 أعوام جدد فيها مذهبه بما يتماشى مع الظروف المحيطة به دون الإخلال بالأصل الديني. جدد الإمام الشافعي، رحمه الله، 22 مسألة فقهية في مذهبه بعد انتقاله لمصر منها تعجيل صلاة العشاء وعدم مضى صلاة المغرب بمضى 5 ركعات، وكراهية قلم أظافر الميت وتحريم أكل جلد الميتة بعد الدباغ وغرامة شهود المال إذا رجعوا وعدم انتقاض الوضوء بمس المحارم وعدم اشتراط النصاب في الركاز وغيرها. وكان السبب وراء تغيير تلك المسائل هو تغيير الطبيعة الجغرافية بين مصر والعراق كطهارة الماء الجارى ما لم يتغير، حيث تختلف طبيعة نهر النيل عن أنهار العراق واختلاف طبيعة الأحجار في العراق عن مصر فيما يخص الاستنجاء، كما أن كثرة كنوز الفراعنة في مصر واعتماد الكثير من الناس عليها كدخل جعله يغير ما رآه بالعراق بشأن اشتراط النصاب، حيث إن اشتراطه في تلك الكنوز المصرية ربما يعطل الزكاة فيها. وفيما يخص تحديدًا المغرب بخمس ركعات فقد كان الوقت بين المغرب والعشاء في العراق قريبًا جدا بينما طال أكثر من 5 ركعات في مصر مما دفعه لترك تحديد الصلاة ولكنه في ذات الوقت أفتى بالتعجيل في صلاة العشاء بمصر لأن الفارق بينها وبين صلاة المغرب في أحد الفصول طويل جدا مما يجعل تأخيرها مشقة على المصريين والذين كانوا حينها يعيشون على الزراعة ويستيقظون مبكرا، على الرغم من أن السنة عن الرسول عليه الصلاة والسلام هي تأخير صلاة العشاء. أما رجوع الشافعى عن فتوى تقليم أظافر الميت غير مستحبة فكان نتيجة كونه عند المصريين ذات صلة بفكرة الاعتناء بالجسد لتحنيطه أو كونها من طقوس وعادات القدماء المصريين، كما أن فتواه بشأن غرامة شهود المال كان على صلة بأمراض المجتمع. لا يعتبر ما رجع عنه الشافعى أو ما أضافه لمذهبه تغييرا فيه، بل إن قوله الجديد هو امتداد للقول القديم وتطوير له وليس تبديلًا، حيث كان الإمام رحمه الله يحرص على فحص آرائه بين الحين والآخر كما كان يفحص آراء غيره. وكانت هناك مجموعة أسباب وقفت وراء تجديد الشافعى في مذهبه أبرزها مراجعته لأصوله في استنباط مذهبه ومراجعته لاجتهاده في فروع الدين والنظر فيها بالإضافة للاجتهاد على قياس أرجح ودليل أقوى باعتبار رأيه صوابًا يحتمل الخطأ، إلى جانب تغير البيئة والأعراف والعادات بين مصر والعراق واطلاعه على فقه الليث بن سعد في مصر من خلال تلاميذه. وعُرف الشافعى بمجموعة من الفتاوى المتشددة التي أصدرها بعد هجرته لمصر لم تكن بذات الشدة في العراق أبرزها: كراهية استعمال أوانى الذهب والفضة كراهية تحريم في مصر، بالإضافة لعدم جواز المسح على الخف في الوضوء إذا ظهر من القدم شيء وبطلان الوضوء في حالة ترك الترتيب ونقض النوم للوضوء، بالإضافة لفتوى بعدم جواز زواج المرأة التي فقدت زوجها إلا بعد أن يأتيها خبر يقين بوفاته على عكس ما فتى به في العراق بأن تتربص أربع سنين من وقت انقطاع خبره، ثم تعتد عدة الوفاة: أربعة أشهر وعشرة أيام. حسب د. عمار علوان مؤلف كتاب «عبقرية الإمام الشافعى في الاستدلال والتأصيل والتجديد»، فإن المجتهد والمفتى كالطبيب لمجتمعه، إذا رأى وباءً ينتشر في المجتمع فينحو منحى الشدة في اتخاذ الاحتياطات اللازمة لمنع انتشاره في المجتمع وكذلك المفتي، فإذا رأى مرضا اجتماعيا ينتشر في أفراد المجتمع الإسلامى فيتجه لاتخاذ الاجتهاد الأنسب، مما دفع الإمام الشافعى على سبيل المثال لوضع غرامة على الراجعين في شهادة المال لما رآه في المجتمع من كثرة شهادات الزور، حيث رأى أن الرادع في شهود الزور بالمعاملات المالية أن يغرموا لتردعهم الغرامة المالية إذا لم يكن يردعهم الخوف من الله. وبالمقارنة بين تجديد الشافعى وما يسمونه اليوم تجديدا، نجد أن النوع الأول إنما يهدف لبعث وإحياء الدين وإعادته إلى واقع الحياة وهو ما يتناسب مع ما قاله رسولنا الكريم: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها»، رواه أبو داوود، ولكن الاختلاف يأتى في تطبيق ذلك حيث ينفذه البعض عبر إحياء ما انطمس من معالم السنة النبوية ونشرها بين الناس ومنهم من يستخدمه في إنتاج البدع والمحدثات مما ينتج عنه نشر خلل في أصول وثوابت الدين عند ضعاف النفس ومن هم على غير دراية كاملة وهو ما يطلقون عليه في يومنا هذا تجديدا فيستبيحون من خلاله ما احل الله ويحرمون ما حلله دون الرجوع لأى إسناد موثوقة ويعتبرونه اجتهادا. ويعتبر الاجتهاد في تجديد الدين فرض كفاية على العلماء لكونه قائمًا على الاجتهاد، وهو ما عهده القدماء وتوارثوه عن بعضهم البعض منذ أن دون الإمام الشافعى في كتابه «الرسالة» لأصول الفقه والتي شهدت بعد ذلك حالة من التجديد المستمر المتسم بالترتيب والتنظيم بالإضافة للدقة وقوة الاستدلال والمتابعة النقدية والتصحيحية حسب ظروف المكان والزمان ودواعى حاجة البشر.