منذ 11 فبراير 2011 عندما أسقط الثوار رأس النظام الفاسد، وقام من لا يملك بإسناد إدارة البلاد إلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وأنسى زهو الانتصار الثوار أن يضعوا قواعد وشروطا لتأمين الثورة وتحقيق أهدافها، واكتفوا بالاحتكام إلى التاريخ الوطنى لجيشهم.. وهو ما يكفى فى الحروب ولا يكفى فى السياسة وإدارة شؤون الحكم.. من يومها لم يعلن المجلس العسكرى ما ينتظره ملايين البسطاء البعيدين عن الثروة والسلطة وألاعيب السياسة والمصالح! وجبة البسطاء المنتظرة من الثورة من مكاسب ونجاحات تسهم فى تخفيف آلامهم وتهديهم الأمل والثقة فى أن الثورة تحرك حياتهم إلى الأفضل والأكثر رحمة، هل سمع الناس أخبارا عما تم إيقافه من إهدار للمال العام؟ هل عرفوا شيئا عن السياسات التى اتسعت مع المليارات من دخلهم القومى، ولحمهم الحى، التى كانت تذهب إلى جيوب زعماء وأعضاء العصابة الحاكمة؟ ماذا عن ميزانيات رئاسة الجمهورية والديوان الملكى؟! وكيف تم التعامل مع ما كان يطلق عليه نفقات سرية من مليارات كانت تنفق لشراء الذمم والولاءات الحزبية والفاسدة؟ كيف يتم التعامل مع المرتبات الفاحشة والفاجرة لمن تم القبض عليهم ولمن لا يزالون يواصلون؟ وماذا فعلتم بالأرقام الأسطورية التى كنا نسمعها عما أطلقوا عليه الصناديق الخاصة؟ وماذا استرد مما نهب ودفع فوق الموائد وتحتها من مليارات فى سرقة وخصخصة مؤسسات الدولة؟! وما مصادر الإنفاق الآن ولم نسترد جنيها واحدا من الثروات المنهوبة؟! ما حجم هذه الأموال وكيف تم ترشيد إنفاقها (هذا إن كان من الأساس حدث تصحيح أو مراجعة أو وقف لنزيف وإهدار المال العام)؟ ألم يكن للثورة أى عائد إيجابى فى حياة الملايين الذين دفعوا الأثمان الأكثر قسوة لفساد واستبداد وسرقات ونهب النظام السابق؟! أين مخططات استرداد أموال ومكاسب الثورة؟ أو أنه لم تكن هناك إرادة لاسترداد هذه الأموال أو لتحقيق مكاسب للملايين، واكتفى بأن تكون أخبار الثورة أزمات وحفلات دم وقنص وقتل وفوضى وعصابات وبلطجة.. هل هو تصنيع منظم للكفر بالثورة؟ لماذا تركت على حالها المأساوى «الفقر- البطالة- العشوائيات- المستشفيات- المدارس المتهالكة». لا أعرف فى أى الصحف قرأت هذا الأسبوع عن واحدة من مدارسنا التى يجلس فيها التلاميذ فى الفصول على الأرض، فى هذه المدرسة وضعوا لهم حصيرة لم تستطع أن تحميهم من المياه الجوفية أو مياه الصرف الصحى التى أغرقت أرض المدرسة، لا الفلاحون ولا العمال ولا المدرسون أحسن حالا، وحجة المجلس العسكرى كما كانت حجة النظام الساقط «نجيب منين»؟! وهى الحجة الدائمة لمن لا يعرفون ولا يدركون ما يضمه هذا الوطن من خير وثروات تحتاج إلى الإرادة والإدارة الوطنية والخبرة السياسية، وعدم الخوف من الاستعانة بالخبرات والإبداعات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية التى تمتلئ بها مصر. أحدث حلقات الفشل الاقتصادى والسياسى دفعة جديدة من الديون.. العنوان الرئيسى للأهرام (24/10) «مفاوضات للحصول على 35 مليار دولار لسد العجز فى الموازنة العامة للدولة»، وتصريح لوزيرة التخطيط والتعاون الدولى، أحد نشطاء مدرسة الاستدانة، أن مصر ستحصل على نصف المساعدات المقدمة من مجموعة الثمانى الصناعية الكبرى ودول الخليج وصندوق النقد والبنك الدولى وتونس والمغرب والأردن، وأنه فى يوم الأربعاء 26 الحالى تجرى فى القاهرة مباحثات بين مصر وصندوق النقد الدولى، بشأن قرض المليارات الثلاثة من الدولارات، وفى (22/10) نشرت «التحرير» أن أغلب التقارير الحكومية تقول إن الاقتصاد المصرى ينزف، وإن الاستدانة سواء الداخلية أو الخارجية تستنزف ما قيمته 30٪ من الدخل القومى، مما يعنى تراكم وتضخم العجز، وفى التقرير أشار د.