هذا هو تاريخنا مع القدس، نفرط فيها بسهولة، ولا نستردها إلا بعد طول عناء، وهذه المرة ربما تكون الأخيرة فلن نستطيع استعادتها، إنها مدينة السلام، وهي أيضا مدينة الدماء، فقد عجنت أحجار أسوارها بدماء مختلف الأجيال، وعز عليها السلام لسنوات طويلة، وعكست قبة الصخرة الذهبية مشاهد الصراع الذي دار في أحيائها وارتفعت عليها رايات الغزاة والفاتحين، وكل من امتلكها يعتقد أنه قد امتلك صرة العالم، تاريخها دائم الانقلاب، وطوال عمرها الذي يبلغ أكثر من خمسة آلاف عام لم تدم لأحد. لا توجد مدينة في العالم تقلب عليها السادة مثلما حدث لمدينة القدس، لم يوجد لها سيد دائم مهما طال تاريخ امتلاكه لها، ورغم أننا كعرب كنا أطول هؤلاء السادة عمرًا في امتلاك القدس وتعميرها، ولكننا كنا أوهنهم قوة، لقد وهبنا المدينة جزءًا من ضعفنا، لذلك لم تكن مستعصية على السقوط، نحن الذين هيأنا الظروف لسقوطها الأخير، نحن الذين أصررنا في كل مرحلة تاريخية على دعوة اليهود للدخول إليها، في كل مرة كان يحرم عليهم دخولها، كنا نحن كعرب ومسلمين، الذين نلح في دعوتهم ونقوم بحمايتهم، مرة أولى وثانية حتى الدعوة الثالثة عندما دخلوها واستوطنوها وامتلكوها. كانت الدعوة الأولى في باكورة الفتح الإسلامي، فقد كانت أسوار القدس منيعة أمام الجيوش العربية، فرغم أنها فتحت فارس والشام عبر معارك ضخمة، فإنه كان للقدس مهابتها، ولم تكن للعرب خبرة كبيرة في اختراق الأسوار، وعندما استطال الحصار وأدرك بطريرك المدينة أن هؤلاء العرب لن يعودوا للصحراء خاطب قائدهم "أبو عبيدة بن الجراح"، وأكد له أنه لن يسلم المدينة إلا للخليفة عمر بن الخطاب شخصيا، وكان عليهم أن ينتظروا ما يقارب الشهر حتى يأتي الخليفة معفَّرًا بالرمل على ظهر ناقته الوحيدة ويتسلم منه مفاتيح المدينة ويكتب لهم عهدا بالأمان، كلٌّ يبقى على حاله ويحافظ على دينه شريطة أن يدفع الجزية، وكان الكاسب الأكبر من هذه العهدة العمرية هم اليهود، فقد سمح لهم بدخول المدينة التي حرمها عليهم الرومان، كان المسلمون هم من وضعوا النهاية لشتاتهم الطويل، فلم يكن اليهود من بناة القدس، ولكن بناها أجداد العرب من الكنعانيين، ولكن اليهود عبروا نهر الفرات واستقروا فيها، ثم تغلبوا على الكنعانيين ليقيموا أول دولة لهم تحت حكم الملك سليمان وابنه داوود، حتى الآن لا يوجد ما يثبت هذه الروايات غير الكتب المقدسة، التوراة ثم القرآن من بعدها، لا توجد آثار تؤكد وجود ما يطلق عليه هيكل سليمان، ولكن نقوش تل العمارنة في مصر تتحدث عن قبيلة مشاغبة في الشمال، ليس من الضرورة أن يكونوا يهودا، ولكنهم سكنوا المدينة وأثاروا الكثير من المتاعب للرومان حتى حرموها عليهم، وتمتعوا بالأمان المطلق تحت ظل العرب حتى هاجمها فرسان الصليب من أوروبا المتحفزة. وجاءت الدعوة الثانية لليهود من السلطان الناصر صلاح الدين، كان سقوط القدس في يد الصليبيين في أواخر القرن الحادي عشر مروعا، فقد قاموا بمذبحة ضد سكان المدينة من المسلمين واليهود، قتلوا حوالي 70 ألفا ولم يبقوا إلا على المسيحيين فقط، وحرم دخول المدينة على اليهود لأكثر من مئة عام حتى جاء صلاح الدين، كان قائدا فذًّا، ولكنه قضى الشطر الأول من حياته وهو يحارب في الجبهة الخطأ، يقاتل أعداءه من الأمراء المسلمين، كانت هذه مأساته وموطن ضعفه، فقد كان مهوسا بالقضاء على بقايا الفاطميين في مصر، وأكثر هوسًا بالاستيلاء على المدن التى لم تعد خاضعة