جامعة الأقصر تنظم أول ملتقى توظيف لخريجي جنوب الصعيد    الدفاع المدني بغزة: رائحة الجثث تحت الأنقاض بدأت في الانتشار بكل أنحاء القطاع    شيحة: مصر قادرة على دفع الأطراف في غزة واسرائيل للوصول إلى هدنة    استبعاد أفشة والشناوي.. قائمة الأهلي لمواجهة الإسماعيلي    رئيس نادي كريستال بالاس يهاجم صلاح.. ليس جيدًا كما يصوره الناس    السجن 15 عاما وغرامة 100 ألف جنيه لمتهم بحيازة 120 طربة حشيش في الإسكندرية    مصرع زوجين وإصابة أبنائهما إثر انقلاب سيارة ملاكي بطريق سفاجا - قنا    برومو حلقة ياسمين عبدالعزيز مع إسعاد يونس يتصدر محركات البحث    الفيلم البريطاني "النداء الأخير" يفوز بجائزة سمير فريد    أعراض لقاح أسترازينيكا.. الصحة تكشف 7 حقائق عن أزمة الجلطات    إعلام عبري: حزب الله هاجم بالصواريخ بلدة بشمال إسرائيل    لوقف النار في غزة.. محتجون يقاطعون جلسة بمجلس الشيوخ الأمريكي    الاتحاد الأوروبي يحيي الذكرى ال20 للتوسع شرقا مع استمرار حرب أوكرانيا    الدولار يصعد 10 قروش في نهاية تعاملات اليوم    رئيس جهاز الشروق يقود حملة مكبرة ويحرر 12 محضر إشغالات    وزير الرياضة يتابع مستجدات سير الأعمال الجارية لإنشاء استاد بورسعيد الجديد    الأهلي يهزم الجزيرة في مباراة مثيرة ويتأهل لنهائي كأس مصر للسلة    ستبقى بالدرجة الثانية.. أندية تاريخية لن تشاهدها الموسم المقبل في الدوريات الخمسة الكبرى    أمين عام الجامعة العربية ينوه بالتكامل الاقتصادي والتاريخي بين المنطقة العربية ودول آسيا الوسطى وأذربيجان    داج ديتر يكتب للشروق: ذروة رأسمالية الدولة.. ماذا بعد؟    «التعليم» تحدد موعد امتحانات نهاية العام للطلاب المصريين في الخارج 2024    رئيس الوزراء يهنيء السيسي بمناسبة الاحتفال بعيد العمال    صحة الشيوخ توصي بتلبية احتياجات المستشفيات الجامعية من المستهلكات والمستلزمات الطبية    الخميس..عرض الفيلم الوثائقي الجديد «في صحبة نجيب» بمعرض أبو ظبي للكتاب    فيلم المتنافسون يزيح حرب أهلية من صدارة إيرادات السينما العالمية    «تحيا مصر» يوضح تفاصيل إطلاق القافلة الخامسة لدعم الأشقاء الفلسطينيين في غزة    سفيرة مصر بكمبوديا تقدم أوراق اعتمادها للملك نوردوم سيهانوم    هيئة سلامة الغذاء تقدم نصائح لشراء الأسماك المملحة.. والطرق الآمنة لتناولها في شم النسيم    بالفيديو.. خالد الجندي: القرآن الكريم لا تنتهي عجائبه ولا أنواره الساطعات على القلب    النائب العام يقرر إضافة اختصاص حماية المسنين لمكتب حماية الطفل وذوي الإعاقة    دعاء ياسين: أحمد السقا ممثل محترف وطموحاتي في التمثيل لا حدود لها    هيئة الرقابة النووية والإشعاعية تجتاز المراجعة السنوية الخارجية لشهادة الايزو 9001    القوات المسلحة تحتفل بتخريج الدفعة 165 من كلية الضباط الاحتياط    "بتكلفة بسيطة".. أماكن رائعة للاحتفال بشم النسيم 2024 مع العائلة    مصرع طفل وإصابة آخر سقطا من أعلى شجرة التوت بالسنطة    الآن داخل المملكة العربية السعودية.. سيارة شانجان (الأسعار والأنواع والمميزات)    موقف طارق حامد من المشاركة مع ضمك أمام الأهلي    وفد سياحي ألماني يزور منطقة آثار بني حسن بالمنيا    رئيس غرفة مقدمي الرعاية الصحية: القطاع الخاص لعب دورا فعالا في أزمة كورونا    وزير الأوقاف : 17 سيدة على رأس العمل ما بين وكيل وزارة ومدير عام بالوزارة منهن 4 حاصلات على الدكتوراة    «التنمية المحلية»: فتح باب التصالح في مخالفات البناء الثلاثاء المقبل    "بحبها مش عايزة ترجعلي".. رجل يطعن زوجته أمام طفلتهما    مجهولون يلقون حقيبة فئران داخل اعتصام دعم غزة بجامعة كاليفورنيا (فيديو)    رموه من سطح بناية..الجيش الإسرائيلي يقتل شابا فلسطينيا في الخليل    19 منظمة حقوقية تطالب بالإفراج عن الحقوقية هدى عبد المنعم    حملات مكثفة بأحياء الإسكندرية لضبط السلع الفاسدة وإزالة الإشغالات    «الداخلية»: تحرير 495 مخالفة لعدم ارتداء الخوذة وسحب 1433 رخصة خلال 24 ساعة    الصحة: الانتهاء من مراجعة المناهج الخاصة بمدارس التمريض بعد تطويرها    استشاري طب وقائي: الصحة العالمية تشيد بإنجازات مصر في اللقاحات    إلغاء رحلات البالون الطائر بالأقصر لسوء الأحوال الجوية    حمد الله يتحدى ميتروفيتش في التشكيل المتوقع لكلاسيكو الاتحاد والهلال    دعاء آخر أسبوع من شوال.. 9 أدعية تجعل لك من كل هم فرجا    مفتي الجمهورية مُهنِّئًا العمال بعيدهم: بجهودكم وسواعدكم نَبنِي بلادنا ونحقق التنمية والتقدم    حزب الله يستهدف مستوطنة أفيفيم بالأسلحة المناسبة    هل ذهب الأم المتوفاة من حق بناتها فقط؟ الإفتاء تجيب    نجم الزمالك السابق: جوميز مدرب سيء.. وتبديلاته خاطئة    برج القوس.. حظك اليوم الثلاثاء 30 أبريل: يوم رائع    أخلاقنا الجميلة.. "أدب الناس بالحب ومن لم يؤدبه الحب يؤدبه المزيد من الحب"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الرصاصة لا تزال في جيبي (2): 3بطولات لم تنشر من قبل
نشر في التحرير يوم 06 - 10 - 2011


أعد الملف: طارق الحريرى
عندما ذهبت القوات المسلحة المصرية إلى الحرب لم يكن معها سلاح يوازى قوة وحداثة السلاح الموجود لدى العدو، لكن أفراد الجيش المصرى ضباطا وضباط صف وجنودا، استطاعوا تطويع السلاح الذى بين أيديهم، وكانت منه أجيال قد خرجت من تسليح جيوش الدول الصانعة، ومنها أسلحة كانت مستخدمة فى الحرب العالمية الثانية.. كان هذا جزءا من معجزة الانتصار، الذى تم لأسباب عدة، هى عزيمة المقاتل المصرى وقدرته على جعل السلاح يستجيب لاستخدامات لم يسبق أن استخدم فيها، وكان منها أيضا ذكاء خبراء التسليح فى تطوير أجيال السلاح القديمة، وإضافة خصائص جديدة لها، أو رفع قدراتها.
وعندما فقدت إسرائيل فى سيناء أعدادا ضخمة من الدبابات والطائرات والمعدات، أمدتها أمريكا بأحدث ما فى ترسانتها من أسلحة، وأخرجت لها أسلحة من الخط الاستراتيجى الحرج، للدفاع عن الولايات المتحدة، بينما استمر المقاتل المصرى صامدا ثابتا بسلاحه القديم.
