خرجتُ من حانة «علي الزيبق» الموجودة على حافة الهضبة الوسطى لجبل المقطم بعد منتصف الليل، شيء جميل والله ، حانة على حافة !! تنفع أغنية ، المهم أنني خرجت ويا ليتني ما خرجت ، فما أن خرجت حتى وجدتُ مجموعة من المارة يقذفونني بالحجارة وكأنني وغد أثيم، عتل زنيم ، أو كأنني كاشح ، ولا تسألني عن معاني هذه الكلمات فهكذا هي خرجت من قلمى دون أن يكون لي فيها حول ولا قوة ، فعلمي علمك والصلاة على النبي ، وبما أن الجري هو كل الجدعنة، فلا أخفيك سرا أنني جريتُ كما لم أعد من قبل، وحين دلفت إلى شارع جانبي استوقفني رجل غريب الهيئة، قلت في نفسي يا داهية دقي ، من هذا ؟ ومن هؤلاء الذين كانوا يقذفونني بالحجارة ؟!! جذبني الرجل الغريب من ذراعي وهو يقول لي بصوت أجش : تعال معي إلى هذا الزقاق ، سأخفيك عنهم . قلت له : يالطيف اللطف يارب ، زقاق !! من أنت ؟ وتحميني ممن ؟ ومن هؤلاء الذين قذفوني بالحجارة؟ قال بصوت خفيض: هؤلاء من الحرافيش، فبعد ثورتكم وصعود نجم أصحاب اللحى والعمائم ، قام أتباع الشيوخ بعمل عصابة منهم للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبما أنك خرجت من الحانة فهم يقذفونك بالحجارة . قلت له : حرافيش ، حرافيش مين يا عم ، هل هؤلاء من شخصيات نجيب محفوظ ، خرجوا لي من زقاق المدق؟ قال: أنا أعرف كل أزقة القاهرة ولكنني لا أعرف زقاق المدق ولا أعرف زقاق نجيب محفوظ ، هؤلاء يا رجل يقذفون بالحجارة كل من يشرب الخمور . تعجبت وقلت : خمور !! أنا لم أشرب في الحانة إلا سوبيا، ومنقوع الشعير الخالي من الكحول . قال الغريب : آه، تقصد مشروب الجعة ، حسن حسن ، استطرد الرجل قائلا : أنت أبو يكح الجوسقي أليس كذلك ؟ قلت بصوتي الذي زاد ارتعاشا : نعم أنا أبو يكح الجوسقي كيف عرفتني ؟ . قال : عرفتك عن طريق ضرب الرمل وقراءة الفنجان . قلت ساخرا : أنا أعرف محطة الرمل، ولكنك لم تقل لي من أنت ، أبلطجي؟ أم شرطي ؟ قال الرجل : أنا الاثنان معا. قلت وأنا أستظرف : يا ساتر يا ستار ،أنت الاثنان ، وأنا الاثنين والثلاثاء . قال : لا تخف أنا قصدي شريف ، ونظيف . قلت له : كلامك آخر جمال ، أنا كلي سرور من رؤيتك . قال : مبارك عليكم الثورة ، مع إنكم كنتم تعيشون في عز . انفعلت وقلت له : مبارك عليك أنت، لكن قل لي من أنت ؟ قال : أنا صاحب الحانة التي على الحافة ، أنا علي الزيبق . قلت : بذات نفسك !! قال : نعم بذات نفسي. قلت : وما الذي أتى بك إلى هنا؟ قال : ألا تعرف أنني ابن حسن راس الغول وقد تعلمت أصول العياقة والقيافة والتنكر وهزمت «دليلة المحتالة» و «علي الكلبي» وكل شُطار مصر وأستطيع أن أفعل ما يعجز العقل عن تصوره ،لذلك أتيت إلى هنا . قلت له وأنا أستفهم : طيب يا سيدنا ، فهمنا عياقتك وقيافتك ، ولكن ما الذي تريده يا أفندينا ؟ قال وهو يتصنع الهمس : أريد أن أنقذ ثورتكم . تعجبت : تنقذها ؟! تنقذها من أي شيء ؟ قال ساخطا : أخفض صوتك فأحجار الجبل لها آذان وأصحابنا لا يخفى عليهم خافية . بحلقت بعيني لعلى أرى شيئا يتحرك فى الظلام ، وعندما رأيت الهدوء ساكنا ، والسكينة هادئة ، توجهت إليه برأسى وأنا أقول :«ربنا يجعل كلامنا خفيف عليهم ، يبدو إن حضرتك مخاوى». قال متبرما : اسمع يا أخ، لا نريد أن ندخل في جدل طويل ، فلا وقت لدينا صحيح إن خلقتك ملخبطة لكن ما باليد حيلة ، ليس لي إلا أن أتعاون معك من أجل إنقاذ الثورة ، هل ستتعاون معي؟ أريد منك شيئا. قلت وأنا أتحسس جيوبي الخاوية: آه، عرفتك، أنت من إياهم، أنا يا مولاي كما خلقتني، وليس معي مليم لأتعاون به مع أحد ... نظرتُ إلى الرجل بإمعان فوجدته يحمل شيئا في يده فقلت له مستطردا، وما هذا الذي في يمينك؟ قال متبرما :أوه ، هذا زنبيل أحمل فيه أدواتي وقنينة البنج . قلت : زنبيل !! وما الزنبيل؟ قال منفعلا : قفة يا أبو يقح ، ثم من قال لك أنني أريد مليما أو دانقا. قلت بهدوء والكلام يتطوح من فمي: أبو يكح الجوسقي من فضلك، قل لي ماذا تريد بسرعة، خلصني، أنا خرجتُ من الحانة التي على الحافة ، وأنا على هذه الحالة، لأنه حان وقت نومي. قال وهو يستظرف ويتصنع الخنف: حانتك صعبة، ثم جذبني من يدي وأجلسني على الأرض وهو يقول: اسمع يا هذا، أعرف أنه قامت ثورة عظيمة في مصر، وقد خبرت هذه الثورات، وقد عرفت أن لصوص الثورات قد عقدوا العزم على سرقة ثورتكم، وعرفت كذلك أنهم على وشك سرقة ثورتي تونس وليبيا . قلت وقد أعياني الفهم: لصوص ثورات!! يعني نعمل إيه؟ نضع الثورة في خزينة في بنك مثلا!! أو نضع عليها حراسة، قال متضجرا : أفٍ لكم، يا بني آدم أنتم قمتم بثورة، هناك من سيأخذ غنائمها لنفسه ، لن تعود ثورتكم بفائدة على الشعب، ولكن على مجموعة من الشطار . زاد غبائي فقلت: غنائم ! شُطار! والله لقد أعياني الفهم، من هم الشُطار ؟ قال : بالعامية المصرية القديمة، الشطار هم اللصوص، فالشاطر لص، والشطار عصابة من اللصوص والأفاقين ، يستخدمون البنج لتبنيج الضحايا، ويعقدون الاتفاقات مع عزيز مصر ومع مقدمي الدرك لتقسيم الغنائم ، ويقودون الزُعر، ويضحكون على عقول الحرافيش، ويمسحون الجوخ للغُزْ لعلهم ينتفعون بهم . قلت : زُعر ، غُز ، درك !! والله يا زيبق لقد أصبتني بالهطل وخطل الرأي ، وحياة رأس والدك لم أفهم شيئا . قال ضاحكا وهو يلعب بالألفاظ بالطريقة التي يتقنها أبناء المقاهي : هذا الكلام خطل عليك ، ثم استطرد جادا : المهم أنك عرفت من هو الشاطر ومن هم الشطار ، وقد عرفت أن عصابة من الشطار تنتوي سرقة الثورة ، فجئت لمصر ، تلك التي تربيت في حاراتها ، وأدبت فيها شميعة اليهودي ، وصلاح الكلبي لكي أنقذكم من شر قد اقترب . قلت : وماذا تريدني أن أفعل؟ قال : أثناء أعمالي القديمة عثرت أنا وصديقي «سنجر السروري» على آلة جهنمية في جبل المقطم ، هذه الآلة ليس لها مثيل في العالم ، استعملتها في مغامراتي ردحا من الزمن ثم دفنتها في قلب الجبل ، والآن يجب أن نستخرجها سويا حتى نُبطل كيد الشطار . قلت وقد ارتعدت فرائصي : ما هذه الآلة وما وظيفتها؟ قال : هي آلة ترسل بنجا غريبا يتجه مباشرة صوب الشطار ثم ينومهم، ثم إذا بهذا البنج يتحول إلى حبل يتحرك وحده ثم يوثق هؤلاء اللصوص ثم يحملهم إلى مغارة في بطن الجبل لا يخرجون منها أبدا، إذا عثرنا على هذه الآلة سنقبض على لصوص الثورات ونقضي عليهم. قلت وقد شدني الحديث: أنا معك، فأنا أعرف كل كبيرة وصغيرة في بطن هذا الجبل ، هل معك الخريطة؟ قال : نعم ولكن طبيعة المكان تغيرت، فهل ستستطيع الاهتداء إلى المكان؟ قلت : لي في ذلك خبرة كبيرة . قال بهدوء : سنصطحب معنا صديقا كبيرا هو المؤرخ الجبرتي ، تعرفه طبعا ، كان مختبئا في زاوية من زوايا التاريخ ولكنني بألاعيبي الجهنمية استطعت إحضاره معي، انظر خلفك ، هذا هو الجبرتي مؤرخ الأزمان ، جاء لكي يكتب حوادثَ هذه الأيام ، سيصاحبنا ويدوِّن الوقائع حتى تعرف الأجيال القادمة ما الذي حدث. نظرت خلفي فوجدت شيخا كبيرا بعمامة كبيرة يقترب منا ، سلمت عليه ثم بدأنا في مغامرتنا التاريخية . كانت رحلة شاقة ولكن من أجل مصر وثورتها يهون كل شيء ، دخلنا العديد من المغارات ونحن نتخفى من العسس ، كان الزيبق خفيف الظل سريع الحركة بارعا في التنكر ، وكان في كل حين يداعبني فنضحك، وفي إحدى المغارات وجدنا سيفين منصوبين على أحد الحوائط، وفي مغارة أخرى وجدنا صندوقا كبيرا محفورة عليه عبارة «صندوق التصريحات» وبجانبه صندوق أكبر عليه عبارة «صندوق تكذيب التصريحات التي في صندوق التصريحات» !! وبعد لأي ٍ كبير وفي المغارة المقصودة عثرنا على الآلة الجهنمية ، فرحنا فرحا كبيرا وقال الزيبق: هانت وبانت كلها كام يوم وسنقبض على الشطار ... ثم انتهت المغامرة ، نعم انتهت، ولكنني لن أرويها لكم إذ سأدع الجبرتي يرويها فهو الأحق بذلك أليس هو مؤرخ مصر . كتب الجبرتي ثم دخلتْ سنةُ ثنتين وثلاثين وأربعمئةٍ وألفٍ وفيها كانتِ الحوادثُ العظامُ، والأحداثُ الجسامُ، وانتظمَ فيها من خطيرِ الوقائع ما لم ينتظمْ في سواها، وشهدتْ فيها أمةُ العربِ سقوط ملوكٍ ثلاثةٍ كبار زالَ ملكُهُم في عامٍ واحدٍ بعد أن ثارت الشعوبُ عليهم ، وقد قدَّر اللهُ أن ألتقي بأحدِ العياق هو علي الزيبق ، وتعرفتُ معه على مصري عجيب اسمُهُ أبو يكح حيثُ استخرجا آلة ًعجيبة ً ، تمسك بتلابيبِ الشطار والعياق والزعر المتآمرين ، ذهبنا بهذه الآلةِ إلى تونس لننقذ ثورتَها من هؤلاء ، فظهرت لنا العجائبُ حتى أنني قلتُ وقتها : يا خفي الألطاف نجنا مما نخاف ، ففي خلال مقدارِ ذبح ِ ناقةٍ قبضتِ الآلةُ على الشطارِ الذين كانوا سيسرقون ثورتها ، وفي ليبيا وفي خلال مقدارِ ذبح ِ بقرةٍ قبضتِ الآلةُ على شطارِ ليبيا ، أما في مصرَ ففي مقدار ِ ذبح ِ شاةٍ صغيرةٍ ..... تم سرقة الآلةِ الجهنمية ... ووصل الشاطرُ الأكبر وعصابةُ الشطار ِ إلى حكم ِ مصر ، فانتحر الزيبق وضحك الزعرُ والحرافيش وشربوا جميعا الشاي بالياسمين .