لما خرج النبى -صلى الله عليه وسلم- فى غزوة تبوك قال «إن بالمدينة أقواما ما قطعنا واديا ولا وطئنا موطئا يغيظ الكفار ولا أنفقنا نفقة ولا أصابتنا مخمصة إلا شاركونا فى ذلك وهم بالمدينة! قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله وليسوا معنا؟ قال: حبسهم العذر فشاركوا بحسن النية» (أخرجه البخارى وأبو داوود). ويقول المولى عز وجل «وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِىِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ» الأنعام 52، والمراد بتلك الإرادة هى النية، وكما فى قوله تعالى «قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِه» الإسراء 84، والمراد على نيته. وفى كتابه الموسوعة «إحياء علوم الدين»، يُعرف أبو حامد الغزالى (450-505 ه) النية بقوله «انبعاث النفس وتوجهها وميلها إلى ما ظهر لها أن فيه غرضها، إما عاجلا وإما أجلا»، وهذا الانبعاث يجرى مجرى الفتوح من الله تعالى.. فقد يتيسر فى أوقات، ويتعذر فى أخرى، لكن لا بد من طلب النية قبل العمل، إذ إن العمل لا يصح على الإطلاق من دون النية، ومن ثم على الإنسان أن يتفقد نيته قبل كل أعماله، فلا يقدم ولا يحجم إلا بنية. ويقسم الغزالى الأعمال من جهة تعلقها بالنية، إلى ثلاثة أقسام: الأول، المعاصى، وهى لا تتغير عن موضعها بالنية، والثانى، الطاعات، وهى مرتبطة بالنيات فى أصل صحتها، وفى تضاعف فضلها، والثالث، المباحات، وما من شىء من المباحات إلا ويحتمل نية أو نيات يصير بها من محاسن القربات، وينال بها معالى الدرجات، فما أعظم خسران من يغفل عنها، ويتعاطها عن سهو وغفلة. فالطاعة يمكن أن تنقلب إلى معصية، إذا انقلبت النية، بدلا من أن توجه إلى الله، وجهت إلى غيره، والمباح يمكن أن ينقلب إلى طاعة، ويمكن أن ينقلب إلى معصية! فإذا فعله الإنسان بنية صحيحة لوجه الله، انقلب إلى طاعة، وإذا فعله الإنسان بنية خاطئة، كأن يفعله كبرا أو نفاقا أو رياء، يتحول إلى معصية، وإذا فعله وهو غافل دون نية، حرم ثوابه، وأما المعاصى فلا تنقلب بانقلاب النية، وإن تضاعفت أوزارها بالنيات الخبيثة. ويؤكد لنا حديث النبى -صلى الله عليه وسلم- أهمية النية فى قوله «إنما الأعمال بالنيات، ولكل أمرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه»، متفق عليه. فنية الإنسان خير من عمله، وهذا ينبهنا إلى أهمية النظر إلى داخل النفس، والبحث بروية فيما يسكن القلب.. فالقلب هو المضغة التى ترفع الإنسان إلى أعلى عليين، أو تهوى به إلى أسفل سافلين، ويرى الغزالى أن الإنسان كائن متطور، قادر على تغيير نفسه، وتحسين أخلاقه، بل وإصلاح بناء حياته كله، فى أى لحظة من لحظات حياته، وذلك من خلال التطهير المتواصل للنيات التى تسكن قلبه.