المعجزة فى أكتوبر كانت الإنسان، لأننا لم ننتصر بالسلاح، لكننا انتصرنا بالإنسان الذى تدرب وتعلم وتفهم كل ما يستوجبه الاشتباك فى عمليات عسكرية على الأرض، لهذا تقدم «التحرير» هذا الملف، وبطله هو الإنسان المقاتل المصرى، الذى كان يقف على الأرض، واخترنا أن يكون أبطالنا هم ذلك المقاتل الذى لم يدخل فى دوائر تنجيم الإعلام.. اخترنا ذلك الذى كان يحارب ويؤدى مهامه فى صمت وإبداع وبشجاعة، بلا مبالغة، منقطعة النظير.
رقيب أول إبراهيم عوض: القومسيون الطبى أكد عدم صلاحيته للخدمة فأصبح قاهر الدبابات
هذه قصة مصرى وُلد خارج حدود الوطن، ضابط صف، وظيفته عامل توجيه للمقذوفات الموجهة المضادة للدبابات، بارع فى اصطياد دبابات الأعداء، قتلَت أباه المنظمات الصهيونية الإرهابية، قبل أن يبلغ الثالثة من العمر. قبل حرب أكتوبر أتت الرياح بما لا تشتهى السفن، وقرر القومسيون الطبى العسكرى عدم صلاحيته صحيا للخدمة، فأصبحت الأصابع الذهبية للديناصور الرهيب قاهر الدبابات لا تمثل له سوى أصابع من ذهب فى متحف شمعى خلف جدران زجاج بارد.
نادَى الجندى الذى يقف أمام باب لجنة القومسيون الطبى للقوات المسلحة: «رقيب أول إبراهيم محمد عوض» فاقترب إبراهيم وأشار له الجندى بالدخول ليجد أمامه منضدة كبيرة يجلس إليها مجموعة أطباء من رتب كبيرة، نظر إليه رئيس لجنة القومسيون قائلا «واضح يا إبراهيم أنك كنت ماهرا للغاية فى وظيفتك ومن الصعب جدا التفريط فى مقاتل شجاع ومتمكن من عمله مثلك، لكن للضرورة أحكام، وضعك الصحى لم يعد يسمح بأن تستمر فى الخدمة بالقوات المسلحة، ونظرك أصابه ضعف نسبى وهذا لا يساعدك على أداء عملك على الوجه الأكمل لأنك عامل توجيه للمقذوفات الموجهة المضادة للدبابات، لهذا نحن مضطرون آسفين إلى إحالتك على الاستيداع لأسباب طبية».. رد إبراهيم عليه:
- أنا ماشتكيتش يا فندم.
- أمثالك لا يشتكون يا إبراهيم.
- وحتى آخر وقت أديت واجبى كما ينبغى، وقبل وقف إطلاق النار سنة 70 أنا آخر من أصاب دبابة للعدو.
- الكلام ده من ثلاث سنين والإنسان بين يوم وليلة صحته ممكن تتعرض لمتغيرات كبيرة، والمرحلة الجاية إحنا داخلين على حرب، والضغوط فيها على السليم صعبة، فما بالك باللى حالته الصحية فيها مشاكل.
- والله احنا عشنا فى حرب الاستنزاف أيام ما تخطر على بال حد، وجحيم من طيران العدو مالوش مثيل، ورغم كده عملنا معجزات.
- أيوه.. بس كنت بصحتك.
- والله يا فندم لو الحرب قامت دلوقتى حاسوّى فيها الهوايل.
- اسمع يا إبراهيم، أنا مقدّر مشاعرك وواثق فى شجاعتك وحبك للقوات المسلحة، بس يا ابنى للضرورة أحكام.
لم يستطع إبراهيم أن يغالب دموعه بعد قرار إنهاء خدمته فخرج مسرعا من الحجرة ودموعه تنهمر بغزارة، وما إن خرج من الباب أصيب بحالة هياج وهو يصيح «أنا كويس.. أنا مش عيّان.. أنا مش أكتع عشان تعملوا كده فيّا.. أنا ممكن أحارب جيش لوحدى». ومع ازدياد ثورته أسرع أفراد الأمن والشرطة العسكرية فى الحضور وتقييد حركته بأيديهم وهنا خرج قائد القومسيون وطالبهم بأن يتركوه ووضع يده على كتف إبراهيم واصطحبه إلى مكتبه وقد أمر أحد الجنود بإحضار كوب من الليمون المثلج، وبعد عشر دقائق خرج إبراهيم حزينا وصامتا وهو يغادر المكان.
لا إبراهيم ولا قائد القومسيون ولا جميع الأطباء ولا الجنود الذين كتفوه كان أحد منهم يتصور أن القدر سوف ينتصر لإبراهيم من باب خلفى، وأن الصدفة سوف تصنع لهذا الرجل مفاجأة من عيار ثقيل فى مفارقة أقرب إلى الخيال وأوسع من الحلم. مرت الأيام الأولى عليه ثقيلة وكئيبة لكن ما باليد حيلة، لا بد أن ينهى إجراءات تقاعده، وفى صباح يوم 6 أكتوبر نهض مبكرا كعادة العسكريين وسافر من بلدته قاصدا وحدته لإحضار بعض الأوراق التى تساعده على إنهاء إجراءات التقاعد وطُلبت منه فى هيئة التنظيم والإدارة. كانت الوحدة قد عادت من خط الجبهة وتمركزت فى منطقة التل الكبير، وما إن وصل إلى المكان لم يجد أمامه سوى بقايا وأطلال وحدته فوج المقذوفات، وبالسؤال فى نقطة قريبة للشرطة العسكرية أخبروه أن الفوج تحرك إلى الإسماعيلية فشد الرحال إلى هناك، وبينما هو فى الطريق شعر بأجواء غريبة تحيط به من تحركات وقوات من أسلحة مختلفة تتمركز فى أماكن لم تكن تتمركز بها القوات من قبل طوال حرب الاستنزاف وما بعدها فى الإسماعيلية، لم يصبه التوفيق للمرة الثانية فى العثور على الفوج الذى كان يخدم به.كانت الساعة بعد هذه الرحلة قد وصلت إلى الواحدة والنصف وقد وصلته أخبار بأن الفوج انتقل منذ فترة قصيرة إلى سرابيوم. كان يقف حائرا بعد رحلة بحث لم يعد واثقا بأن الاستمرار بها سيؤدى إلى نتيجة... وفجأة توقفت أمامه عربة «بردم» نزل منها ضابط احتياط من بلدته وأخبره أن الفوج فى مناورة يصطفّ قرب القناة، ولأن ملازم الاحتياط لم يقم بإجازة منذ فترة طويلة أخذ يطمئنّ منه على أحوال أسرته والأصدقاء والجيران فى البلد، وفجأة وهما منهمكان فى الحديث عبرت الطائرات بكثافة من فوق رأسيهما فى طريقها إلى سيناء، وبعد فترة قصيرة بدأت أصوات المدفعية تصمّ الآذان من شدة كثافتها، ثم تعالت صيحات «الله أكبر» تنطلق من الحناجر من كل مكان، وبدأت الوحدات تتتابع فى عبور القناة، فانخرط إبراهيم فى إحداها مقدما نفسه إلى قائد الوحدة، وتصادف حضور ضابط مقذوفات لإعطاء تمام الاستعداد للعبور، فتعرف على إبراهيم وقابله بالأحضان، فقد كان إبراهيم ملحقا على هذه الوحدة بعض الوقت للمساعدة فى تدريب أفرادها، وطالب باصطحاب إبراهيم إلى وحدة المقذوفات الملحقة على المشاة، وهكذا سمح له بأن يشارك أقرانه بعد أن صار مدنيا فى العبور، وعلى الفور منحه أحد الأفراد أفرولا ودبروا له خوذة وشدة، فى البداية وقد صار فردا فى الكتيبة 32 فى موعد القدر، كان يساعد على الضبط والتنشين فى عربة الصواريخ الموجهة وتجهيز