جملة حوار فى مسرحية «هاملت» تستطيع أن تعتبرها مفتاحا تكتشف من خلالها كثيرا مما تخفيه النفس البشرية «احذر منه إنه لا يحب الموسيقى».. تأمل الجملة وحاول أن تطبقها على دائرة المقربين منك ستجد أن من لا يمنح روحه لحظات قد تطول أو تقصر بين الحين والآخر للموسيقى وللفنون عموما يحمل بداخله روحا شريرة ويجب أن تحذر منه.. ليس كل البشر مبدعين، لديهم ملكة ممارسة الفن، نسبة ضئيلة منا هى التى تملك مفاتيح الإبداع، ولكن نحن جميعا نستقبل ما تفرزه قريحة المبدعين.. تذوق الجمال هو إحدى السمات البشرية، ولهذا لم أرتح إلى ما قرأته قبل يومين على صفحات جريدة «التحرير» نقلا عن البابا شنودة للزميلين يوسف شعبان وبيتر مجدى، فى عظته الأسبوعية عندما قال الأغانى عموما حرام، وكان قبل ذلك بلحظات قد أباح زراعة الكبد، سعدت بالطبع بتلك النظرة العلمية المستنيرة التى انحازت للحياة، وأقر بعدم تعارض تلك العملية مع الديانة المسيحية وأتصورها لا تتعارض مع كل الأديان. وتساءلت: هل من يملك تلك الرؤية الرحبة العصرية يمكن أن يُحرِّم الغناء؟ أشعر بأن الأمر يحتاج إلى توضيح من البابا، خصوصا أنه كان يكتب فى شبابه الشعر العمودى، والشعر هو موسيقى الكلمة، وكثيرا ما يردد البابا فى أحاديثه عديدا من أبيات الشعر له وللآخرين وأكثر من مرة قرأت فى مقالاته التى ينشرها كل يوم أحد على صفحات جريدة «الأهرام» أبياتا من عيون الشعر العربى.. لم أجد فى كل ما قرأته أو سمعته للبابا ما يمكن أن يجعلنى أصدق بأنه يحرم الأغانى مثل الشيوخ السلفيين الذين بدأ فريق منهم مؤخرا فى التراجع حتى عن تلك المقولات المتزمتة ويرددون أن الجيد منها حلال والردىء حرام، ورغم أن الزج بمفهوم الحلال والحرام فى الفن والطب أراه تعسفا مرفوضا، لأن الفن والعلم لا ينطبق عليهما هذا المفهوم، هناك فن ردىء وفن عظيم، ولكن لا يمكن اعتبار أن هناك فنا شرعيا مباحا وآخر غير شرعى ممنوعا!! من المهم للبابا أن يوضح فى عظته القادمة ما الذى قصده تحديدا بهذا التعبير «الأغانى عموما حرام»، خصوصا أن بين الأقباط «الأرثوذكس» فى مصر من يلتزم مباشرة بكل ما يصدر عن البابا مثلما نرى ذلك فى بعض الجماعات الإسلامية التى يلتزم أعضاؤها بما يصدر عن شيوخهم.. الديانة المسيحية مع اختلاف الدرجة بين مذهب وآخر تسمح بالموسيقى، حيث تقدم عديدا من الترانيم بأصوات الشمامسة، وتجد مثلا آلات موسيقية فى الكنائس الكاثوليكية والبروتستانتية، ودائما الترانيم بأداء منغم موسيقيا تصاحب طقوس الصلاة والزواج والجنازة فى الكنيسة الأرثوذكسية.. وبين شيوخ الإسلام مثلا كان الإمام الغزالى يبيح الاستماع إلى المطربين والمطربات، بل إن أغلب الملحنين القدامى كانوا يحملون لقب شيخ حتى لو لم يدرسوا فى الأزهر الشريف مثل زكريا أحمد، وأبو العلا محمد، وسيد درويش وسلامة حجازى، حيث لا تعارض بين الفن والدين.. بينما الآن من الممكن أن تستمع إلى بعض المطربين المتزمتين يرددون أن الموسيقى حرام أو غير مستحبة، ولهذا فهم يعدون أشرطة أغان بلا موسيقى.. البابا وكبار الشيوخ فى العادة لا يصرحون بآراء لكى يؤخذ أو لا يؤخذ بها، ولكنهم يحددون معالم الطريق أمام أتباعهم. ربما كان البابا يقصد الأغانى الرديئة وكان يخشى على شعب الكنيسة من الاستماع إلى بعضها فقرر التحريم المطلق، ولكن الخوف أن تنتقل كل هذه الأفكار لترسخ فى يقين البعض. البابا واحد من الشخصيات التى تمتلك روحا مرحة لا تتخلى عنه أبدا، فهو لا يترك مناسبة إلا وتلمح قفشة أو لمحة تتخلل أحاديثه، فهو دائم التواصل مع الحياة بكل أطيافها ولهذا لا أصدق أن البابا كان يقصد تحريم الأغانى، ربما أراد تحريم الأغانى الرديئة.. البابا فقط هو الذى يملك الإجابة.