أتذكر جيدا قبل عشر سنوات عندما كنت أقابل المخرج التونسى الكبير رضا الباهى فى المهرجانات السينمائية، كم كان سعيدا وهو يتحدث عن فيلمه القادم «ديما براندو» وديما بالتونسية تعنى دائما.. البعض كان يتشكك فى جدية المشروع متسائلا وربما ساخرا كيف أن النجم الأسطورى الكبير مارلون براندو يقبل أن يشارك فى فيلم ميزانيته محدودة ومخرجه عربى.. كانت فكرة الفيلم تتناول حكاية شاب صار متيما بحب مارلون براندو، لأن ملامحه تتشابه معه والناس تطلق عليه براندو، وأكد لى وقتها المخرج أن براندو اختار السيناريو من بين عشرات الأفكار التى تعرض عليه، وأن الباهى سعى لبراندو ليس فقط لقيمته الفنية، ولكن لأن هذا الفنان كانت له مواقفه السياسية التى لا يستطيع أحد أن يزايد عليه فيها، مثل مناصرته الهنود الحمر ودفاعه عن حقوق الفلسطينيين.. كان هذا المشروع هو حلم عمر رضا الباهى وهو واحد من أفضل المخرجين فى تونس، الذى سبق وأن شاهدت له عديدا من أفلامه التى كثيرا ما أثارت إعجابى، حيث تشغله دائمة تيمة العلاقة بالآخر مثل «شمس الضباع» و«السنونو لا يموت فى القدس» و«صندوق عجب»، وفيلمه الأخير ترى فيه أيضا هذا الجانب، لكن القدر كان له رأى آخر مات براندو قبل سبع سنوات فقرر الباهى أن يتحدى القدر.. صحيح أن براندو كان دوره محدودا على المستوى الزمنى فى السيناريو، مثلما شاهدناه من قبل فى الفيلم الشهير «سفر الرؤية الآن»، إخراج فرنسيس فورد كوبولا. لكن المشاهد التى شارك فيها براندو لمدة 15 دقيقة هى التى منحت الفيلم الأمريكى عمقه، وتلك هى المشكلة التى عاشها الباهى أنه لا يملك شيئا مصورا لبراندو قدمه مباشرة للفيلم، صحيح أنه كان فى المشاهد الأخيرة لفيلمه «ديما براندو» يمسك بأشرطة يؤكد أنها تحوى تسجيلات صوتية لبراندو، إلا أنه فى الفيلم كان يروى عما بحوزته من لقاءات ولا يقدم الوثيقة بصوت براندو.. هل هو يكتب بكائية مصورة عن الفيلم الذى حالت الأقدار دون تقديمه.. فلقد كان المخرج يبدو فى كثير من الأحيان مثل من عثر على زرار وقرر أن يصنع له بدلة.. الفيلم يتخبط على مستوى السيناريو فيقدم كل شىء من الأرشيف، لا أعنى فقط لقطات أرشيفية ولكن مشاهد مرت علينا من قبل فى كل الأفلام المشابهة.. البطل الذى يشبه براندو يقدم تنازلات أخلاقية من أجل أن يحقق حلمه بالسفر إلى أمريكا، ونرى خطيبته تُقدم نفسها إلى رجل ثرى لكى توفر له مصاريف الهجرة، ولكنه بدلا من السفر إلى هوليوود يقرر الرحيل إلى إيطاليا فيلقى حتفه فى البحر.. المكان الرئيسى للأحداث فى قرية تونسية، فنرى كواليس الفيلم الأمريكى ويقدم شخصيات القرية التونسية لنرى بعضهم يبيع شرفه زهاء بضعة دولارات. ما الذى يتبقى فى الذاكرة من «ديما براندو»؟ سننسى كل شىء ونتذكر فقط أن الذى استحوذ على المخرج رضا الباهى هو إصراره على تحدى الأقدار التى خطفت منه فى اللحظات الحاسمة نجمه الأثير براندو، فلم تكن قضية الفيلم هى تحليل مشاعر البسطاء مثلا عندما يجدون الأضواء والدولارات فيستسلمون لها.. الشاشة لم تقل سوى إن هناك إحساسا بالمرارة لدى المخرج بعد أن فقد مشروع عمره الذى كان سيصعد به من خلال اسم مارلون براندو إلى العالمية.. أراد الباهى أن يبنى بيتا فى الهواء بعد أن فشل فى تحقيقه على شريط سينمائى! تذكرت ما حدث -مع الفارق بالطبع- فى فيلم «حليم» عندما وجد صناع الفيلم أن لديهم نحو 15 دقيقة صورها أحمد زكى قبل رحيله مجسدا فيها شخصية عبد الحليم، فقرروا أن يستثمروا هذه الدقائق فى صناعة فيلم.. هذه المرة كان الأمر أصعب، لأن الباهى لم يكن يملك شيئا سوى الأفلام السينمائية القديمة لبراندو فقرر تركيب مشاهد عليها.. مات براندو قبل التصوير بسبع سنوات ومات فيلم «ديما براندو» فى أثناء مشاهدته.. إنها مرثية مخرج يبكى سوء حظه بعد أن فقد بطله فقرر أن يصنع من هذه الحالة فيلما.. وليته لم يفعل!