الصواريخ، لم يكن يعرف قائد الكتيبة 32 فقدم له الأوراق التى تثبت ترقّيه 3 مرات فى عام واحد استثنائيا، فى عام 69، حتى صار من عريف وكيلا لرقيب أول، وذلك لنجاحه فى تدمير عدة دبابات للعدو من مناطق البلاح والقنطرة غرب ورأس العش، لم يكن راضيا عن أنه لا يقوم بالتوجيه، لكن ما باليد حيلة، وهو لم يكن يحلم أن يشارك فى العبور وأن يصبح فى سيناء يشارك فى هذه الملحمة العظيمة، ولأن المقدمات التى جرت فى السادس من أكتوبر كانت تعنى أن الحظ صاعد فى برج سعده، وسعادته الحقيقية هى أن يجلس خلف منظار التوجيه ويشتبك مع الدبابات المعادية وأن يمارس هوايته القديمة فى اصطيادها. لم يمض وقت طويل حتى تعرض أحد أفراد التوجيه للإصابة، وقبِل قائد الكتيبة 32 أن يحل إبراهيم مكان هذا المصاب، وكان الظرف وقتها حرجا، فقد كانت فصيلة من الدبابات المعادية نجحت فى الاختراق من الحد الأمامى، وأصبحت على مقربة من مواقع الكتيبة، وبعد مسافة قصيرة سوف تدخل إلى المنطقة الميتة لمرمى الرمى، تم تجهيز الصاروخ فى وضع الضرب، وجلس إبراهيم عوض خلف عصا التوجيه وعينه على التليسكوب وبدأ فى التنشين على الدبابة الأقرب قبل أن تضيع فرصة إصابتها، وحينما توفرت شروط الضرب أطلق الصاروخ... وتكرر الموقف، وكان هذا المدنى أو ضابط الصف المتقاعد بالمرصاد للدبابات المهاجمة، وفى هذه المعركة دمّر عوض ثلاث دبابات منفردا بالرقم الأعلى بين جميع الرماة من الموجهين فى الكتيبة، ومع انسحاب دبابات العدو المتبقية انتصب إبراهيم من خلف التليسكوب واقفا وهو يصيح بقوة «تعالى يا قومسيون، تعالوا يا دكاترة، تعالى يا كل إدارة الخدمات الطبية وهاتى معاكى وزارة الصحة كمان، مش إبراهيم عوض اللى يُحال للاستيداع لأسباب طبية، إبراهيم عوض فى الميدان سبع السباع، إبراهيم حيفضل طول عمره وحش المقذوفات الموجهة، وحيفضل وحش المقذوفات الموجهة حتى آخر يوم فى حياته، محمد لسه تاره مفتوح».
فى اليوم التالى عاودت دبابات العدو الهجوم مع أول ضوء، قاصدة الكتيبة 32 التى تعوقها عن الوصول إلى المعبر وتدميره، وإمعانا فى تضليل العدو تم تغيير خطة الاشتباك بالضرب بالريموت كنترول من خلف ساتر، ونحن مختبئون ومعنا صواريخنا، ونجحت فى هذا اليوم فى تدمير دبابتين بعد أن كلفنى النقيب عبد الوارث بالمشاركة فى التصدى للدبابات التى تحاول الاختراق من الجانب الأيمن.
واستمر الحال على هذا ثلاثة أيام، وفى اليوم الثالث أتانى النقيب عبد الوارث ومعه بعض الجنود وقال لى «الناس كلها بتسأل هو مين محمد ابن محمد اللى كل ما تصيب دبابة تقول له دمك ما راحش هدر، وتكررها مرات ومرات؟»، نظر إليهم إبراهيم غارقا فى صمت طويل ومنسحبا إلى داخله دون أن يردّ، فربت على كتفه عبد الوارث لكنه لم ينتبه، فزغده زغدة خفيفة «رحت فين يا عم إبراهيم؟»، فأفاق إبراهيم خارجا من تلافيف ذات صَمُوت مليئة بأسرارها المذهلة، محمد ابن محمد، «محمد الأولانى أبويا اللى ماشفتوش، ومحمد التانى جدى اللى ربانى، محمد الأولانى قتلته المنظمات الصهيونية الإرهابية فى حيفا سنة 48 وكان عمرى وقتها أقل من 3 سنوات، وباحس إن أنا بانتقم له مع كل دبابة بادمرها»، نظر إليه أحد الجنود قائلا «اللى خلف ماماتش يا عم إبراهيم». كان والد إبراهيم موظفا فى محطة السكة الحديد فى حيفا عندما كان القطار يخرج من مصر ليصل إلى الشام، ومات والده على يد العصابات الصهيونية التى فجرت أحد القطارات بالمحطة، وكان إبراهيم -وهذه مفارقة عجيبة- قد وُلد فى حيفا عام 1945، وكُتبت شهادة ميلاده بثلاث لغات: العربية والإنجليزية والعبرية، وهو يحتفظ بها تميمة للثأر. لأن اسم والده موجود بالطبع فى هذه الشهادة.
فى نهاية اليوم الثالث من الحرب كان الملازم أحمد على فى طريقه إلى قيادة الفرقة لتسلم أحد التقارير السرية، وتصادف عند عودته أن مر على الكتيبة 32 للاطمئنان على ضابط دفعته، فالتقى إبراهيم عوض مرتديا الأفرول، مما أصابه بالدهشة وكلاهما يحتضن الآخر، وحكى له إبراهيم ما جرى منذ يوم 6 أكتوبر، وعندما عاد أحمد على إلى الفوج أخبر قائد الفوج باستعادة ابن الفوج إلى قواعده، وبالفعل وصل نقيب بعربة جيب، وتم استخلاص إبراهيم من أيدى ضباط وجنود الكتيبه 32، الذين صمموا على استمراره معهم، لكن إبراهيم حسم الخناقة مفضلا العودة إلى بيته القديم، فهناك الزملاء عشرة العمر والذكريات والعيش والملح، ولو مات يحب أن يموت بينهم. مرت الأيام وانتهت الحرب، وصار وجود إبراهيم معضلة لكن دوره المشهود صنع له حيثية قوية، ومنحه شهادة ميلاد جديدة فى القوات المسلحة، لغتها الشجاعة والإجادة والإخلاص، ذهب قائد الفوج إلى قائد الجيش وقدم له تقريرا عن إبراهيم فأخبره أن تقريرا قبل هذا وصله عن إبراهيم من الكتيبة 32 وأنه سيرفق التقريرين إلى قائد مدفعية الجيش اللواء محمد عبد الحليم أبو غزالة. ناقش أبو غزالة موقف هذا الرقيب أول الشجاع مع مدير المدفعية، فطلب منه إعداد تقرير سيقدمه إلى وزير الحربية فأصدر الأخير قراره بعودة إبراهيم إلى الخدمة واعتبار المدة التى قضاها خارج الخدمة إجازة دون مرتب، وتكريما له بعد الحرب تم إلحاقه بمركز تدريب المدفعية للاستفادة من خبراته غير العادية فى تدريب عمال التوجيه للمقذوفات الموجهة المضادة للدبابات لينهى خدمته فى ما بعد فى عام 1985. من أغرب ما حكاه إبراهيم لى أنه حارب بنفس الصاروخ «الشميل» سنة 67 وأنه نجح شخصيا على المحور الشمال بإصابة دبابة وتدميرها، لكن لحسن الحظ لم ينتبه الإسرائيليون لهذا فى غمرة صاعقة انتصارهم، وأننا كمصريين لم نحسن استخدام سلاح كان فى أيدينا لفرط مفاجأة الحرب وهزيمة تسارعت فيها عوامل السقوط. مرت السنوات بعد هزيمة 67 وإبراهيم يدمر دبابة معادية تلو أخرى، ولم يهزمه لا النظر ولا القومسيون فى صدفة لا تأتى إلا لمن يستحقها وتستحقه...