للعباسيين، يحكمها أمراء مغامرون من حلب إلى الموصل إلى دمشق وغيرها من المدن الصغرى، وطوال الوقت كان يتجنب الاصطدام بالصليبيين رغم أنه يدرك أنهم العدو الرئيسي، ففي بداية عهده حاصر الأسطول الصليبي مدينة دمياط لمدة سبعين يوما، ولولا العواصف، ولولا أن الحدادين في دمياط واصلوا الليل بالنهار حتى صبوا أضخم سلسلة من الحديد، سدوا بها فوهة نهر دمياط لتمنع سفن الصليبيين من الدخول للمدينة، لولا ذلك لغُزى صلاح الدين في عقر داره، لذلك فقد كانت المرحلة الأولى من معاركه حرثًا في الماء، نوعًا من غض البصر عن العدو الحقيقي الذي كان يهاجم القرى والرعاة ويقتل قوافل الحجيج ويفرض قراصنته على الشواطئ ويهدد بالوصول إلى مكةوالمدينة، لكنه رأى لحظة الحقيقة حين اقترب الخطر من لحمه، بعد أن هاجم الصليبيون قافلة حجاج كانت فيها أخته شخصيا، بدأ جهاده ضدهم، ودخل سلسلة من المعارك بلغت قمتها في "حطين". في حطين انكسر العمود الفقري للوجود الصليبي في فلسطين، قتل زهرة فرسانهم وأسر أشهر ملوكهم ولم يعودوا قادرين على خوض أي معركة كبرى دون مدد من أوروبا، ولكن ظلت للقدس مهابتها، وقف صلاح الدين تحت أسوارها عاجزًا عن أن يخوض معركته حتى النهاية، لم يقدر على حرقها أو دكها بالمنجنيق، كانت مليئة بالمقدسات، وحافلة بالبشر من مسلمين ومسيحيين، وبعد أيام من الحصار المضنى توصل إلى اتفاق سلمي للاستيلاء عليها، وافق على خروج الصليبيين منها مقابل فدية صغيرة لكل فرد وعلى تعهد منه بعدم قتاله مرة أخرى، ودخل المدينة منتصرا، ولكن الكاسب الأكبر هذه المرة أيضا كان اليهود، فقد سمح لهم السلطان بالدخول إليها بعد أن حرموا منها أكثر من قرن من الزمن. أما الدعوة الثالثة، ولعلها الأخيرة، فقد قدمناها نحن من خلال تخاذلنا وضعفنا، لم ندع اليهود من سكان إسرائيل لدخول القدس فقط، ولكننا قدمناها لهم بكل ما فيها من آثار ومقدسات مسيحية وإسلامية، تنازلنا عن جزء مهم في التراث الإنساني لم يكن من حقنا التنازل عنه، بعد هزيمة الجيوش العربية عام 48 تنازلنا مرغمين عن نصف المدينة، ولم يؤرقنا ذلك كثيرا، لأننا لم نفعل الكثير لاسترداده، مجرد خطب وشعارات مرفوعة وعدة انقلابات عسكرية، ولكن أحوال العرب ظلت على حالها، تحكمها الأنظمة غير الشرعية ذاتها، وتدافع عنها جيوش التشريفات، وتستمرئ العيش في وهدة التخلف، وبعد هزيمة 67 فقدنا النصف الثاني من المدينة بما فيها المسجد الأقصى وقبة الصخرة، كنا أضعف بكثير مما ينبغي، وأكثر تخلفا، واكتشفت إسرائيل أنها حصلت على غنيمتها الكبرى، بعد ذلك لن يستطيع أحد أن يمنعها من دخول المدينة بل إنها هي التي أصبحت تمنع الآخرين، ولا تسمح لأهلها من المقدسيين العرب بالإقامة فيها إلا بتصاريح مؤقتة، وأخذت تسعى للتخلص منهم بأي ثمن لأنهم يذكرونها بالماضي حين كانوا هم السادة، القدس الآن تتعرض لأكبر عمليه جراحية، تهدف لإزالة ملامح وجهها التاريخي القديم وإخفائه خلف قناع يهودي جديد، والاعتراف الأمريكي بالقدس عاصمة لإسرائيل هو جزء مهم من هذه العملية الجراحية، وهي تدرك أن بقية الدول سوف تتبعها حين ينظرون فلا يجدون إلا القدس اليهودية أمامهم. إنه حكم الأمر الواقع، واقع نحن فيه الأضعف، ولا نستطيع أن نلوم غيرنا على ضياع القدس، فنحن الذين قدمنا الدعوة إثر الدعوة لليهود بأريحية مخزية، حتى قبلت إسرائيل تلك الدعاوى المتكررة والتهمتها كلها ولم يعد هناك قدس بالنسبة لنا إلا في كتب التاريخ.