مثلما كانت مهمته ثقيلة فى معارضة النظام التونسى القديم الذى دفع ثمنه غاليا على شكل إبعاد واضطهاد وعداء واضح من قِبل نظام بن على، تكون هى مهمته الآن، وهى إصلاح إعلام ظل طوال عقدين لا يعرف إلا تمجيد الرئيس وتلميع نظامه. وبينما يقبع الرئيس التونسى المخلوع فى جدة هاربا، جاء من اضطهده النظام القديم ليكون رئيسا لهيئة مستقلة مهمتها هى إصلاح الإعلام التونسى بعد الثورة ليليق بإعلام دولة ديمقراطية حرة. إنه الأستاذ كمال العبيدى صاحب التجربة الصحفية المتميزة والمسيرة النضالية الطويلة التى تعود إلى السبعينيات حيث كلفته مواقفه الرافضة لصحافة دون حرية سلْب حقوقه، وعمله من وكالة «تونس إفريقيا» للأنباء، وبعدها مُنع من العمل الصحفى مراسلا لصحيفة «لاكروا» الفرنسية ووكالة «يونايتد برس الدولية» عقابا على رفضه ما تتعرض له حرية الصحافة والصحفيون من تنكيل ومضايقات... ليواصل مسيرته النضالية ضمن هيئات ومنظمات دولية بارزة فيصبح إحدى أهم الشخصيات العالمية المعروفة بنضالها المستميت من أجل الحرية، تحديدا حرية الرأى وحرية الكلمة. عمل العبيدى مستشارا للجنة الدولية لحماية الصحفيين فى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، ومستشار الشبكة الدولية لتبادل المعلومات حول حرية التعبير، كما عمل مديرا للفرع التونسى لمنظمة العفو الدولية. ثم عمل منسقا لبرنامج التربية لحقوق الإنسان فى شمال إفريقيا والشرق الأوسط بمنظمة العفو الدولية، ليخرج من تونس عام 1996 نتيجة الاعتداءات على حرية الصحافة. وبعد نحو 8 أشهر من تولى منصبه رئيسا للهيئة الوطنية المستقلة لإصلاح الإعلام والاتصال، كان ل«التحرير» هذا الحوار مع العبيدى للوقوف على حالة «إعلام الثورة» فى تونس: ■ ما طبيعة مهمة الهيئة الوطنية لإصلاح الإعلام والاتصال؟ - كما يعلم الجميع، تونس كانت فى عهد بن على من أكثر الدول عداء لحرية الصحافة وتنكيلا بالصحفيين الناقدين للنظام أو الحريصين على القيام بعملهم حسب معايير المهنة وأخلاقياتها، فما حدث فى تونس هو مثل ما حدث فى عدة دول تخلصت من نظام مستبد، فتم تكوين هيئات مستقلة لإصلاح الإعلام، وهو ما حدث فى جنوب إفريقيا، بعد الخلاص من نظام التمييز العنصرى، فالهيئة تم إنشاؤها فى شهر مارس، ومهامها هى إصلاح الإعلام التونسى وجعل هذا الإعلام خصوصا من حيث الإطار القانونى والتشريعات يتلاءم مع المعايير الدولية لحرية التعبير، فكانت هناك تشريعات مقيدة للحريات، وكان هناك قانون صحافة لا يختلف كثيرا عن قانون الصحافة والمطبوعات فى مصر أو فى الأردن، وهى القوانين التى كانت تجرّ الصحفيين إلى السجن بمجرد كتابة مقال ينتقد أداء السلطة، حيث يتم توجيه تهمة السب والقذف بسبب مقال ينتقد وزيرا أو الرئيس، أو حتى رئيس دولة أجنبية. ■ ما الذى تغير بالنسبة إلى هذه القوانين؟ - قانون الصحافة مجمَّد فى الوقت الحالى، خصوصا الفصول التى تتضمن عقوبات السب والقذف، وهناك قانون جديد تم التصديق عليه من مجلس الوزراء منذ ثلاثة أسابيع ولكنه لم يدخل حيّز التنفيذ، هذا القانون هو بديل للقانون المعمول به فى النظام السابق. ■ ما مواد القانون الجديد؟ - إلغاء وحذف العقوبات السالبة للحرية فى قضايا النشر، كذلك إلغاء عقوبة الحبس فى قضايا الرأى، فالقانون الذى تم الاستغناء عنه فيه نحو 15 بندا ينص على الحبس فى قضايا النشر، والقانون الجديد فيه 3 بنود تنص على الحبس فى حالات محددة مثل التحريض على القتل أو على الكراهية أو على العنف، أو فى حالة توزيع منشورات إباحية، وجميعها ضوابط موجودة فى الفصل التاسع عشر لعهد الحقوق المدنية والسياسية فى كل دول العالم، حتى الراسخة منها فى الديمقراطية، فطبيعى أن يكون هناك استثناءات، ولكن حرية التعبير هى القاعدة. ■ ما إنجازات الهيئة حتى الآن؟ - أسهمنا فى إعداد مشروع قانون صحافة يقترب أكثر من المعايير الدولية لحرية التعبير، أسهمنا كذلك فى إعداد قانون لتنظيم القطاع السمعى والبصرى، وهذا القانون سيستحدث بمقتضاه هيئة جديدة تسمى «الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعى البصرى»، هذه الهيئة ستشرف على الإعلام الإذاعى والتليفزيونى وستتولى منح تراخيص للإذاعات والقنوات التليفزيونية الجديدة، وستكون هى الضامنة لحرية الإعلام، والهيئة مثل بقية الهيئات الموجودة فى الدول الديمقراطية، مثل هيئة «الأوفكوم» فى بريطانيا، والمجلس الأعلى للإعلام السمعى والبصرى فى بلجيكاوفرنسا، وهذه الهيئة مستقلة تتكون من تسعة أعضاء يتم تعيين رئيسها من قِبل رئيس الدولة، ويتولى رئيس مجلس النواب تعيين عضوين آخرين، بالإضافة إلى وجود أعضاء يمثلون الصحفيين والإعلاميين. ■ ألا يشكّل تعيين رئيس الهيئة من قِبل رئيس الدولة خطرا على استقلالية عملها؟ - ربما، لكن ما سيحدد ذلك هو مدى تقدم المجتمع على طريق الديمقراطية، انظر مثلا إلى ما يحدث فى فرنسا، فهناك الهيئة المماثلة للهيئة هنا تسمى «المجلس الأعلى للإعلام السمعى والبصرى»، وتتكون من تسعة أعضاء، 3 أعضاء بمن فيهم رئيس المجلس يعينهم رئيس الدولة، و3 أعضاء آخرون يعينهم رئيس مجلس النواب، و3 يعينهم رئيس مجلس الشيوخ، ففرنسا دولة ديمقراطية والرئيس منتخَب بطريقة ديمقراطية، صحيح هناك خطر على الاستقلالية خصوصا إذا كان رئيس الدولة غير منتخب، فإذا كان الرئيس مبارك أو بن على هو الذى يعين فبالطبع لن يكون هناك استقلالية، ولكن إذا كان الرئيس منتخبا ديمقراطيا فإن أداءك وسلوكك لن يكون مثل أنس الفقى أو صفوت الشريف، لأن السياق السياسى العام المبنى على الديمقراطية لن يسمح بتكرار مثل تلك النماذج. ■ أين ذهبت وزارة الإعلام؟ - تم إلغاء وزارة الإعلام تماما بمجرد هروب بن على فى شهر يناير الماضى، فتلك الوزارة تصنعها الأنظمة الشمولية والمستبدة فقط، وتم أيضا تجميد وكالة الاتصال الخارجى التى كانت مهمتها الدعاية والتضليل، حيث كانت تستدعى باستمرار صحفيين من مختلف أنحاء العالم بما فى ذلك المنطقة العربية ومصر وتقديم أموال طائلة لصحفهم فى مقابل كتابة مقالات تمجد نظام الرئيس المخلوع، فكان هناك زملاء من صحف مصرية يأتون إلى تونس سنويا ويتم استقبالهم بضيافة من الحكومة ليعودوا إلى مصر لكتابة المقالات التى تتغنى بالديمقراطية التى تعيشها تونس فى عهد بن على، وكيف أن الرئيس التونسى مصلح ويحترم حقوق الإنسان، بينما كان الجميع يعلم حقيقة ذلك النظام المستبد. ■ ومتى كانت آخر تلك الزيارات؟ - فى نوفمبر الماضى، أى قبل شهرين من بدء الثورة. نستكمل الحوار غدا.