ملازم أول علي حمزة: أول من أسقط طائرة بصاروخ من الكتف فى تاريخ الحروب
هذه قصة جندى متطوع لم يكن حتى قد ترقى إلى رتبة العريف، كان عمره وقتها 17 سنة لكنه استطاع لأول مرة فى تاريخ الحروب منذ أن عرفت الجيوش الطائرة والصاروخ أن يُسقِط طائرة بصاروخ صغير محمول على الكتف، وكان هذا الصاروخ الروسى الذى يسمى «ستريلا» قد جُرِّب من قبل فى حرب فيتنام وفشل استخدامه ولم يحقق نتيجة إيجابية واحدة، وحينما أتى الخبراء الروس إلى مصر استخدمته الكوادر المتخصصة ضد الطائرات التى تُغِير على مصر ولم ينجح أحد، إلى أن أتى هذا الفتى الصغير ابن كفر الشيخ وحقق المعجزة حينما استطاع إسقاط طائرة «سكاى هوك» كانت قاب قوسين أو أدنى من تدمير قاعدة صواريخ مصرية فى أثناء بناء حائط الصواريخ الذى تكبدت مصر فيه خسائر فادحة من المال والرجال، ونجح الفتى الصغير فى ما فشل فيه من قبل محاربو فيتنام الشجعان وعتاولة الروس أقوى جيوش العالم، هذا الصاروخ يصيب الطائرات التى تبث الرعب لأنها تكون على ارتفاع منخفض ويروِّع أزيزها أى إنسان تعبر من فوقه مما يفقده التركيز والقدرة على التصرف، وبالتالى فإن استخدام صاروخ صغير محمول على الكتف يزن 16 كيلوجراما أمر يحتاج فى هذه الظروف إلى قوة أعصاب وشجاعة وقوة تركيز ومهارة وأن يكون كل هذا بمستويات غير عادية وفائقة، وكل هذا هو ما كان عليه الفتى «عَلِى» عندما حقق المعجزة التى ينتظرها القادة والخبراء العسكريون فى جيوش العالم المتقدمة. طبعا وقتها لم يتم الإعلان عن هذه المعجزة المنتظرة، وبعد هذا النجاح العظيم كان هناك مسلسل من سقوط الطائرات الإسرائيلية التى كانت تمرح بغرور فى سماء الوطن وكان سبب بداية هذا المسلسل هو روح التنافس التى نشأت بين الجنود الصغار وتباريهم فى فصيلة الصواريخ «الاستريلا» فى الانضمام إلى قافلة الأبطال. كان هؤلاء الصغار الأبطال قد استبدلوا بصيد العصافير -مثلما يفعل من هم فى مثل سنهم- صيد الطائرات الإسرائيلية ولمدة طويلة أربك هذا المسلسل القيادة الإسرائيلية أمام فشل أجهزة استطلاعهم فى معرفة هذا السلاح الذى أصبح غولا سريا مرعبا للطائرات المنخفضة. عرفتُ قصة هذا الإنجاز العظيم عندما كنت فى زيارة للعميد متقاعد/ أحمد محمد السعيد أحد أبطال حرب أكتوبر الذى مُنح وسام نجمة سيناء (أرقى وسام مصرى يُمنح للذين أدوا بطولات عظيمة فى أثناء حرب السادس من أكتوبر) والذى أعلن وقت حصوله على هذا الوسام أنه يهديه إلى روح الجندى مجند/ محمد حجازى الذى أنقذ بحياته صواريخ الفصيلة، وكان السعيد أساسا قد أكمل الحرب بعد هروبه من المستشفى عائدا إلى فصيلته ليكمل الحرب بجسد ملىء بالحروق وعين بها انفصال شبكى، ونجح هو فى هذه الظروف فى إسقاط 7 طائرات بفصيلته من 9 صواريخ فقط، وهذا معدل قياسى لم يسجَّل فى تاريخ الحروب.
فى اللقاء مع السعيد أبلغنى عن الملازم ماجد الذى قاد أول فصيلة شكلت من صواريخ «الاستريلا» وأنه أول من أسقط طائرة بهذا الصاروخ، بعد هذه الحكاية بحثت عن ماجد أحمد على الذى كان برتبة الملازم سنة 1969 لأعرف منه قصة إسقاطه أول طائرة ب«الاستريلا» لكنه بنبل أصحاب البطولات الحقيقية أبلغنى أن من له السبق الحقيقى فى هذا هو جندى متطوع فى فصيلته يدعى «على حمزة حافظ حنوره» ذاكرا لى الاسم الرباعى كمن يحفظه عن ظهر قلب، وحكى لى يومها حكاية شخصية ظريفة عن معاناته فى بداية التدريب لأنه واجه مشكلة فى إغلاق العين الخالية من التنشين لهدف يعلوه فى السماء وكيف أنه كان يتسلل فى مطار النزهة بعيدا عن الجنود أو المدربين الروس ويدرب نفسه حتى نجح فى التغلب على هذه المشكلة، وحكى أن قائد قوات الدفاع الجوى بعد أن نجح «حنوره» فى إسقاط أول طائرة استدعاه وهنأه وطالبه بأن يكون قدوة لجنوده وأن يفعلها، وكيف صارت هذه الوصية جبلا على كتفيه وكيف انزاح هذا الجبل بعد أن واتته الفرصة ليسقط رابع طائرة بعد أن أسقط جنوده ثلاثا.
ولأن ماجد عرف أننى سأقابل على حمزة لمعرفة تفاصيل الحكاية أعطانى مقدمة لها وأبلغنى أنه فى يوم 19 أغسطس كان قد ذهب لإحضار مرتبات الجنود والمطالبة باحتياجاتهم الإدارية الضرورية لأنه تم دفعهم إلى الجبهة دون استكمال دورة التدريب على الصاروخ، نظرا لأن رجال فصيلته كانوا متفوقين ومعدلات نجاحهم فى التدريب على إصابة الطائرات عالية ولم يكونوا بعد أن توجهوا إلى الجبهة يملكون سوى صواريخهم والأفرولات التى على أجسادهم فقط، وكانت مرتباتهم نتيجة نواحٍ إجرائية متأخرة منذ شهرين رغم هزال المبلغ الذى كان يتقاضاه الجنود وضباط الصف والضباط. النقطة الثانية التى أبلغنى بها ماجد أنه فى يوم 19 أغسطس كان هناك مؤتمر عام للخبراء الروس الذين يعملون معهم، وبالفعل كان الخبير الروسى الموجود مع الفصيلة لأنها كانت أول تشكيل -على صغرها- يُدفع به إلى الميدان، متغيبا عن الفصيلة فى ذلك اليوم لحضوره المؤتمر، وهكذا كما أبلغنى ماجد بشهامة الضابط المتحقق بعلمه وأدائه أن معجزة إسقاط ال«سكاى هوك» فى ذلك اليوم كانت ملكا للجنود وهذا ما أعطاهم وثوقا بذواتهم وقدراتهم جعلهم يبدؤون فى مسلسل إسقاط الطائرات التى استعصت من قبل على ميادين القتال فى فيتنام وعلى أصحابها الخبراء.
شكرت ماجد كثيرا إلى أن عثرت على الجندى متطوع على حمزة فى منزله فى بلطيم بكفر الشيخ حيث يقضى إجازة مع أسرته واتصلت به تليفونيا ودار هذا الحوار:
- أنت عملت إيه يوم 19 أغسطس سنة 1969 يا على؟
اجتاح التليفون صمت عميق امتد لنحو 30 ثانية، ثم انهمر الرجل ينهنه فى بكاء متواصل أربكنى مع فشل كل محاولاتى لتهدئته، فتركته يخرج شحنته الانفعالية التى كانت بركانا عاتبا على زمن خمود الذاكرة الوطنية، وفى أثناء هذا كانت العبارة التالية المتقاطعة مع البكاء والمتخللة له.
