ربما لم يستفد أى فصيل أو تيار، من ثورات الربيع العربى، مثلما استفاد الإسلاميون. عقود طويلة من الحظر، والمطاردة، والتنكيل، والاعتقال، والمحاكمات العسكرية، والتصفية الجسدية، عاشتها التيارات الإسلامية وقياداتها، فى ظل ديكتاتوريات عربية مستبدة، انتهت وولّى زمانها من غير رجعة، قبل أن تفتح لهم السياسة أوسع أبوابها، ويحسب صناع القرار، ألف حساب لثقلهم وتأثيرهم فى الشارع، بل تتاح لهم صياغة دستور ومستقبل البلاد والعباد، دونما أدنى اعتبار لخبرتهم الضئيلة فى العمل العام. الحركات الإسلامية فاقدة الشرعية فى عهد مبارك وبن على والقذافى، حصلت على الشرعية الحزبية فى عهد الربيع العربى، رغم أن أغلبها، إن لم يكن كلها، لم يعرف يوما سوى الجهاد المسلح، ويجد فى العمل العلنى المفتوح خطرا داهما، ولا يزال يتخذ موقفا عدائيا من مفاهيم الديمقراطية والتعددية، ويرفض حرية المرأة وولايتها، ولا يرى فى الأقباط سوى أهل ذمة، عليهم دفع الجزية وهم صاغرون، بينما الدولة المدنية، من وجهة نظر بعضهم، خطيئة، والليبرالية كفر، والعلمانية إلحاد، أما فصل الدين عن الدولة، فهو، والعياذ بالله، عناد لحاكمية الخالق عز وجل، على الأرض. ومع ذلك، ورغم المشاركات الرمزية لعدد ضئيل من رموز الجماعات الإسلامية فى بدايات الثورات، فإن مسحة إسلامية واضحة، صبغت تلك الثورات، فالإخوان والسلفيون ورموز الحركات الجهادية يتصدرون المشهد فى مصر، قبيل أيام قليلة من الانتخابات البرلمانية، فى 28 نوفمبر الجارى، ولا يبدو الأمر صدفة، أن يقتحم الثوار الليبيون العاصمة طرابلس تحت قيادة مؤسس «الجماعة الليبية المقاتلة» عبد الحكيم بلحاج، فى حين تظهر أصابع الإخوان المسلمين بقوة خلال الفترة الماضية فى الانتفاضات الشعبية، فى كل من اليمن وسوريا. ولا شك، أن تصدر حزب حركة النهضة الإسلامية، بقيادة الشيخ راشد الغنوشى، انتخابات المجلس التأسيسى لوضع الدستور التونسى، بنسبة 41.5 %، متفوقا على التيارات العلمانية مجتمعة، ومن ثم أحقية الحركة فى تشكيل الحكومة الانتقالية الجديدة فى تونس، إنما مثّل مؤشرا جديدا على قرب اتجاه دفة القيادة والحكم فى عدد من الدول العربية إلى التيارات الإسلامية الصاعدة، خصوصا أن صناديق الانتخابات النزيهة هى من باتت تأتى، بما يعرف منذ بزوغ نجم حزب العدالة والتنمية التركى، بتيارات «الإسلاميين الجدد»، إلى واجهة المشهد السياسى العربى، مما يسمح لها بتهيئة البيئة القانونية والدستورية، التى تناسب منطلقاتها الفكرية والعقائدية. فى السطور القليلة التالية، تفتح «التحرير» ملف «إسلاميو الربيع العربى»، فى محاولة لرسم صورة أو خريطة تفصيلية لهم عن قرب، ولاستشراف مستقبلهم، ومدى قدرتهم على التعايش مع الآخر السياسى على أساس من المواطنة والتعددية ووفق قواعد الديمقراطية، وقبل هذا وذاك، مدى قدرة الإسلاميين الجدد على الوصول إلى سُدة السلطة والحكم، ولماذا فشلت الجماعات الإسلامية، السلمية منها والعنيفة أيضا، فى السابق فى قيادة ثورات إسلامية فى البلدان العربية على غرار ثورة الخومينى فى إيران؟ إخوان مصر.. لا يعرفون طريق «الغنوشى» الهلباوى: التيارات السلفية حجَّمت أنشطة الجماعة.. ومصر تختلف عن تونس باحث تونسى: حركة النهضة تسعى إلى دولة مدنية لا دينية.. ولا تعتبر الانتخابات تفويضا إلهيا عبد الفتاح: جماعة الإخوان تواجه أزمة مع تيارات اليمين السلفى الفوز العريض الذى حققته حركة النهضة التونسية ذات الجذور الإخوانية، بقيادة راشد الغنوشى، ونجاحها فى حصد 41.5% من مقاعد المجلس التأسيسى لوضع الدستور، فى أول انتخابات عامة فى تونس بعد سقوط بن على، وما ترتب على ذلك من أحقيتها فى تشكيل الحكومة الانتقالية الجديدة، يطرح تساؤلا عريضا، حول إمكانية أن تكرر جماعة الإخوان المسلمين فى مصر، عبر ذراعها السياسية (حزب الحرية والعدالة) الانتصار ذاته، خصوصا مع قرب انطلاق ماراثون انتخابات مجلس الشعب المصرى، فى 28 نوفمبر الجارى؟ جماعة الإخوان من جانبها، تقدم دوما إجابة جاهزة، كلما تكرر على مسامعها مثل ذلك التساؤل، بالإشارة إلى أنه لا وجه للشبه بينها وبين أى فصيل خرج من رحمها فى أى بلد عربى أو إسلامى، استنادا إلى مبرر أن الظروف والبيئة مختلفة. إجابة تبدو منطقية، لكنها منقوصة أيضا، فالإخوان لا يتطرقون أبدا إلى أوجه الاختلاف الفكرى بينهم وبين نظرائهم فى التيارات الإسلامية الأخرى، خصوصا فى ما يتعلق بمواقفهم الملتبسة من المواطنة والمرأة وولاية الأقباط، وغير ذلك من الأمور التى لا يزال الإخوان يتشبثون بمفاهيم رجعية ومنغلقة حولها، بينما فصيل كحركة النهضة التونسية، قد حسمتها منذ عقود. القيادى فى جماعة الإخوان المسلمين الدكتور كمال الهلباوى، استبعد قدرة الإسلاميين فى مصر، وفى القلب منهم الإخوان المسلمون، على حصد نسبة حركة النهضة التونسية، بدعوى أن أنشطة إخوان مصر «محجَّمة»، فى ظل تنوع التيارات السلفية، إضافة إلى أن الأوضاع فى مصر «لا تتشابه مع مثيلاتها فى تونس»، استنادا إلى أن العلمانية فى تونس كانت أشد، لكن عقب الإطاحة بالرئيس بن على، بدا أن الشعب التونسى أقوى، حيث نجح فى حظر فلول نظام بن على، قبل أن يجرى انتخابات نزيهة وشريفة. فى المقابل، يرفض الهلباوى التسليم بافتقار الحركة الإسلامية إلى مشروع سياسى متكامل، وقال إن الإسلاميين فى العالم العربى ككل «لديهم مشروع متكامل وواضح المعالم»، لافتا إلى أن قواعد ذلك المشروع وُضِعت منذ أيام الإمام حسن البنا، قبل أن يتبلور المشروع السياسى مع بداية السبعينيات من القرن الماضى، فى فلسطين والأردن وسوريا وتونس والجزائر والسودان. من جانبه قال الباحث التونسى المتخصص فى شؤون الجماعات الإسلامية يوسف الزرقى، إن فوز حركة النهضة بالانتخابات التونسية «ليس أمرا غريبا»، استنادا إلى وجود عديد من المعطيات لذلك الفوز، أهمها وجود الحركة فى الفضاء السياسى التونسى منذ نشأتها فى عام 1969، ورغم بقاء زعيمها راشد الغنوشى خارج تونس طيلة 21 عاما، فإنه خاض معارك ضارية مع بورقيبة وبن على، كما أنه قدم كثيرا من التضحيات، كما سُجن من أعضاء حركته عدد كبير من الكفاءات العلمية التونسية. الزرقى قال فى اتصال هاتفى مع «التحرير» من تونس، إن «الشارع التونسى اختار حركة النهضة، بهدف الحفاظ على الهوية التونسية الإسلامية فى مواجهة العلمانية، ولو أن الانتخابات الأخيرة من أجل تشكيل المجلس التأسيسى الخاص بصياغة الدستور لكانت النسبة التى حققتها الحركة، أقل من ذلك» على حد قوله. «لا يختلف مفهومه عن مفهوم رئيس الوزراء التركى رجب طيب أردوجان» يشير