حين تقدم الجيوش تضحيات لا ينبغى أن تمن بها على الشعب. لماذا؟ لأن التضحيات تضحيات الشعب. الجندى الذى قدم حياته هنا هو ابن مواطن ومواطنة، وأبو مواطن ومواطنة، وأخو وقريب وصديق مواطنين ومواطنات. هم الذين يبكونه، وهم الذين يفتقدونه حقا، هم الذين يتيتمون من بعده أو يفقدون عائلهم. الجيش هو المؤسسة التى تجمع هؤلاء المواطنين فى نظام معين. لذلك فإن أحدا كائنا من كان لا يكتسب قدسية لأنه قائد جيش. بل هو موظف يدفع له المواطنون راتبه من قوت يومهم، ويضعون أرواح أبنائهم تحت تصرفه. إن أحسن التصرف فبها ونعمت، وإن أساء أقالوه، لأن فى الإساءة ضياعا لأرواح أعز ما لديهم، أبنائهم وأوطانهم. ورب رجل فقير، أشعث، أغبر، يقف إلى جانبك فى الأتوبيس لا يبالى به أحد، له ابن رابض على الحدود. هذا الرجل ضحى من أجل الوطن. ورب مسؤول عسكرى كبير ويؤدون له التحية استطاع من خلال سلطته أن يهيئ لابنه خدمة عسكرية «خمسة نجوم»، بل رب ضابط ذى رتبة كبيرة لم يطلق فى حياته طلقة واحدة فى مواجهة، وعلاقته بالجيش كانت مميزات على طول الخط -فيلا هنا وشاليه هنا، وشقة هناك. حلال عليه- أو ربما حرام! هذا شىء يحدده القانون المدنى الذى يجب أن نقف كلنا أمامه سواء. هل اتفقنا على ما سبق؟ أتمنى ذلك. لأننا يجب أن ننساه ونحن نناقش قضية أخرى، هى وضع المجلس الأعلى للقوات المسلحة فى الفترة الحالية. القضيتان منفصلتان. اتفاقنا على ما سبق لا يتبعه بالضرورة أن أشن حربا «مقدسة» -أيضا- على كل ما يصدر من المجلس العسكرى. حزب الكنبة يقول إن المجلس العسكرى (الجيش كما يطلق عليه) هو العمود الذى ترتكز عليه الدولة المصرية فى الوقت الحالى. اسخر منه كما شئت. لكننى أقول لك إن مقولته ليست بعيدة عن الصواب. ليس لأن المجلس مقدس ولا منزه عن الخطأ، لكن لغياب البديل الذى تتفق عليه القوى السياسية ويحظى بتفويض شعبى. هل قرأت الجملة السابقة جيدا قبل أن تتهمنى بالمداهنة، أو بأنى كذا وكذا؟ انتقد المجلس كما تشاء، هكذا أقول لنفسى، وهكذا يضطرنى المجلس بسياساته الغريبة التى يكشف بعضها عن سوء نية لأن أفعل طوال الوقت، لكن دون أن تغفل عن كل الصورة. أبلغ تشبيه للوضع هو الجملة العفوية المتداولة حاليا: الشعب المصرى والجيش عاملين زى واحدة عارفة إن جوزها بيخونها بس بتطنش علشان البيت ميتهدش. أنا من المؤمنين بأن الوضع المثالى بعد الثورة كان تشكيل مجلس رئاسى مدنى بمشاركة عسكرية، ثم تشكيل هيئة لكتابة الدستور، إلخ. لكن هذا لم يحدث. وما دام لم يحدث فعلىّ أن أتعامل مع الوضع القائم. حاولنا أن نقنع الناس بالانحياز إلى خارطة الطريق التى أشرت إليها سابقا لكننا لم نفلح. أولا لتقصير منا فى مخاطبة «حزب الكنبة» الذى، إن كنت لا تعلم، سيكون العامل الحاسم فى الانتخابات، وثانيا: بسبب انتهازية بعض القوى السياسية التى تعيش فى دور عبده مشتاق للمقاعد النيابية، وثالثا بسبب المجلس العسكرى نفسه الذى يريد أن يحافظ على امتيازات العسكريين، والذى يسخر جهاز الإعلام الحكومى على طريقة مبارك. شىء محبط. لكن هذا ما حدث. وعلينا أن نتعامل معه بشكل لا يجعلنا بعد ذلك نتحسر على وضعنا الحالى. لا يعنى هذا التوقف عن الضغط، وعن استخدام الأساليب السلمية المشروعة لاستكمال مطالب الثورة والحصول على حقوق الشهداء والمصابين، بل تعنى إعادة توزيع الجهد، تكثيفه فى هذا الاتجاه وتخفيفه فى ذاك، للوصول إلى الهدف الاستراتيجى، وهو بناء مصر الجديدة والوفاء لدماء المواطنين الذين ضحوا بأرواحهم. استدراك أخير أوجهه للمجلس العسكرى صاحب شعار «ثورة الشعب والجيش»: الطبيعى أن الجيوش تضحى بأرواحها لحماية مكتسبات المواطنين، لا أن تستخدم تضحيات مواطنين بأرواحهم لحماية امتيازاتها. استدراك آخر: كيف يطالب جيش لم يقدم شهيدا فى ثورة، شعبا قدم أكثر من 800 شهيد فى الثورة نفسها بأن يحترم تضحياته؟ احترموا تضحيات أهالى الشهداء يرحمكم الله، هذا أقل واجب