- يا خبر يا افندم.. ياه.. الدنيا لسه بخير.. أنت عرفت الموضوع ده منين.. أنت وصلت لى إزاى.. والله الدنيا لسه بخير.. ده ده دا دا أنا قربت أنسى.. أنا مش مصدق نفسى.. والله الدنيا لسه بخير.
(بعد نحو خمس دقائق بدأ علِى يهدأ نسبيا وبدأ يخاطبنى وقد استعاد قدرا كبيرا من هدوئه).
يا افندم.. تانى يا افندم.. والله أنت رجعتنى للعيل الصغير اللى عشته من 25 سنة (دارت هذه المكالمة سنة 1995).
- قصدك البطل يا على.
- لا والله كنا عيال صغيرة فى السن بس الهم والمسؤولية هما اللى كانوا خالقين منا رجالة.
- كل سنة وأنت طيب يا عم علِى، أكتوبر على الأبواب وكنت عاوز منك كلمتين أنشرهم لأنى عارف إن الموضوع ده لم يذكر فى الإعلام على الإطلاق، لأن السلاح كان سريا فى الوقت ده ولأنك عملت إنجازا عظيما فى تاريخ الوطن وتاريخ العسكرية المصرية.
- أى واحد غيرى كانت حتتاح له الفرصة كان حيعمل اللى أنا عملته.
- أيوه بس مش معقول بعد السنين الطويلة دى حتفضل راقد فى مجاهل النسيان.
- والله ما تفرق يا افندم.. المهم إن إحنا أدينا الواجب.
- إن كانت ما تفرقش معاك تفرق معانا مش عشان الخبطة والسبق، الأهم إن ده حيكون تسجيل لسابقة تاريخية عظيمة تعرف الناس مجد العسكرية المصرية.. ده حق الوطن عليك فى هذه اللحظة.
- أنا تحت أمر الوطن.
- أشوفك فين يا عم على.
- زى ما تأمر يا افندم.
- لا يا سيدى دى بالذات مافيهاش أوامر.
- آجى لسيادتك القاهرة لأن أنا فى إجازة.
- أستناك بكرة؟
- بس أنا مسافر إسكندرية بكرة أجيب القبض.
- ممكن تأجل القبض لبعد بكرة؟
- بص يا افندم بصراحة أنا لا ورايا ولا قدامى غير الجيش وباستنى المرتب بفارغ الصبر.
- طب اسمع مش إسكندرية أقرب لك من القاهرة؟
- أيوه.
- خلاص أنا جاى بكرة إسكندرية على الساعة 4 مساء.
وبالفعل حتى لا أطيل فى الحوار التقيت الملازم أول شرف على حمزة حافظ حنورة فى مساء اليوم التالى فى نادى ضباط محطة الرمل بالإسكندرية، وكنت منصتا ومنبهرا عندما حكى عن ذلك اليوم من أغسطس، وقال إنه أجهز على أول طائرة فى الساعة الخامسة وأربع عشرة دقيقة من مساء يوم 19، وعندما قاطعته بأنه كيف يتذكر التوقيت بهذه الدقة، أخبرنى أنه قبل قدوم الطائرة كان يستمع إلى نشرة أخبار الساعة الخامسة على البرنامج العام فى الراديو الترانزستور، وعندما كانت النشرة تقترب من الانتهاء والمذيع يبدأ فى الموجز الأخير سمع صوت الطائرة، وبعد أن اشتبك معها أصابها ورآها تتهاوى مشتعلة، تنبه إلى صوت الراديو مُلقًى على الأرض بجواره وصوت محمد حمام وهو يغنى «بلدى يا بلدى» معلنا بداية المسلسل، وأنه من لحظة بدء الاشتباك حتى سقوط الطائرة لم يستغرق الأمر أكثر من دقيقة، إذن كان الاشتباك فى الدقيقة الرابعة عشرة بعد الخامسة مساء. وحينما سألته عن تفاصيل إصابة الطائرة، ذكر أنه أحس بالصوت يأتى من خلفه وكانوا قد تدربوا جيدا على تمييز صوت الطائرة الآتية على ارتفاع منخفض قبل وصولها إلى نقطة الاشتباك بمسافة كافية، وعلى الفور التقط الصاروخ لأنهم كانوا كمينا فى حالة استعداد دائم، وفتح مصدر التغذية وبدأ فى تدقيق التنشين والطائرة فوق رأسه ويقول «كدت أفقد القدرة على التنشين، فالطائرة هيّجت كمية ضخمة من الغربان كانت تملأ المنطقة، وفى لحظة خاطفة ظهرت لى نافورة اللهب فى مؤخرة الطائرة من فتحة العادم، وكانت فى نقطة التنشين الصحيحة بالنسبة إلىّ، فأطلقت الصاروخ الذى كنت أتابعه بعينى لأنه كان خط دخان أبيض منطلقا خلف الطائرة إلى أن دخل فتحة العادم، وشاهدت لحظتها انفجارا هائلا والطيار نازلا بباراشوت برتقالى. زملائى التفوا حولى بالعناق وحملى والقذف بى فى الهواء والتقاطى وهاتك يا رقص وغنا، واللى بيعيط واللى بيعمل شقلباظ، والدنيا قربت تليل ومافيش حد عايز يهمد»، ثم ينتقل فى الحكى ليحكى عن مفاجأة كبيرة لم تكن فى البال أو الخاطر إذ حطت على الموقع فجأة عدة عربات جيب هبط من أولها قائد القوات، وبعده مجموعة من الرتب الكبير امتلأ بها المكان.
وسأل قائد القوات، وكانت الفرحة بادية على صوته، «أين البطل الذى أسقط الطائرة؟»، تقدمت إليه وكنت دون غطاء الرأس وهدومى مفشكلة، ووقفت أمامه فى وضع انتباه فمد يده إلىّ وسلم علىّ بحرارة وظل يهز يدى لمدة طويلة وهو قابض على كفى، وقال لى: مبروك
يا ابنى، بلغنا القائد الأعلى الرئيس جمال عبد الناصر بهذه المعجزة قبل الحضور إلى هنا وهو يبلغك تهنئته وتحيته الخاصة لك. ومن يومها وأنا معلق صورته ف بيتى.
الغواصة 24: حصلت على أرفع أوسمة الجمهورية
بدا القلق واضحا على ملامح الرجال من أطقم الصيانة وهم يجهزون الغواصة رقم «24» لمهمة غير معلومة، لكن من الواضح أنها على درجة كبيرة من الأهمية والخطورة، فالمهام النمطية أو الروتينية لا تتخذ لها مثل هذه الإجراءات الدقيقة، التى تراجعها الأطقم تلو الأخرى، بإشراف كبار المهندسين والأسطوات من العناصر الفنية ومثلها من العناصر الإدارية، لم يكن القلق الذى يعترى هؤلاء الرجال يعكس الاضطراب والخوف، بقدر ما كان حالة من الإحساس بجسامة المسؤولية والأمانة الملقاة على عاتقهم، لتأمين الأوضاع الفنية والتقنية والإدارية لغواصة ذاهبة إلى تحدٍّ قد يكون مريعا.. قرب الظهيرة حضر طاقم الغواصة بكامل قوته، ليتمم كل فرد على الأجهزة والمعدات فى القطاع الذى سيعمل به، فى وجود أطقم الصيانة المتخصصة والأطقم الإدارية، وبالفعل ثم تلافى بعض الملاحظات الصغيرة، والتأكد من استكمال المستويات فى خزانات الوقود والأكسجين والزيوت، وجميع الاحتياجات الإدارية اللازمة للإعاشة. غادر أفراد طاقم الغواصة، وذهبوا إلى تناول طعام الغداء الذى أعقبته محاضرة، حضرها قائد القوات البحرية وقائد سلاح الغواصات وكبار القادة، لإعطاء التلقين النهائى، والتأكد من تفهم الجميع طبيعة مهام الاستطلاع وسلامة وقوة الروح المعنوية للأفراد، الذين سيمكثون فترة طويلة فى أعماق المياه، وهذا يحتاج إلى طاقة نفسية عالية داخل أنبوب حديدى مغلق، فى ظل عبء المسؤوليات الملقاة على عاتق من يقومون بعمليات الاستطلاع فى ظل التهديدات المستمرة من القوات البحرية المعادية. كان الرجال يدركون أيضا، فى رسالة غير معلنة، أن تعرّض السلاح البحرى إلى فقدان غواصة سيتسبب فى خسارة ضخمة لأحد مكونات البحرية المصرية ولطمة معنوية قاسية لرجالها الذين استعادوا هيبتهم بعد تدمير المدمرة إيلات بإنجاز غير مسبوق فى معارك البحر.
