لا يحتاج بالطبع إلى من يقدمه للناس، لأنه حاضر أمامهم طلعة وطّلة، وصوتًا هادرًا، وجاذبية مغناطيس، ولا يحتاج إلى من يحلل إنسانيته، فالخلاصة أنه شراع على النيل جاء من صعيد مصر، مرتحلًا إلى الشمال، حاملًا معه خصب النهر العظيم، ينثره حيث يصل، ويحول الطمى بالفن إلى زهر وورد وشوك أحيانًا، هكذا وصفه الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل. إنه الخال عبد الرحمن الأبنودي، الذي جاء من صعيد مصر حاملا حلمه، سائرا وخلفه كان الأبنودي يسير دائما، وخلفه الكثير من التراكم الحضاري القادم معه من أقصى الجنوب، ومن أكثر مناطق صعيد مصر فقرا، حيث ولد بمحافظة قنا لأب يعمل مأذونا شرعيا، وباعتباره رجلا أصوليا كان يمزق كل ما تقع عليه عيناه من منجزات الابن المارق في رأيه، هذه المناخات دفعت الأبنودي للتمرد على وظيفته الحكومية في محكمة قنا، التي التحق بها بمؤهله المتوسط، غير أنه أدرك مبكرا أن موهبته لن تتبلور سوى في قلب مركزية القاهرة وأضوائها الساطعة، وهو ما حدث بالفعل. لم يكن الخال سوي واحد من شلة سميت ب"شلة شقة العجوزة"، تلك الشقة التي أصبحت أشهر الشقق في الوسط الثقافي، فقد جمعت أمل دنقل، ويحيي الطاهر عبدالله، وسيد حجاب، والفنان التشكيلي عدلي رزق الله، وسيد خميس، وصلاح عيسى، وعبد الرحيم منصور، وخرج من هذه الشقة فنانون أصبحوا من أبرز ملامح الفن المصري. أمل دنقل والخال بفضل موهبته التي أثقلتها بيئته التي نشأ فيها، تعرض على الكثير من الأصدقاء، بخلاف أصدقاءه القدامي، سواء في مصر أو خارجها، ولعل أبرزهم الشاعر أمل دنقل، الذي قال الخال عن علاقتهما: العلاقة بينى وبين أمل علاقة تاريخية، فقد تربينا وعشنا سويا في شوارع قنا وكان يجمعنا هم واحد: هو الانشغال بما تموج به الحياة المصرية والعربية في الصراع مع إسرائيل، وكنا نرى أكبر شىء نمتلكه هو استخدام القصيدة والكلمة لتوعية الناس، ويبدو أن أمل ضاق بشوارع قنا وفضل السفر إلى الإسكندرية بعد ترك وظيفته التي كان يشغلها معى ككاتب في محكمة قوص، وسرعان ما لحقنا به في القاهرة انا ويحيى الطاهر عبدالله، وكنا نرى أنه مهما كتبنا من قصيدة عظيمة في قنا لن يسمعنا أحد لذلك كانت القاهرة هي الانطلاق. أضاف الأبنودي: أن تمرد ورفض وقوة اشعار أمل دنقل انعكاس لشخصيته المتمردة، فقد كان عنيفا في معاملته ودائما ما كان يضايقه اقتحام شخص له، وبالرغم من ذلك إذا عرفه أحد عن قرب يشعر بمدى مساحة الود الانسانى بداخله.. إن أمل مثال حي للإنسان الوطني الغيور على عرضه وأرضه. لم أكن أخشي سوي يحيي الطاهر عبدالله هذا هو عنوان المقال الذي سرد فيه الخال علاقته ب "يحيي الطاهر عبدالله"، وقال الخال: ذات صباح شتائي دلف إلى مكتبي بمحكمة قنا الشرعية شاب نحيل الجسم جدا ضعيف البنية، قلق النظرات كأن به مسا وقال في 'عظمة': هل أنت عبد الرحمن الأبنودي أنا يحيي الطاهر عبد الله من كرنك الأقصر: جئت للتعرف عليكما أنت وأمل دنقل، أغلقت الدوسيهات التي أمامي ودفعت بها إلى أحد الأدراج وقلت له إذن هيا بنا حتى هذا الوقت لم أكن قد عرفت شيئا عن يحيي الطاهر عبد الله ولكني كنت أعرف عن عمه الحساني عبدالله وهو شاعر كلاسيكي ومن تلامذة العقاد ومن أتباعه وأشياعه المتطرفين في الطريق إلى البيت اكتشفت أن يحيي الطاهر 'عقادي' أكثر من عمه، حين تأتي سيرة العقاد تستطيل سبابته لكي تصبح في طول ذراع وتخترق عيوننا ويتشنج وجهه الذي لم يكن ينقصه جنون، ويخرسنا جميعا ويستمر في قوة يحاورنا من طرف واحد ونحن صامتون.. صامتون خوفا منه أو خوفا عليه أو إشفاقا على جسده النحيل من تلك التشنجات القاسية. في ذلك اليوم أخذنا المسير إلى منزل الشيخ الأبنودي ولم أكن أعلم أن يحيي الطاهر عبد الله لن يغادر هذا البيت إلا بعد ثلاث سنوات. منذ أول يوم أصبح فردا من أفراد العائلة ينادي أمي (يا أمه) ويتعامل مع الشيخ الأبنودي كأنه والده واستولي مني على أخوتي. ووصف علاقتهما بالحميمة، وقال: كان بالنسبة لي أكثر من شقيق وكانت القاهرة تتعامل معنا على هذا الأساس بل لقد دعت غرابة محبتنا كلا للآخر إلى أن تندهش القاهرة لمثل هذه العلاقة التي لا يمكن أن تتحقق إلا بين أبناء الصعيد وبالذات في الغربة، فيما بعد تركني يحيي ليتزوج وينجب وبدأنا نلتقي كلما وضعته الأيام في مأزق كنت دائما ألعب في حياته دور الوالد بشقيه الجانب الذي كرهه وهو جانب الناصح والمحجم والمنظم للسلوك، والجانب الحنون الذي كان يوقن أن كل ما ملكه هو ملكه في أية لحظة إذا ما احتاجه. ومن المواقف الطريفه، ذكر الخال أنه في ليلة عرسه وزواجه من السيدة مديحة أخت الدكتور عبد المنعم تليمة اختفي يحيي ولم يأت، ولم يكن هناك إلا أن أجلس على كرسي العريس بجوار العروس إلى أن جاءنا في آخر الليل يصطحب طفلا فقيرا وجده ملقي مشردا تحت أحد الكباري التي ذهب عندها ليحتسي بعض زجاجات البيرة وبجهد جهيد وضعناه على كرسي العريس وأتممنا الليلة بهرولة قبل أن يرجع في قوله.