إلى الذين لا يدركون خطورة جماعات «الجاهلية الجديدة» الصاعدة هذه الأيام أهدى فى السطور المقبلة رسالة مطولة، وصلتنى من عالم بارز ومرموق ومتعدد المواهب، لولا تواضع العلماء الذى يتحلى به والسطحية المتحكمة فى اهتمامات إعلامنا، لكان اسمه معروفا للكثيرين باعتباره واحدا من أنبه وأنجب أبناء هذا الوطن. الرسالة كتبها الأستاذ الدكتور فكرى حسن، رئيس الجمعية الدولية لتاريخ المياه (صفة واحدة من قائمة طويلة بصفاته ومواقعه العلمية)، وهو يعرض فيها نموذجا فجا من نماذج تحويل العلم إلى خرافات وطرائف لأهداف وأغراض سياسية.. فإلى نصها: .. من نافلة القول، إننا بحاجة إلى معالجة التكدس العمرانى فى وادى النيل، لكن تنمية صحارينا الشاسعة تعتمد فى المحل الأول على مدى توافر المياه والطاقة، ولهذا فإن بعض طالبى الشهرة راحوا يمطروننا مؤخرا بتصريحات ومعلومات ما أنزل الله بها من سلطان عن اكتشاف أنهار وهمية وخزانات مياه جوفية مجهولة يقولون إنها تكفى لزراعة ملايين الأفدنة!! وللأسف فإن هؤلاء الذين يحشرون أنفسهم حشرا فى زمرة العلماء، وتروج لهم وسائل الإعلام بهذه الصفة، لا يلتزمون بأبسط الضوابط والأخلاقيات العلمية التى تمنع الباحث الحق من إعلان أى كشف جديد على الرأى العام قبل أن يُعرض ويُقيَّم، إما فى مؤتمر علمى وإما بعد النشر فى إحدى الدوريات العلمية المعتمدة التى لا يمكن النشر على صفحاتها إلا بعد تحكيم يقوم به 3 على الأقل من الباحثين المتخصصين فى الموضوع. غير أن ما يحدث فى مصر لا علاقة له بهذه الضوابط، وليس له مثيل فى أى بلد يحترم العلم، فالحاصل عندنا أن المجال مفتوح لطالبى النجومية والشهرة (وهى ليست من شيم العلماء)، وهو ما أفرز بدعة «العالم النجم»، الذى قد تسهم فى صنعه جماعات أو مؤسسات سياسية أو تجارية لأغراض بعيدة كل البعد عن جلال العلم. وما استفزنى ودفعنى إلى كتابة هذه السطور أننى قرأت فى عدد من الصحف الصادرة يوم الأربعاء 19/10/2011 أخباراً وتقارير عن مؤتمر صحفى عقده أحد أساتذة علم الجيولوجيا، وأعلن فيه سيادته اكتشاف ما سماه «أكبر خزان مياه جوفية فى الصحراء الغربية، يكفى لاستصلاح 4 ملايين فدان، (وهو) نهر قديم تستطيع موارده المائية تكوين دلتا جديدة (هكذا) فى المناطق المحيطة» «(المصرى اليوم) ص4، 19/10/2011»!! وبعيدا عن حقيقة أن الأستاذ صاحب هذا الكشف العلمى الخطير ليس باحثا ولا متخصصا فى الموضوع، إذ هو (حسب توصيفه فى قائمة «علماء جماعة الإخوان المسلمين» المعلنة على شبكة الإنترنت) متخصص فى دراسة طبقات الأحجار والحفريات الخاصة بالكائنات الدقيقة، ولم تتعد علاقته ببحوث المياه الجوفية مشاركته مع آخرين فى بعض الدراسات التطبيقية، وقد توصل جنابه إلى هذا الاكتشاف المذهل بعد رحلة قصيرة إلى الصحراء، وليس من خلال مشروع علمى استغرق سنوات من الدراسة بواسطة فريق متخصص! ولا نعلم كيف غاب هذا الخزان أو «النهر الجوفى» عن عشرات العلماء والباحثين فى معهدى «بحوث المياه الجوفية» و«الصحراء»، هذا فضلا عن أن معظم المعلومات التى نحتاج إليها فى استصلاح أراضى الصحراء الغربية وتنميتها معروفة منذ عشرات السنين، ويتضمنها بالتفصيل كتاب صدر عن وزارة الموارد المائية والرى بعنوان «المياه الجوفية فى مصر»، قام بتحضيره اثنان من أقدر وألمع العلماء والباحثين فى هذا المجال! ومن المعروف أن أحد مصادر المياه الجوفية المهمة هو خزان الحجر الرملى النوبى، وهو جزء من نظام إقليمى واسع الامتداد فى شمال إفريقيا والجزيرة العربية، والمياه فى هذا الخزان مصدرها مياه أمطار قديمة، كان نصيب مصر منها قليلا، قياسا على ما تسرب منها فى مسام الحجر الرملى الذى تتحرك خلاله، كما أن وجودها على بعد عميق تحت سطح الأرض يجعل كلفة سحبها مرتفعة جدا، وقد أدى الضخ المتزايد من الخزان فى منطقة الواحات إلى هبوط منسوبها إلى أعماق أبعد. وتقدر كل الكمية التى يمكن رفعها سنويا من الخزان المذكور نحو 1.7 مليار متر مكعب، وقد أظهرت نتائج دراسة علمية، استخدمت فيها نماذج رياضية للمدة من 1982 إلى 2010 أن المياه الجوفية المتاحة بالخزان يمكن أن توفر احتياجات استصلاح نحو 152000 فدان فى منطقة واحات الوادى الجديد، وهناك أيضا تقدير لكمية المياه التى يمكن سحبها فى منطقة شرق العوينات ومنخفض «سيوة»، بما لا يتجاوز 140 مليون متر مكعب فى السنة تكفى لاستصلاح 20000 فدان. أى أن إجمالى عدد الفدادين التى يستطيع خزان المياه الجوفية أو «النهر» المزعوم تلبية حاجتها لا يزيد بحال من الأحوال على 172 ألف فدان، وليس أربعة ملايين كما يزعم «نجوم العلم» المفبركون! «باقى الرسالة بعد غد إن شاء الله».