بدأت الغواصة تتهادى فى بطء، وهى تغادر الميناء. لم تكن فى حالة غطس كاملة، يتناثر فوق سطحها كثير من أفراد طاقمها، يلوحون لزملائهم الذين يودعونهم على رصيف الميناء. مع غروب الشمس كان الضوء ينسحب، والظلام ينتشر ببطء وعناد، وفى الفاصل ما بين النور والعتمة بدوا كأشباح غامضة فى طريقها إلى المجهول، وهم كانوا بالفعل هكذا لا يدرى أى منهم طبيعة المهمة الذاهبون إليها، بمن فيهم الرائد محمد محمود التهامى قائد الغواصة، بدأ زملاؤهم على رصيف قاعدة الإسكندرية البحرية فى الاختفاء، وتدريجيا بدأت المبانى والشاطئ فى الخروج من مدى الرؤية التى اقتصرت على مياه صامتة تحيطهم من كل جانب، وعليهم أن ينطلقوا نحو الغيب، لا يملكون سوى شجاعتهم وإرادتهم ومهارتهم. أعطى القائد إشارة للأفراد على السطح بالنزول إلى الداخل، لإتمام إغلاق جميع الفتحات، والهبوط إلى الأعماق بالغواصة ذات الطراز العتيق، التى خرجت من الخدمة فى بلادها، ويطلق عليها فى ترقيم أجيال الغواصات الروسية رقم «633»، وانضمت إلى الخدمة فى القوات البحرية المصرية سنة 1966، ومن المعروف أن الغواصات القديمة مثل هذه الغواصة يتكبد طاقمها مجهودا مضنيا فى العمل، الذى يحتاج إلى طاقة احتمال كبيرة فى ظروف حياة قاسية وخشنة. أخذ الأفراد على السطح يملؤون صدورهم بالهواء النقى الغنى باليود، قبل تنفيذ أوامر قائدهم بالهبوط إلى الداخل، لأنهم طوال تحركهم فى الأعماق لن ينعموا بهواء متجدد.
فى عرض البحر وفى أعماقه البعيدة، وبعد أن اطمأن الرائد التهامى على سير العمل فى جميع القطاعات الداخلية، جلس على مقعده الصغير، أمامه سطح أفقى يسمى تجاوزا، المكتب، وضع عليه حقيبته، واستخرج مجموعة الأظرف التى تسلمها من مندوب شعبة العمليات قبل ركوب الغواصة، واختار من بينها مظروف المهمة رقم «1»، قام بفتحه وكانت المهمة التوجه إلى ميناء حيفا، والتسلل إلى داخله وإجراء استطلاع دقيق. أنزل حقيبته من على المكتب، ثم فتح خريطته ومدها وحدد اتجاه السير والمسافة ومستويات العمق، وبلّغها لطاقم الملاحة، ثم قام بإعطاء إشارة إلى جميع القطاعات الداخلية، أوضح فيها أنهم فى طريقهم إلى ميناء حيفا الإسرائيلى، وأن عليهم التسلل واختراقه من الداخل، من أجل إجراء استطلاع مفصل ودقيق، وأنهم لن يخرجوا من داخل هذا الميناء إلا بعد إنجاز المهمة.
فى اللقاء الذى سبق هبوطهم إلى الغواصة تحدث قائد سلاح الغواصات، وشدد على أنه يعرف أنهم أصبحت لديهم ثقة فى تنفيذ مهام الاستطلاع، بعد تكرارها، لكن المهمة، وقال باللفظ الواحد «وأكرر هذه المهمة ذات طبيعة خاصة، وهى تحتاج إلى منتهى الحذر واليقظة، وأقل خطأ يمكن أن يؤدى إلى كارثة، ولهذا تعمدنا السرية عن طبيعة المهمة، ولن تعرفوها إلا بعد أن تصبحوا فى عمق البحر، ولا يعرف أحد عنها أى شىء سوى السيد قائد القوات ورئيسا شعبة العمليات والاستطلاع البحرى وأنا كقائد لسلاح الغواصات».. واستطرد قائد القوات فى تلك المحاضرة بنبرة من العزم أن هذه هى المرة الأولى التى ستنفذ فيها مثل هذه المهمة، والقوات البحرية لا تعرف بتاريخها المجيد والمضىء مكانا للفشل، ونحن غير مستعدين أن نفقد خيرة أبنائنا فى سلاح الغواصات، ولا أن نفقد هذه القطعة من سلاحنا البحرى، لهذا أيها السادة هذه المهمة محكوم عليها بالنجاح، والنجاح فقط، وأن تعودوا إلينا غانمين سالمين، وقد حققتم الهدف الذى تبحرون الآن من أجل تحقيقه، أيها الرجال الذى حكم عليهم بالنجاح قبل بدء المهمة، وإياكم والثقة الزائدة التى يسعد الجميع أن يراها فى أعينكم، كونوا واثقين بلا استهتار، وكونوا على يقين بالنجاح كما اعتدتم دائما، لكن بلا تواكل أو غرور.
خرجت الغواصة من المياه الإقليمية، وكان أفراد طاقمها فى حالة نشوة، باعتبار أنهم المتميزون، بسبب اختيارهم لهذه المهمة الخطيرة غير المسبوقة، وفى منتصف المسافة فى قلب البحر الأبيض المتوسط، أبلغ ضابط الإنذار أن جهاز الاستطلاع الرادارى يستقبل مجموعة إشارات، وبتحليل هذه الإشارات تم اكتشاف وحدات بحرية على مقربة من خط مرور الغواصة على سطح البحر، فى التو واللحظة أرسل قائد الغواصة إشارة إلى قيادة القوات فى الإسكندرية، وتوقيا من أى مخاطر يمكن التعرض لها من هذه الوحدات المجهولة أعطى فى الوقت نفسه تعليمات إنذار لكل القطاعات بالغطس السريع، ومع إغلاق الهاتش العلوى، وتنفيذ عملية الغطس التى تمت بمعدلات تفوق السرعة القصوى التى ينص عليها كتالوج الغواصة، سأل القائد عن العمق أسفل الغواصة، فجاءه الرد أنه 80 مترا، لأن جهاز قياس الأعماق يعطى 8 نبضات، وفى هذه الأثناء جاءه الرد من قيادة القوات بأن تلك الوحدات البحرية، طبقا للبيانات التى أرسلها عن موقعها بين خطوط الطول والعرض، هى قطع للأسطول السادس الأمريكى، واقتصر الرد على هذه المعلومة فقط، ومعنى هذا أن عليه السكون حتى تتحرك قطع الأسطول السادس، أو أن يغير اتجاهه بالتفاف بعيد عنه، والخيار الأخير والأسوأ أن يعود إلى القاعدة فى الإسكندرية، وهذا غير مسموح به بسبب سرية ونوعية المهمة.. بدراسة الموقف اكتشف أن السكون قد يمتد لمدى زمنى فوق إمكانيات الغواصة، وأن الالتفاف يستنفد كميات من وقود التحرك، يمكن أن تؤثر على استكمال المهمة، ونظرا لأن قطع الأسطول السادس لم تكن فى حالة تحرك، ولأنها منتشرة وتغطى قطاعا عريضا جدا فى طريق المرور نحو تنفيذ المهمة، استدعى التهامى الضباط إلى كابينة القيادة، وناقش معهم الموقف وهم قابعون فى أعماق المياه أسفل هذا الغول، الذى يطلق عليه الأسطول السادس، والذى يمتلك أحدث معدات تكشف الأعماق.
