واصل البنك المركزى تحريكه لسعر الفائدة صعودًا وهبوطًا خلال الفترة الماضية بمعدلات كبيرة، معللاً السبب فى كل مرة بالرغبة فى السيطرة على التضخم وجذب معدلات أكبر من الاستثمار سواء الداخلي أو الخارجي، بهدف تحقيق معدلات أكبر من النمو الفعلى للاقتصاد، مبشرًا بنهضة اقتصادية واسعة فى كافة المجالات الإنتاجية ومستوى المعيشة. إلا أن اجراءات البنك المركزي تتزامن معها سلسلة إجراءات من الدولة من شأنها أن ترفع حجم التضخم أبرزها زيادة أسعار الكهرباء والمترو والوقود وهو ما بدأ يتبعه موجة ارتفاع فى الأسعار. وسط كل ذلك يبقى عدد من الأسئلة حول ما إذا كان المركزي سيضطر لرفع سعر الفائدة مجددًا، أم سيكمل مسيرته فى تخفيضها، أم أنه سيوازن أموره بتثبيت السعر؟، وما هي الآثار المترتبة على رفع سعر الفائدة على الاقتصاد القومي؟ وما إن كان رفع سعر الفائدة هو الأداة الوحيدة لكبح جماح التضخم، أم أن هناك أدوات أخرى أقل ضررًا، وكيف تعاملت الدول الخارجية مع التضخم؟ مراحل رفع سعر الفائدة وإعادة تخفيضها البداية كانت فى نوفمبر 2016، حين واجه الاقتصاد نقصًا حاداً فى العملات الأجنبية، تبعه ارتفاع متواصل فى سعر صرف الجنيه فى مواجهة الدولار وباقى العملات، نشأت عنه سوق سوداء خلقت فرقًا هائلاً بين سعر الصرف الرسمي والسعر خارج المنظومة الرسمية. سارع البنك المركزي باتخاذ قرار تحرير سعر صرف الجنيه، منهيًا مرحلة طويلة من تحكم الدولة فى سعر الصرف استمرت منذ يوليو 1952 حتى 2016، بهدف القضاء على ازدواج سعر العملة والسوق السوداء، ارتفع سعر الدولار من 8.88 جنيه قبل التعويم ليقترب من 20 جنيها على الفور قبل أن يستقر بين 17 و18 جنيها لاحقا. صاحب قرار تحرير سعر الصرف قرار آخر برفع الفائدة 3% ليصل إلى 14.75% للإيداع و15.75% للإقراض، بهدف زيادة الاحتياطي الأجنبي وخفض مستوى التضخم المتوقع، واستهدف المركزي بالقرار أولاً تحفيز الادخار عن طريق دفع المواطنين لتحويل مدخراتهم الدولارية للجنيه وإيداعها في البنوك. وثانياً جذب استثمارات أجنبية على شكل محافظ مالية تستثمر فى السندات والأسهم المحلية، من خلال الفائدة المرتفعة وعائدها المجزي، وهو ما صادف بعض النجاح بالفعل، حيث وصلت استثمارات الأجانب إلى 19 مليار دولار في نوفمبر 2017، أي بعد عام من التعويم. يوليو 2017 واصل البنك المركزى سياسة رفع الفائدة لتصل إلى 18.75% للإيداع و19.75% للإقراض، وهو الإجراء الذى واجهته انتقادات عديدة لتأثيره السلبى على الاستثمار فى ظل الركود الاقتصادي الذي تعاني منه مصر. انعكست هذه الإجراءات لدى القطاع المصرفي الذي طرح شهادات ادخارية بعائد وصل إلى 20%، جذبت ما يقارب 784 مليار جنيه، ليبلغ إجمالي إيداعات القطاع المصرفي 3.5 تريليون جنيه، الأمر الذي أكسب البنوك المصرية قوة كبيرة. كما شهد ميزان المدفوعات تحسنا كبيراً في النصف الأول من العام المالي 2017/2018 ليتراجع عجز الحساب الجاري إلى 3.4 مليار دولار، مقابل 9.4 مليار دولار فى العام المالي السابق، بنسبة انخفاض 64%. فبراير 2018 قرر البنك المركزى خفض الفائدة 1%، أعقبه بعد شهر ونصف فى مارس 2018 بخفض آخر بنفس القيمة، ليصل بسعر الفائدة إلى 16.75% للإيداع، و17.75% للإقراض، مبررا التخفيض باستقرار معدل التضخم للشهر الثانى على التوالى عند أقل معدلاته منذ عام سابق، حيث انخفض إلى 17% فى يناير و14.4% فى فبراير بعد أن كان قد وصل إلى 32% قبل عام. يأتي هذا الإجراء رغم التوقعات بالمزيد من ارتفاع الأسعار نتيجة إجراءات إلغاء الدعم المتوقعة قريبًا ضمن حزمة قرارات متعلقة بتحقيق شروط الحصول على باقي شرائح قرض صندوق النقد الدولي بإجمالي 12 مليار دولار. العلاقة