مصطفى النشرتى، أستاذ التمويل والاستثمار، إلى أن أذون الخزانة والسندات المطروحة فى السوق، قامت البنوك بشرائها بنحو 40٪ من الودائع الموجودة فى البنوك، إضافة إلى 10٪ أخرى من حجم الودائع تم توظيفها بالخارج.. هل يعنى هذا أن نصف ودائع المصريين بالبنوك دخلت جيب الاستدانة أو لحقت بمصير التأمينات والمعاشات؟! وما الاستثمار التنموى الذى وضعوا فيه؟ كيف تفسر هذه الإدارة للمال العام؟ وأين خرائط وأرقام ما أنقذته الثورة ووقفته من إهدار للمال العام، هذا إن كان قد حدث بالفعل إنقاذ أو وقف أو تصحيح؟! ■ فى مئات المقالات التى كتبتُها قبل ثورة 25 يناير مناهضة للنظام الحاكم والتى امتلأت بوثائق الإدانة والخيانة ومخططات إبادة الجماعة المصرية، كان فى مقدمة أدلة الإدانة ما يتوفر لمصر وللمصريين من مقومات للإنقاذ وعوامل القوة البشرية والطبيعية القادرة على توفير الإنقاذ، ولكن كان إقصاء واستبعاد عوامل القوة وتمكين الفساد والإفساد من ضرورات حماية واستقواء النظام الساقط. ماذا نقول الآن وبعد قيام ثورة عظيمة أدهشت الدنيا ثم مُنعت عنها جميع مقومات الحماية وفى مقدمتها استثمار وتعظيم ما لديها من قوى معجزة بشرية وطبيعية للإنقاذ؟ ■ عجز أم تواطؤ؟! النتيجة واحدة ندفعها كما دفعتها دائما جموع وملايين المصريين الذين دفعوا كرامتهم وحرياتهم وموت آمالهم وطموحاتهم وأمنهم المصرى والقومى ثمنا لفساد واستبداد النظام الذى أسقطته ثورتهم.. ويدفعونه الآن لاستكمال سرقة الثورة وإعادة التطبيع مع الماضى الأسود الذى يُستكمل بمهزلة الانتخابات! ■ يوم الجمعة الماضى وأمام برنامج تليفزيونى بعنوان «مصر بتتغير»، على الفضائية المصرية، استمعت إلى الخبير الاقتصادى د.صلاح جودة يطرح ورقة إنقاذ للاقتصاد المصرى تقدم عشرات الخطط العملية المصحوبة بأدق الأرقام التى يمكن أن توفر للاقتصاد المصرى الثقافى وتغنى عن الاقتراض من الخارج أو الداخل، وهو صوت واحد من آلاف من أصوات الخبرة المصرية المتوفرة فى جميع مجالات الحياة والقادرة على توفير فورى لحلول معجزة. ■ إذا كنتم جادّين وأمناء على هذا الوطن فاستعينوا بهذه الخبرات وأنقذوا المصريين من أن يظل فكر العجز وعجز الإرادة الوطنية وفقر الفكر وورثة الماضى الأسود وامتداداته ومدارس الاستدانة فى حماية الماضى وإعادة استنساخه بإدخاله فى نسيج الثورة أو بتفكيك الثورة وإدخالها فى نسيج الماضى كما حدث فى المقدمات والترتيبات الأولية لمحنة الانتخابات التى قام فيها أغلب الأحزاب والقوى السياسية بتحويل الماضى الأسود ورموزه ونوابه ومزوّريه وكبار فسدته إلى أطواق نجاة انتخابية! وفى الاثنين.. الانتخابات وإدارة أمور البلاد، وخصوصا شؤونها الاقتصادية ومصادر دخلها وثرواتها البشرية والطبيعية، ما زالت عشرات الملايين من الأكثر ألما واحتياجا وضعفا وجوعا وفقرا ومرضا وبطالة تنتظر الإنقاذ من الله.. نرجو أن لا يفرغ صبرها ويكمل انفجارها على ما تبقى من فرص لبناء عدالة اجتماعية حقيقية تحقق ما طالبت به ثورة 25 يناير وأهدر وبدد إما بسوء الإدارة وإما بسوء النيات والأهداف.