طرح أحد الضباط فى بداية الاجتماع سؤالا: هل الاختراق أسفل قطع هذا الأسطول معجزة كونية؟ وهنا رد ضابط آخر: ألم ندرس أساليب للتمويه تساعد فى التغلب على معدات الكشف والرادارات المعادية؟ وهنا رد قائد الغواصة: هذا يعتمد على مدى استعدادنا للإقدام على هذه المغامرة، وهنا جاء الرد من أحدهم مرة أخرى: هل لديك شك فى قدرة أى ضابط منا على استحضار أقصى طاقة عمل وتركيز بمهارة يتطلبها موقف صعب؟.. استمرت المناقشات لفترة وعرض فيها كل ضابط كيفية التصرف فى إطار مهامه التخصصية داخل الغواصة، لتنفيذ مناورة محسوبة بميزان حساس، لتنفيذ عملية اختراق أسفل نطاق قطع الأسطول السادس المنتشرة أمامهم.. شكرهم قائد الغواصة وطالبهم بالعودة إلى قطاعاتهم، وبدأ الرجل يواجه أصعب لحظات حياته، لأن القرار النهائى منوط به وحده الآن، فإذا لم تفلح الخطة سيتم تدمير الغواصة ذات الثمن الفادح التى تكبدت الدولة كثيرا من إمكانياتها الاقتصادية، لتجعل منها أداة لحماية الوطن، والقوات البحرية ستصاب فى مقتل معنوى وتسليحى، والأهم من كل هذا أن كل الرجال النبلاء الذين أعطوا التمام بالاستعداد لهذه المناورة الانتحارية، بعد أن طلب شخصيا ردا بهذا من كل فرد، وأذهله عدم تردد أى فرد من أحدث جندى حتى أقدم ضابط صف فى القبول بهذه المغامرة غير المأمونة على الإطلاق. كل هؤلاء الرجال لن يعودوا إلى بيوتهم -لو جانبهم عدم النجاح- لن يعود الآباء إلى أبنائهم ولا زوجاتهم، ولن يعود الأبناء إلى أمهاتهم وآبائهم.
كاد أن يبكى وهو يخبط بيده على سطح المكتب، ولا مفر أمامه من أن يتخذ القرار، قرار لا يشاركه فيه أحد غير ضميره الوطنى والإنسانى، خبط بيده ثانية بقوة على المكتب، ونهض ممسكا بميكروفون الاتصال الداخلى، مبلغا رسالته إلى أفراد الطاقم بحسم، احتراما لإدارة طاقم الغواصة «24» بقبول هذا التحدى الذى فرضته عليهم الأقدار، ومن أجل العهد الذى قطعناه على أنفسنا، وحتى نستكمل المهمة، من هذه اللحظة الغواصة بالكامل فى حالة استعداد قصوى إلى أن نعبر منطقة وجود الأسطول السادس. شعر بارتياح بعد أن أبلغ الأمر للطاقم، ورغم صعوبة ما هو قادم إلا أن خروجه من دوامة التردد أزاح عنه هما كبيرا. كان القرار متجاوبا مع روح التحدى والمغامرة المحسوبة، ورغم الإمكانيات الهائلة التى يمتلكها الأسطول السادس لم ينتبه الخوف، وكان واثقا من النجاح، ليس بسبب قراره، لأن العبور لن يتم بالقرار، ولكن بالرجال، وهو يعرف أنهم ماهرون فى وظائفهم، وأن طاقة الصمود والشجاعة لديهم تحتمل أكثر مما تحتمله جدران الصلب السميكة لهذه الغواصة. اشتعلت الغواصة من داخلها بعد صدور الأمر بالتسلل واختراق منطقة وجود الأسطول السادس الواسعة.
مجموعة عمل متكاملة ومتناغمة أكثر من خلية نحل، فلا يهدأ أحد من الرجال، ولا يكل، وبدأ التحرك الحذر واختبار المسافات الآمنة بين قطع الأسطول، لتقدير إمكانية النفاذ منها، باستخدام أنسب كثافات المياه. استغرقت هذه العلمية 48 ساعة كاملة، حبس الرجال فيها أنفاسهم كثيرا كثيرا وهم فى حالة تركيز وتدقيق مترا بمتر فى خطوات التحرك مع استعداد كامل ومستمر للاشتباك فى حالة تعرضهم للهجوم، وعندما أبلغ ضابط المراقبة أن النبضة الأخيرة بعد يومين من ثبات الرجال فى هذه الأحوال بالغة القسوة، لم تسجل أى قراءة لقطع بحرية عند سطح البحر، عندها أمر قائد الغواصة بتكرار النبضة فجاءت نفس النتيجة، فطالب القائد بالتكرار فلم يختلف الأمر، فصدر الأمر بالتشغيل المستمر لكل الرادارات، التى أبلغت خلو محور التقدم من أى عدائيات أو قطع بحرية مجهولة، على الفور أصدر التهامى الأمر بالصعود إلى سطح البحر، بينما كان تهليل الرجال وهتافاتهم تكاد أن تخترق فولاذ الغواصة.. أجمل مكافأة فى هذا التوقيت كانت أن يستنشق الرجال هواء البحر بعد يومين من كتمة الغواصة والتركيز العصبى، تماهى الرجال مع طبيعة البحر وهوائه النقى الذى كان يدغدغ رئاتهم ورذات الماء التى كانت تداعب وجوههم، وبالمثل جددت الغواصة هواءها، فقد جعلوها كائنا حيا مثلهم، يشاركهم السراء والضراء.. أخذت مقدمة الغواصة تشق صفحة الماء استمرارا للرحلة وهى تتحرك بخيلاء فى عرض البحر، بعد أن ملصت من الأسطول السادس، وكان كثير من أفراد الطاقم واقفين على سطحها وهى تتحرك فوق صفحة الماء ومعهم قائدهم الذى فارق التجهم وجهه بعد يومين من احتراق الأعصاب، فجأة اخترق السكون العميق أزيز مفزع لطائرتى فانتوم، شعر الجميع أنهما كانتا على وشك الاصطدام بهم ومن فرط قربهما أطاح الهواء بغطاء رأس الرائد محمد التهامى الذى أصدر الأمر بالغطس السريع فالطائرات الفانتوم فى المنطقة هى الطائرات المعادية فقط، كان يجب الوصول إلى عمق آمن من ضربات الطيران بأقصى سرعة، ونتيجة لسرعة الاندفاع فى النزول اصطدم رأس الرقيب إبراهيم مراد عامل الطوربيد، بيد الإطلاق مما تسبب فى اندفاع نافورة دم من رأسه. على التو ذهب الطبيب إليه فى القطاع الأول وخاط الجرح دون بنج 7 غرز، بينما كان إبراهيم يكظم بفكيه متحملا ضراوة الألم دون أن ينبس أو يتأوه.
استمرت الغواصة فى طريقها بعد تفادى معركة لا جدوى منها، وبينما كان التهامى يقف فى وسط الغواصة بين رجال الطاقم امتدت يده إلى رأسه فى حركة لا إرادية فلم يجد عليه غطاء الرأس فتساءل: أين ذهبت الطاقية؟ فصاح أكثر من واحد: طارت من على رأسك يا افندم من أثر تيار الهواء العنيف الذى أحدثته الفانتوم، فنظر إليهم الرجل باستغراب فأكد له نائبه ما حدث فصمت قليلا ثم انتابته «كريزة» من الضحك انتقلت عدواها إلى كل المحيطين وقد أشاعت ضحكاته الطفولية بهجة أنعشت روح الرجال بعد المواقف التى مروا بها وإصابة الرقيب مراد.