بين سعر الفائدة والاقتصاد تستخدم البنوك المركزية سعر الفائدة لتحقيق أهداف السياسات النقدية، وتتمثل في السيطرة على التضخم واستقرار سعر صرف العملة المحلية، ويحتاج التغيير فى سعر الفائدة إلى نحو عام ليبدأ تأثيره في الانعكاس على الاقتصاد. وعادة تستخدم البنوك المركزية رفع سعر الفائدة للحد من الإنفاق الاستهلاكي ورفع معدلات الادخار وخفض المعروض النقدي ولكنها تعد أيضا سلاحا ذا حدين فزيادة تكلفة الاقتراض من البنوك، تؤدي لتراجع الاستثمار وزيادة تكلفة المشروعات فتتجه لخفض الأجور والوظائف، وتراجع النمو الاقتصادي مع حالة ركود. أما فى حالة ركود الاقتصاد وتراجع معدل النمو تخفض البنوك المركزية سعر الفائدة، فتصبح الودائع البنكية غير جاذبة لرأس المال، فتتوجه الاستثمارات للمشروعات والأعمال، ويشجع تخفيض تكلفة الاقتراض، الشركات والأفراد على القيام بمشروعات تحفز النمو. وخلال الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008، وصلت البنوك المركزية عبر العالم بسعر الفائدة إلى ما دون الصفر، فيما سمي وقتها بالفائدة السلبية، أي أن المودع هو من يدفع للبنك لإيداع نقوده، وكانت اليابان آخر من اتبع تلك السياسة فى 2014، بعد أن سبقتها لذلك النرويج والسويد وسويسرا، ولم يتجاوز سعر الفائدة ال1% في أغلب بلدان الاتحاد الأوروبي وأمريكا، فى محاولة لإرغام البنوك والأفراد على إنفاق مدخراتهم فى الاقتصاد لتحفيز الاستثمار والاستهلاك ودفع النمو الاقتصادي. هل يؤدي تخفيض سعر الفائدة إلى تشجيع الاستثمار؟ انقسم الخبراء والمحللون الاقتصاديون في رؤيتهم لآثار التوجه نحو تخفيض سعر الفائدة، فاعتبره البعض اتجاها إيجابيا يساعد على تشجيع الاستثمار وزيادة النمو الاقتصادي، متوقعين أن يخفض البنك المركزي سعر الفائدة بين 4 و5% قبل نهاية 2018، مع تراجع معدلات التضخم، ويؤكد أصحاب وجهة النظر هذه على أن البنك المركزي بعد سيطرته على التضخم، سوف يستهدف تشجيع الاستثمار ورفع معدل النمو، من خلال تشجيع الاقتراض، إلى جانب سياسة الشمول المالي و الدفع غير النقدي التي سيطرحها البنك خلال الفترة القادمة. وقال دكتور هانى توفيق رئيس جمعية الاستثمار المباشر السابق، إن البنك المركزي يتجه حاليا نحو خفض أسعار الفائدة، مشيرًا إلى أنه لم يكن هناك مفر من رفع سعر الفائدة لكبح جماح التضخم الذي ارتفع لمعدلات كبيرة بعد قرار تحرير سعر الصرف. وأكدت دكتورة عليا المهدي أستاذ الاقتصاد بجامعة القاهرة، أن البنك المركزي كان مجبرا على رفع سعر الفائدة وتحمل عواقبه، مشيرة إلى أن البنك المركزي يتبع الآن سياسة التخفيض. فيما رأى فريق آخر من الخبراء أن التخفيض المتوالى لسعر الفائدة فى القريب، مع ما سيتبعه من خروج سيولة كبيرة من القطاع المصرفي ستوجه للاستثمار فى العقارات والدولار بما يؤدي لرفع أسعارهما مجددا. الخبير الاقتصادي دكتور وائل النحاس، يقول إن رفع سعر الفائدة لا يعد الأداة الوحيدة لمحاربة التضخم، مؤكدا أن معرفة نوع التضخم وأسبابه هو المقياس الحقيقي والمحدد للأداة المناسبة ورفع سعر الفائدة تستخدم فى حالة واحدة فقط إذا كانت هناك وفرة فى السيولة وزيادة في الطلب وقلة فى المعروض، فبالتالى تحدث ارتفاعات فى الأسعار نتيجة قلة الطلب ولتحجيم هذه العملية يتم رفع سعر الفائدة لإغراء المواطنين بالعوائد المنتظرة، وعندما تقوم الدول بهذا الإجراء تصاحبه بقرار آخر وهو زيادة جزء من الضرائب وهذه هي معادلة رفع سعر الفائدة. وأضاف النحاس، أن نوع التضخم الذى تعاني منه مصر حلزونى وأنه أشبه ب"سوستة" يتم الضغط عليه برفع سعر الفائدة فتحدث النتائج التي نراها وبمجرد رفع الإصبع ستعود الأمور إلى سابق عهدها. متوقعا حدوث هزة عنيفة للاقتصاد المصري نهاية 2018 وحتى منتصف 2019 . هل يضطر المركزى لرفع سعر الفائدة يوليو المقبل؟ الحكومة أعلنت سلسلة من الخطوات لرفع الدعم برفع أسعار المواد البترولية الذى سبقه رفع سعر الكهرباء وهذا له مردود مباشر على حجم التضخم ويسهم فى رفع معدلاته، مما ينذر بالتوجه مجددًا نحو رفع سعر الفائدة، خاصة أنه عقب قرارات المركزى المتتالية نحو التخفيض اضطر الشهر الماضي إلى تثبيت سعر الفائدة دون تخفيض بعد قرار رفع سعر تذكرة مترو الأنفاق متخوفا من مردود ذلك على التضخم. وأكد هانى توفيق الخبير الاقتصادى أن البنك المركزي قد يلجأ لرفع سعر الفائدة باعتباره الأداة المتاحة فى يد الدولة لمواجهته خلال الفترة المقبلة. بينما أكدت دكتورة عليا المهدي، أستاذ الاقتصاد بجامعة القاهرة، أن البنك المركزي سيتجه نحو تثبيت سعر الفائدة ولن يأخذ قرارا جديدا بالتخفيض أو يرفعه، نظرا لما لذلك من تأثير سلبي مباشر خاصة مع موجة التضخم المتوقعة. "الحكومة سابتنا وسط البحر لا هنعرف نكمل ولا هنعرف نرجع الاتنين خسارة كبيرة"، هكذا علق دكتور وائل النحاس الخبير الاقتصادى على الإجراء الذى قد يتجه البنك المركزي نحو اتخاذه الفترة المقبلة حيال سعر الفائدة، مؤكدًا أن الاستمرار فى التخفيض سيكبد الدولة خسائر كبيرة خاصة مع موجة ارتفاع الأسعار المرتقبة عقب الإجراءات الاقتصادية المتجهة نحو تقليص الدعم وما لها من تأثير مباشر على الأسعار وبالتالى رفع معدل التضخم، معتبرًا أيضا أن رفع سعر الفائدة سيكبد الدولة خسائر كارثية على المدى الطويل لذلك لا مفر من التثبيت المؤقت للسعر. رفع سعر الفائدة الحل الوحيد لمواجهة التضخم أم أن هناك بدائل أخرى؟ رفع سعر الفائدة قد يكون أداة لمواجهة التضخم فى حال ارتفاع معدلاته، ولكنه ليس الأداة الوحيدة فهناك بدائل قد تعالج التضخم، وبعضها جذري وحاسم. دكتور وائل النحاس الخبير الاقتصادى اعتبر أن الدولة وقعت فى عدد من الأخطاء في أثناء برنامجها للإصلاح الاقتصادي، أهمها معالجة التضخم برفع سعر الفائدة متجاهلة نوع التضخم، والأهم الاستمرار نحو المشروعات العملاقة، فالمعادلة الاقتصادية الصحيحة تقتضي أنه في أوقات التضخم يجب أن يتم تقليص المشروعات العملاقة حتى لا نقع فيما وقعت به دول الخليج بعد انهيار منتج النفط، والتى سجلت الخسائر كارثية لأنها كانت تستمر في التوسع تجاه مشروعات الدولة العملاقة وتقليص المشروعات الصغيرة والمتوسطة. وأضاف النحاس أنه إذا كان معدل النمو لا يستطيع كبح جماح التضخم والسيطرة على الديون يصبح عديم القيمة تماما. وفيما يتعلق بالأدوات البديلة لرفع سعر الفائدة أشار النحاس إلى أن الدولة عليها أن تسعى في المقدمة إلى تخفيض الأسعار وخفض نسبة الجمارك، و العمل على زيادة دخل الفرد. ويرى الخبير الاقتصادي هاني توفيق، أن البديل عن رفع أسعار الفائدة لمواجهة التضخم تكمن في العمل على تقليل عجز الموازنة وزيادة تحصيل الضرائب. لماذا لا تلجأ الدول الخارجية لرفع سعر الفائدة؟ قال دكتور هانى توفيق رئيس جمعية الاستثمار المباشر، إن الهدف من رفع أسعار الفائدة لا يقتصر على محاربة التضخم فقط، وإنما الحفاظ على وضع مصر بين الدول حتى لا تفقد جاذبيتها في الأسواق كتركيا والأرجنتين التى تستقطب رؤوس الأموال السريعة والتى تدخل فى أذون الخزانة، إلا أن البلدان التى وصلت ل40% تعد ظروفا خاصة، أما مصر فتسير بشكل منظم. وتؤكد دكتورة عالية المهدي، أن معدل التضخم فى البلدان الأخرى لا يتجاوز 1 أو 2% فرفع سعر الفائدة ناتج عن الارتباط بمعدل التضخم الذى تراوح فى مصر ما بين 30 و34% ولهذا لا توجد مقارنة بين سعر الفائدة فى مصر والبلدان الأخرى.