قرية أمازونية فقيرة تطل على شلال هادر، وتقبع منذ آلاف السنوات بمحاذاة شريط جبلى أخضر ضيق يجاور ضفة نهر عميق عريض يمتلئ بالتماسيح. تتعلق قلوب الجميع بالضفة الأخرى، وتتناثر إليهم كل حين أخبار عن خيراتها التى لا يتصورها عقل. تماسيح النهر الجارف جائعة دوما، واعتادت أن تأكل الخراف وأصحابها الضعفاء. محظوظ ومستحق لدعاء الوالدين من تنجح مغامرته فى العبور إلى الجنة التى رسمتها ودندشت صورتها الرائعة أساطير القدماء، ومبالغات المعاصرين. على البعد تبدو لمن يتطلع إلى هناك أشجار مثمرة يدوم قطافها على مدار العام، وصيد وفير من الغزلان والأرانب والجواميس. بناء جسر متين يعد أملا يحقق العبور من القحط إلى الرفاهية، ويمثل حلما للقرية على مدار الأجيال. الشلال الهادر يجعل العبور بالقوارب مستحيلا، وبناء الجسر يتطلب معجزة لإرساء أساسات متينة تشق عرض النهر. يقول الشباب المتحمسون: لكى نتمكن من التوغل إلى منتصف النهر لإرساء تلك الدعائم لا بد أن نطهره أولا من التماسيح. «نطهر النهر من التماسيح؟!» تعلو سخرية العواجيز وتنطلق الضحكات من أفواههم الخالية من الأسنان. هذه نكتة لم نسمع بها من قبل. أضحكتمونا بسذاجتكم. عواجيز القرية يمتلكون وحدهم الحراب والسهام ويحتكرون الحكمة. هكذا تقضى القوانين والأعراف التى ترسخت عبر الأجيال. ينقسم عواجيز القرية إلى قسمين، الأول محاربون قدماء والثانى سحرة يمتلكون أسرار التعاويذ والصلوات التى نادرا ما تنجح تلاوتها فى الإتيان بخير يطعم الجائعين فى المواسم التى يشح فيها الطعام. تتعاقب الأجيال ويتحول الجسر معها إلى حلم مستحيل يداعب الصحو والمنام. فى يوم ما يتوغل شاب فى الجبال القريبة فى رحلة للمعرفة، يعود منها ببذور لنبات مخدر يسمى سلطان النوم. يعقد الشاب مع أصدقائه جلسات ليلية سرية مطولة، يقررون بعدها زراعته فى بطن الجبل بعيدا عن أعين العواجيز. بعد جمع المحصول الثمين يفاجئ الشباب أهل القرية بخطتهم لتخدير التماسيح. يقولون بحماس إنهم سيجاهدون من أجل إنجاحها، وسيضحون بخرافهم القليلة الهزيلة التى سيقدمون لحومها إلى وحوش النهر، بعد أن يتبلونها بنبات سلطان النوم المخدر وينقعونها فى عصيره ذى الرائحة الطيبة. حاول عجائز السحرة منعهم ولا فائدة. نفذ الشباب خطتهم بشجاعة منقطعة النظير. هاجت التماسيح وماجت لكثرة اللحوم الملقاة على الشاطئ. فقد كثير من الشباب حياتهم وأطرافهم فى تلك المغامرة الرهيبة. فى النهاية تمخض اليوم عن نهر خالٍ من التماسيح التى رقدت نائمة فى القاع أو طفت على سطحه كجذوع النخيل. هلل الشباب: أخيرا حانت الفرصة لبناء أساسات الجسر. جسر العبور إلى المستقبل. نظر إليهم المحاربون والسحرة العجائز بعيون تملؤها البلادة والسخرية قائلين: هراء! أنتم لا تعرفون الأخطار التى قد تكون على الضفة الأخرى! إن بنينا جسركم هذا فقد يأتى إلينا بأسود أو بحيوانات مفترسة لا ندرى من أمرها شيئا! صاح الفتيان متعجبين: ماذا؟! نحن لم نر على الضفة الأخرى سوى كل خير. صاح العواجيز بشراسة: كيف رأيتم؟ هل عبر أحدكم إلى هناك؟ هل عاد أحد ممن عبروا قديما ليبلغنا بما رآه؟ شرح الشباب للشيوخ فكرة المناظير المقربة التى صنعوا عدساتها من الجليد الزجاجى الذى يكسو القمم الصخرية فى الشتاء، ولا جدوى. استعاذ السحرة بآلهتهم من شر انتهاكهم لحرمة الجبل. هتف الشباب بزهق: لا تهدروا الوقت. مفعول سلطان النوم لن يدوم إلا لأيام معدودات تستيقظ بعدها التماسيح جائعة. صرخ العجائز ساخطين: كان واضحا منذ البداية أن استخدامكم لنبات ملعون ينمو على قمم الجبال المحرمة سيجلب علينا الشرور! رد أحد الشباب متحديا: هذا نبات خلقه الله قبل أن يحرم الأجداد صعود الجبل. كما أننا لم نستخدمه إلا فى الخير. هذه فرصتنا لوضع الأساسات فى النهر. إن كنتم لا تريدون مساعدتنا، فاتركونا لنضعها بمفردنا قبل أن تضيع تضحياتنا هباء. رفض السحرة بنبرة صارمة قائلين: الشاطئ الآخر لا يصلح لنا! إنه مرتع للشرور والعفاريت! نحن والمحاربون أعلم منكم بذلك! وكعادة الأشياء بدأ الصراع بين الخيال والعقول المظلمة. بين الأجنحة والمقصات التى لا تحلم إلا بقصقصة الريش! تبعثرت الجهود وألقيت الاتهامات جزافا وبدلا من إنفاق الوقت فى رص صخور الجبل القريبة لاستخدامها فى بناء الأساسات. بدأت المطاردات والاعتقالات لأذكى وأشجع شباب القبيلة. أعدت المحاكمات بتهم جاهزة لكل من يلقون القبض عليه متلبسا بحلم العبور إلى الشاطئ الآخر. صارت الحياة لا تطاق واقترب موعد استيقاظ التماسيح. هل تعود القرية إلى سيرتها الأولى؟ هل تضيع الفرصة التى ربما لن تتكرر؟ الفتيان والصبايا ينتحبون. صارت العودة إلى فقرهم القديم حلما بعيد المنال بعد أن ضحوا بأذرعهم وخرافهم القليلة. ولكن على الشاطئ الذى خلا من السجناء الذين امتلأت بهم الأقفاص، كان الأطفال الصغار يلعبون فى مرح غير عابئين بالتماسيح التى بدأت تفتح أفواهها بتثاقل، وتتململ على الشاطئ فى نومها الثقيل. كانوا يتقافزون من حولها، ويغنون كلمات تقول ترجمتها للعربية: فى صحوك أو فى رقادك أيها التمساح لم نعد نخاف منك. تعلمنا كيف نزرع سلطان النوم وكيف نستخدمه، وفى المرة القادمة سنقاوم به المحاربين العجائز والسحرة قبل التماسيح! لأننا عرفنا من منهم الأكثر افتراسا لأحلامنا! وسنبنى الجسر، سنبنى الجسر، سنبنى الجسر. هذه حكاية خيالية عن قبيلة أمازونية أهديها إلى الشجاع علاء عبد الفتاح ابن الصديقين المناضلين أحمد سيف وليلى سويف، لعلها تنير شمعة فى زنزانته، وتضىء ظلمة عقل سجانه.. وتتوالى حكايات القبيلة حسب التساهيل.