عندما أبلغ طاقم الملاحة بالاقتراب من ميناء حيفا فتح التهامى المظروف رقم «2» وكان أكثر ضخامة لأنه يحتوى على كروكى تفصيلى للميناء ومداخله وأرصفته والأعماق فاستدعى نائبه والضابط المسؤول عن الملاحة وبدؤوا فى دراسة الأسلوب الأمثل لاختراق الميناء والاستقرار بالغواصة فى داخله فى منطقة عمق مناسب، وبعد الاتفاق على أنسب خطة للعمل صدر الأمر برفع البيرسكوب والنزول إلى عمق 50 مترا مع الميل بالمقدمة ومع الاقتراب أكثر فأكثر من أهم ميناء إسرائيلى فى شرق البحر الأبيض المتوسط. بدأت أهداف الميناء الحيوية ودفاعاته فى الظهور وقد أنارتها الأضواء الكاشفة التى من المفروض أن تكشف أى غرباء على أرض الميناء فى أثناء الليل. فى تحرك بطىء للغاية كان الرجال يتلقون أوامر دقيقة للغاية، وبعد فترة تم إطفاء جميع ماكينات الحركة ليعلن القائد أنهم أصبحوا فى داخل عمق ميناء حيفا مع أمر برفع «الشنوركل» للمراقبة والتسجيل والتصوير. قامت الغواصة بتنفيذ عدة دورات فى أنحاء الميناء تدرس فيها كل التفاصيل الدقيقة المطلوب الحصول عليها وطبيعة الدفاعات وتناوب الخدمات وقوة أفراد الحراسة وطبيعة الحركة اليومية للقطع البحرية الموجودة بالميناء، وفى نهاية المطاف وفى جرأة يحسد عليها تتصف بقوة أعصاب فولاذية أعطى التهامى أمرا قبل انتهاء المهمة فى هذا الميناء بأن ترتفع الغواصة إلى عمق البيروسكوب فى منطقة معينة من الميناء بعد تحليل المعلومات التى حصل عليها، واستدعى طاقم الغواصة فردا فردا ليشاهد الميناء الإسرائيلى من داخله، لم يكن هدفه بالطبع أن يتسلى الأفراد بمشاهدة المشاة والسيارات على طريق الكورنيش ولكنه كان يهدف إلى أن يعرفوا إلى أى قدر هم أبطال وشجعان وإلى أى قدر لا يزيد عدوهم على أسطورة كاذبة يدعى بها القوة واليقظة وها هم رجال الغواصة «24» يشاركونه الميناء الأول بمهارة خارقة وقلوب أقوى من الحديد لا يتسلل إليها الخوف أو القلق خلال الأيام الأربعة التى قضوها داخل ميناء حيفا. خرجت الغواصة مرتين من الميناء لتجديد الهواء والعودة وهم يفعلون هذا بثبات وثقة واقتدار وهم يعرفون أنه لو حكى لهم أحد ما يفعلون لظنوه ضربا من الخيال.
فى الخروج آخر مرة من الميناء لتنفيذ مرحلة جديدة من المهمة وبينما هم منطلقون إلى عرض البحر أبلغ العريف إبراهيم عطا الله أنه التقط نبضات إرسال «الأزدك» مما يعنى أنه قد تم اكتشافهم من قطعة معادية، وبتحليل طبيعة النبضات تم تحديد نوع الهدف الذى اكتشفهم وهو أحد لنشات الصواريخ من طراز «سعرد» التى كانت إسرائيل تحيطها بالسرية. على الفور هبطت الغواصة إلى أقصى عمق، وببراعة فائقة استمرت فى الهبوط حتى كادت تلامس سطح الأرض فى عمق البحر فى مناورة تعنى أنها لو افتقدت الدقة لدمرت الغواصة نفسها وتعطلت تماما فى الأعماق.
أعادت الغواصة الكَرَّة فى طريقها إلى ميناء إسرائيلى آخر، وكالعادة نجح الرجال فى الاختراق. وفى داخل الميناء داهمتهم مفاجأة مؤلمة فقد تم الإبلاغ عن عطل طارئ بضاغط الديزل فى الجانب الأيمن، وأن العطل تحت الإصلاح، ولأن المصائب لا تأتى فرادى تم الإبلاغ عن عطل جديد فى «الكنجستون» وأصبح الموقف حرجا للغاية وهم رابضون فى ميناء العدو فى العمق بين قطعه البحرية، علما بأن إصلاح مثل هذه الأعطال فى عمق البحر يزيد من صعوبة العمل. فى البداية كان الرقيب محمود إسماعيل الكراى يتساقط منه عرق غزير وحار كمن غطس بملابسه فى الماء بينما كانت الدماء تنزف من أجزاء عديدة من جسمه نتيجة الاحتكاك والتصادم بالأجهزة، فى نفس الوقت كان العريف السيد عثمان يقوم بحل «الكنجستون» الملتصق ببدن الغواصة ببراعة يحسد عليها. مع انتهاء الحل صدرت الأوامر بعزل هذا القطاع وتحميله بضغط الهواء العالى لمنع تسرب المياه إلى داخل الغواصة. ورغم أن عملية الإصلاح استغرقت وقتا قصيرا فى ظرف وجود الغواصة أسفل البحر فإن أنفاس الرجال المتوقفة فى باقى القطاعات انتظارا لنتائج محاولة الإصلاح مرت كدهر طويل، كان الرجال الذين يقومون بالإصلاح فى القطاع الموجود به «الكنجستون» قد بدؤوا فى نزف الدم من أنوفهم وآذانهم نتيجة تحميل ضغط الهواء العالى، وما إن أبلغوا عن انتهاء الإصلاح حتى بدأ تفريغ الضغط العالى للهواء ودمج القطاع فى الغواصة مرة أخرى، وقد تنفس الجميع الصعداء بعد هذه الأزمة الطارئة المروعة. وفى أثناء تبادل التهنئة بالنجاح فى التغلب على الأعطال استغل الرقيب أبو جبل انشغال الطاقم وأحضر البوصة الخاصة به التى يتركها فى الغواصة ليستخدمها فى الصيد فى أثناء الرسو فى القاعدة البحرية بميناء الإسكندرية ودون أن يشعر أحد مدّها فوق رؤوس الجميع ناحية المطبخ مقتنصا دجاجة شبكها بالصنارة وقبل أن يستولى عليها لمحه الطاهى الذى طار فوق رؤوس الجميع ليستعيد عهدته وسط ضحكات الجميع وقفشاتهم عما يحدث بينما كان الطبيب منهمكا فى علاج إصابات الرجال الذين قاموا بالإصلاح. باطمئنان استمرت المهمة لكنها توقفت مؤقتا تحت ظرف قهرى جديد حين أصيب العريف محمود على محمد بانفجار الزائدة الدودية فتم الخروج إلى المياه الدولية والاتصال بالقيادة التى أصدرت الأوامر للغواصة بالتوجه إلى أقرب نقطة فى المياه الإقليمية بالقرب من بورسعيد فقد كانت سيناء لا تزال تحت الاحتلال حيث جاءت طائرة هليكوبتر وانتشلته من الغواصة وحطت به فى أقرب مستشفى عكسرى لإجراء جراحة عاجلة قبل حدوث مضاعفات.
بعد نقل العريف محمود استدارت الغواصة عائدة لاستكمال باقى مراحل المهمة فى موانى إسرائيل مع انتهاء جميع مراحل المهمة، وفى طريق العودة بعد وصول الإشارة «نهنئكم بنجاح المهمة والعودة إلى قاعدتكم» فى ظل أهوال عديدة نجحت هذه الغواصة فى تجاوزها والتغلب عليها وكل العقبات الرهيبة دون أن يفقد فى هذه الأحوال المروعة أى من الرجال أعصابه أو قدرته الكاملة على إنجاز مهامه، لهذا مُنحت الغواصة فى نشرة الأوامر العسكرية رقم «49» العدد رقم «4» بتاريخ 19/2/74، أرفع أوسمة الجمهورية، ومُنح كل بطل من أبطالها أعلى الأنواط العسكرية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.