كانت المدرسة مثل كل مدارس الأحياء الشعبية المزدحمة عبارة عن مبنيين اثنين فى مساحة ضيقة وسط البيوت، تطل شبابيك الفصول على منور بيت أو على حجرة نوم بيت آخر، ويجلس التلاميذ فوق بعضهم تقريبا، ويقف المدرس فى مساحة لا تسمح له بالتحرك ولا خطوة، لكنها كانت فى النهاية مدرسة. بعد زلزال سنة 1992 تصدع أحد المبنيين وأصبح لا يصلح لأن يدخله التلاميذ، فوزعوا تلاميذه على أماكن عديدة قريبة من المدرسة، كل مكان فى الحى يصلح أن يتحول إلى فصل استغلوه ونقلوا التلاميذ ومدرسيهم إليه. مركز شباب ومعهد أزهرى وجمعية خيرية تابعة لجامع وغيرها، مرت الأعوام والمدرسة لا يعاد بناؤها، الأهالى استسلموا، ربما لأن المبانى الجديدة التى نقل أولادهم إليها لا تختلف كثيرا عن المدرسة القديمة. والمدرسون أيضا فقدوا اهتمامهم، الأماكن التى استضافت التلاميذ هى -فقط- ما ظلت محتفظة باهتمامها بإعادة بناء المدرسة -فقط- لتتخلص من التلاميذ، الضيف الثقيل، استطاعت أكثر من جهة التخلص منهم بقرارات من الوزارة والمحافظة، وبقيت جمعية تنمية المجتمع التابعة للمسجد تستضيف ثمانية فصول، والمبنى القديم فى المدرسة القديمة يضم ستة فصول، ولا يزال أعضاء مجلس إدارة الجمعية ينتظرون إعادة بناء المدرسة بعد كل هذه السنوات!! هيئة الأبنية التعليمية رأت أن المساحة القديمة المخصصة للمدرسة لا تصلح لبناء مبنى آخر، ولا تصلح لأن تكون مدرسة أصلا. الغريب أن الأهالى يرفضون أن يدخلوا أولادهم مدرسة أخرى أكبر وأوسع لكن أبعد. رغم أن البعيد أصبح قريبا كما يقول لى أحد المشرفين فى الجمعية (إحنا كنا زمان بنمشى فى المزارع كيلوهات لوحدنا، إيه اللى جرى للناس عايزين عيالهم يتعلموا فى أى مكان وخلاص؟) الجمعية بها ألفا تلميذ.. ألف صباحى، وألف مسائى.. المدرسة فترتان. وصلت المدرسة بين الفترتين، كان تلاميذ الفترة الصباحية يخرجون من المدرسة، لكن تلاميذ الفترة المسائية كانوا ممنوعين من الدخول. أمهات التلاميذ يصطحبنهم (ممنوع ده إيه.. يعنى إيه الدراسة تبدأ الساعة اتنين.. يعنى هيقعدوا فى المدرسة ساعتين.. من اتنين لأربعة.. يتعلموا إيه فى الساعتين دول.. هيدخلوا يعنى هيدخلوا.. إنتو قلتوا الدراسة الساعة واحدة تبقى الساعة واحدة) كانت هذه أصوات الأمهات المرتفعة جدا جدا. وكان يقطعها صوت رجل ضخم، يسد باب المدرسة ويمنع الدخول، يكرر جملة واحدة (وأنا مالى.. دى أوامر.. وأنا مالى) تهجم عليه الأمهات يتبعهن أطفالهن التلاميذ وأخواتهم (مش هنفضل رايحين جايين.. لازم ندخل.. لازم ندخل) يهدأ الجميع عندما تظهر مدرسة تشبه الأمهات فى ما عدا أنها لا ترتدى العباءة السوداء مثلهن. (بيركبوا لكم مروحة.. إيه مش قادرين تصبروا شوية.. اقعدوا هنا لما الكهربائى يخلص) هدأت الأصوات وافترشت الأمهات الرصيف المقابل فى انتظار السماح بدخول الفصول. واحدة فقط هى التى أبدت اعتراضها (مروحة إيه.. مش لما يجيبوا دكك الأول.. ولّا لما يبقى فى مدرسة أساسا). سألتها (هو انتو ليه بتوصلوا أولادكم لباب المدرسة؟ مش البيت قريب ليه مش بييجوا لوحدهم؟) قالت (لا بنخاف عليهم إحنا بنسيب اللى ورانا واللى قدامنا عشان خاطرهم.. يمكن يتعلموا) لما لاحظت عدم اقتناعى قالت (مش كل حاجة شكل المدرسة، وكمان رحنا بكرة هيبنوا لنا مدرسة كبيرة، هو مين سيادتك؟ يعنى بعد إذنك حضرتك مين؟ إنتى مش من هنا ولّا إيه؟ طبعا إنت مش من هنا؟)