بها الزرقى إلى موقف الغنوشى من العلمانية، واعتبار أن الدولة محايدة إزاء الدين، وفى الوقت ذاته الدين يجرى مجرى الدم فى شريان الشعوب، كما هو حال حقوق المرأة والسعى نحو الحداثة، قبل أن يفصح بوضوح عن قاعدته فى أن الإسلام «ليس وراءنا، بل أمامنا، وعلينا أن نصل ونتقدم إليه»، لافتا إلى أن حركة النهضة التونسية، تدعو إلى وسطية الإسلام الحقيقية وترفض الغلو، وتسعى إلى دولة مدنية لا دينية، بينما تُعلِى من مبدأ المواطنة، قولا وفعلا، ولا تتعامل مع الانتخابات على أنها تفويض إلهى، ولكن محل محاسبة، ناهيك باقتناع قادتها بأن التشريعات تُستمَد من الشعب، وذلك على عكس عديد من التيارات الإسلامية فى مصر، التى تعتبر ذلك نوعا من مخالفة الشريعة الإسلامية. رغم ذلك، لا يرى الباحث التونسى أن حركة النهضة تسير على خطى حزب التنمية والعدالة التركى، وقال «العكس هو الصحيح، فتركيا استلهمت من حركة النهضة نموذجها». مشيرا إلى أن ما يجمع مشروع الإخوان المسلمين فى مصر، بمشروع حركة النهضة التونسية، هى الخطوط الكبرى، بينما يظل الاختلاف فى التفاصيل، خصوصا أن حركة النهضة ليست حزبا إسلاميا، كما أنها أعلت من مفاهيم الدولة المدنية والديمقراطية والمرجعية القانونية، مما مكنها من تقديم رؤى تخاطب الشأن الداخلى التونسى وكذلك المجتمع الدولى. أستاذ العلوم السياسية فى جامعة القاهرة الدكتورة هبة رؤوف، ترى أن سبب نضج التيار الإسلامى فى تونس، على عكس التيار الإسلامى فى مصر، إنما يرجع إلى أن الأخير «لم يستطع حتى هذه اللحظة حسم مواقفه من المرأة والأقباط»، معتبرة أن وجود التيارات الإسلامية على الساحة المصرية «يقاس بقدرتها التنظيمية»، إلا أن تصريحات قياداتها «دائما ما تؤكد وجوب مراجعة تلك التيارات مواقفها»، قبل أن تقر بأن انفتاح قيادات حركة النهضة فى تونس، وحزب العدالة والتنمية فى تركيا، جاء نتيجة «اتصالهما بأوروبا، وتأثرهما الواضح بها، فى كيفية تقديم أنفسنا إلى الآخر». «حركة النهضة أكثر ليبرالية وانفتاحا من التيارات الإسلامية العربية والمصرية» هكذا يرى أستاذ العلوم السياسية فى جامعتى القاهرة وميتشيجن الأمريكية، الدكتور المعتز بالله عبد الفتاح، لافتا إلى أن قيادات الحركة هم أبناء مخلصون لرفاعة الطهطاوى ومحمد عبده وأحمد فارس الشدياق وجمال الدين الأفغانى، ومن ثَم يغلب على منهاجها فقه أكثر تجاوبا مع فقه الواقع، بينما الثوابت لدى الحركة ترتبط بالعقيدة والإخلاص، فى حين يغلب على جماعة الإخوان المسلمين فى مصر «نوع من السلفية والمغالاة فى القراءة الحنبلية للفقه والعقيدة»، بجانب افتقار الجماعة إلى «كاريزما أو شخصية قيادية ومفكرة، على غرار الغنوشى، الذى يجمع بين الفكر والفقه والجانب السياسى». عبد الفتاح، يرى المقابل المصرى للغنوشى، فى الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح، لكنه يرى أنه «رجل حركى، أكثر منه منظِّرًا»، إضافة إلى أن الغنوشى «جمع بين ثبوت الفقه، وإبداعات الفكر، ومناورات السياسة»، مؤكدا أن حزب الوسط، يعد «أقرب الأحزاب الإسلامية، من حيث التشابه فى الرؤية مع حركة النهضة التونسية». فى المقابل أكد أن إخوان مصر، يواجهون «أزمة أوسع من مواجهة العلمانية، هى اليمين الدينى المتمثل فى السلفية».