الذكى هو من يختار معاركه. الأحمق هو من يدخل معارك غيره. والمتحمس هو من يدخل كل المعارك دون تمييز. حين يعرف خصومك أنك متحمس، يمسكون بزمامك، فيسيطرون على وقتك، ويبددون طاقتك فى ما يختارونه لك من المعارك. بما أنك متحمس فأنت لا تختار، بل تدخل كل معركة تمر عليك، وبالتالى يمكن بسهولة «إشغالك» وإنهاكك فى معارك جانبية أو حتى لا تخصك، بحيث تكون قواك قد تبددت حين تأتى المعركة التى تخصك. حينها تجد نفسك وحيدا، تشتت أنصارك، وتعبت، وينتهى الأمر بأن تأخذ ساندوتشات حواوشى من امرأة مجهولة. لماذا تصدّرنا فى معركة وثيقة السلمى؟ ألم تكن القوى الديمقراطية هى التى طالبت بمبادئ حاكمة للدستور وبوثيقة حقوق غير قابلة للتصرف وبمعايير لاختيار اللجنة التأسيسية بحيث تحمى الديمقراطية الوليدة من استبداد الأغلبية الإسلامية بالرأى؟ بأى معجزة تصدر الديمقراطيون معركة إسقاط وثيقة السلمى؟ الإجابة هى: الحماس. تحمست القوى الثورية حين رأت المادتين الخاصتين بوضع الجيش، ولم تكذب خبرا وانطلقت لتقاتل وثيقة السلمى كلها، خيرها وشرها، واستنفدت وقتها وطاقتها فى ذلك، بدلا من الإعداد للانتخابات مثلا، فى حين انصرف الإخوان والسلفيون إلى ما يهمهم أكثر. النتيجة أن القوى الثورية نجحت فى تحقيق هدف الإسلاميين وإسقاط وثيقة السلمى، فى حين نجح الإسلاميون فى تحقيق هدف الإسلاميين وهو الإعداد للانتخابات. ما الذى ذكّرنى بهذه القصة؟ لأنى أرى معركة أخرى قادمة، وأخشى على القوى الثورية من حماسها، وأتمنى عليها أن تمعن التفكير وتختار معاركها الآتية، لأن مستقبل مصر يتوقف على حسن إدارة هذه القوى للمرحلة القادمة. فى أغلب الظن ستكون هناك معركة مع نهاية الانتخابات حول علاقة الحكومة بالمجلس المنتخب، وما إذا كان للأغلبية أن تشكل حكومة جديدة أو على الأقل تقرير الثقة فى حكومة قدماء المصريين الجديدة. هذه المعركة ليست معركة القوى الثورية. هذه معركة الأغلبية البرلمانية الجديدة، وتحسن القوى الثورية صنعا بأن تتفاداها وتركز على معركتها الحقيقية، وهى الدستور وانتخابات الرئاسة. وحتى فى قضية الدستور، هناك معارك تخصنا وأخرى لا ضرورة لخوضها. أولى تلك المعارك التى لا تخصنا هى ما سيثور حول دور المجلس العسكرى ودور المجلس الاستشارى ودور هذا وذاك، وما سيثور من صراع حول «معايير» اختيار اللجنة التأسيسية. هذه قضايا تخص أصحابها، المجلس العسكرى وأعضاء البرلمان. أما القوى الثورية فعليها إن أرادت التأثير على شكل ومضمون الدستور القادم أن تركز على نص الدستور، أيا كان من سيكتبه. كيف؟ بثلاث خطوات محددة: البدء فورا فى بلورة موقفها من القضايا الرئيسية للدستور، ترجمة هذه المواقف لنصوص دستورية، وبدء الحملة القومية للدفع بهذه النصوص فى الدوائر الحقوقية والسياسية ولدى الرأى العام الذى سيتم استفتاؤه على النص النهائى، مع إعداد وسائل وحملات الاحتجاج إن اقتضت الضرورة. قضايا الدستور الرئيسية هى أربع: ضمان رقابة شعبية ومحاسبة فعالة من جانب السلطة التشريعية على السلطة التنفيذية، سواء كان ذلك فى نظام رئاسى أو برلمانى أو مختلط. ومدى حماية الحقوق والحريات العامة والشخصية من الافتئات والتهديد وآلية ضمان ذلك. ومدى استقلال القضاء. وضمانات استقلال الإعلام عن سيطرة الدولة ورأس المال. ستثور قضايا أخرى، حول الهُوية والمرجعية ودور القوات المسلحة، وهى قضايا هامة، لكنها ليست الأكثر أهمية، وسيتكفل بها آخرون، فلا يجب على القوى الثورية أن تهدر طاقتها فيها. حسم القضايا الأربع التى ذكرتها هو الذى سيقيم نظاما ديمقراطيا أو ديكتاتوريا، وهو أهم معركة لقوى الثورة، إن أرادت استمرار الثورة. أيها الثورى المتحمس، إن قابلت معركة أخرى بين «الآن» و«صياغة الدستور» فاعمل سمكة: تظاهر بأنك لا تراها وامْضِ فى طريقك نحو الهدف الأول، وهو صياغة دستور يرسى أساسا للممارسة الديمقراطية.