عندما تحدث أي عملية إرهابية تبدو سيناء وكأنها منطقة خالية، لا قوات للأمن، ولا وجود للقبائل، الضحايا فقط هم الذين يوجدون، فمنفذو العمليات يتصرفون براحة تامة وفق مزاجهم الخاص ودون خوف من أي مباغتة، فهم يستوقفون السيارات في أحد ميادين العريش ويفحصون البطاقات، ويتعاملون مع الناس حسب هويتهم الدينية، وفي موقف آخر يقومون بالسطو على أحد البنوك، وينقلون النقود منه على دفعات إلى عربة نصف نقل تقف خارجه تحت حراسة المدافع الرشاشة. استغرق الأمر طويلا أن تكون هناك أجهزة إنذار أو أي نوع من الوجود الأمنى، كأنهم أشخاص غير مرئيين، أما المرة الثالثة والمأساوية فقد حدثت في مسجد الروضة في بلدة بئر العبد، تلك المذبحة المروعة التي قام بها الإرهابيون ضد المصلين في صلاة الجمعة، لقد انتظروا حتى صعد الإمام على المنبر وبدؤوا في حصد الجميع، رجالا وعجائز وأطفالا، ماتوا في المكان نفسه الذي كانوا يسجدون فيه خاشعين لله، كان الفخ الدموي محكما، قناصة يقفون على النوافذ، وسيارات تنتظر عند الباب حتى تمنع هروب أي أحد، وحسب رواية أحد الأطفال الذين نجوا من الموت فإن المسلحين قد حولوا عمليات القتل إلى نوع من المزاح حول مَن منهم يقتل أكثر. كان الوقت مفتوحا أمامهم دون خوف، من قدوم الأمن، حولوا عملية الاغتيال إلى طقس وحشي دون رحمة ودون رادع أيضا، وانتظروا حتى حضرت سيارات الإسعاف فأطلقوا عليها النار أيضا، ومن الغريب أن قوات الأمن كانت آخر من وصلت وكان الإرهابيون قد انصرفوا جميعا. في كل هذه الحوادث وغيرها كانت قوات الأمن غائبة، ليس عن تقصير لأن المساحات شاسعة، ولكن لنقص المعلومات، ما يجعل مقاومة الإرهاب في سيناء عملية شاقة هو أننا لا نعرف جيدا كنه العدو الذي نقاتله، وبالتالي لا نعرف أين سيوجه ضربته القادمة، هناك ثغرة تعاني منها قوات الأمن، هي نقص المعلومات لذلك تطول المعركة ويتكاثر الضحايا، هذه الثغرة على وجه التحديد هي بدو سيناء، الحاضنة الطبيعية لكل أفواج الإرهابيين. سيناء صحراء قاحلة، مليئة بالمسارب الرملية والمغارات والطرق الخفية في أعماق الجبال، لا يستطيع الغرباء العيش فيها دون من يقودهم، دون من يدلهم على طرق الهرب والتخفي، ويساعدهم على التغلب على الحصار ويمدهم بالماء والطعام، والأهم في ذلك من يمدهم بالذخائر والسلاح، ومن يعالج جرحاهم ويوفر لهم الأدوية، كل هذه الأشياء لا تتم إلا من خلال قبائل البدو التي تعيش في هذه المنطقة. لقد انتفض كل رؤساء القبائل الإحدى عشرة التي تسكن سيناء بعد مذبحة الروضة، أصدروا بيانات غاضبة تدين الإرهاب، وأعلن ما يسمى اتحاد قبائل سيناء أنه منذ هذه اللحظة سيتعاون مع الشرطة، وأن لديه تصريحا بالتعامل معهم مباشرة، وأعلن محافظ سيناء بملء فيه أن هذه القبائل تتعاون مع الأمن، كذلك تبارى رؤساء القبائل فى إعلان حزنهم، خاصة أن الضحايا كانوا جزءا منهم، ولكن كل هذا لا ينفي أنهم بشكل مباشر أو غير مباشر كانوا مشاركين في هذه العمليات، كيف نتخيل حركة الإرهابيين لأي موقع من المواقع دون أن يراهم البدو، دون أن يرصدوا حركتهم! ومع ذلك لم يحدث أن أبلغوا قوات الأمن، تركوهم في ظلمتهم يتلقون الضربة تلو الأخرى، في الوقت الذين يمدونهم فيه بالطعام والشراب والسلاح وربما بتحركات رجال الأمن. لقد أهملنا أهل سيناء طويلا، وجاء الوقت الذي جعلنا ندفع الثمن، شئنا أم أبينا نحن أمام نوع من تخليص الحساب، فالعلاقة بين البدو ورجال الأمن بل والدولة المصرية كلها ليست على ما يرام، ليس كلهم بالطبع، ولكن البعض منهم، هؤلاء الذين لا يستطيعون التمسك بالقانون في تلك المنطقة الواسعة والمفتوحة، الخطأ الذي وقعت فيه كل الأنظمة السابقة أنها تعاملت مع سيناء كمنطقة نائية وهامشية، لم تبال بتطويرها أو استثمارها، وكان يجب على أي مواطن سيناوي أن يقوم بزيارة القاهرة أو أي مدينة أخرى من مدن الوادي أن يحصل أولا على تصريح من المخابرات كأنهم أولاد دولة غريبة، كان الشك يحيط بالكثيرين منهم نظرا للنفوذ الإسرائيلي الذي كان موجودا في هذه المنطقة. وأعتقد أنه ما زال موجودا، وما زالت أصابع إسرائيل وراء كل الكوارث التي نواجهها في سيناء، ولن يكون غريبا أن نكتشف وسط عصابات الإرهابيين الكثير من العملاء الذين جندتهم إسرائيل، ولكن هذا الشك تحول إلى نوع من العقاب لأهل سيناء دام على مدى سنوات طويلة، وحتى حين بدأت بعض الاستثمارات السياحية تظهر في جنوبسيناء، فنادق ومنتجعات وقرى سياحية، صدر أمر -ولا أدري ما الحكمة من وراء إصداره؟- يحرم عليهم تشغيل أهل سيناء في هذه المشروعات، وامتلأ جنوبسيناء بكل أصناف العمالة القادمة من كل المدن المصرية إلا من أقرب الناس إليها، لقد تركنا أهل سيناء في فقر مدقع ولم يكن غريبا أن تنتشر بينهم كل صنوف الجريمة، تهريب البشر إلى إسرائيل، عصابات لبيع الأعضاء حتى إن مصر احتلت المرتبة الثانية بعد باكستان في هذه التجارة المحرمة، إضافة إلى تهريب المخدرات والسلاح، في السنوات الماضية عندما لم يكن الجيش موجودا حدث نوع من التواطؤ الإجرامي بين هذه العصابات وبعض العناصر الفاسدة من رجال الأمن، وأصبح هناك نوع من تضارب المصالح، جماعات تتقاتل حتى الموت، وعداوات وثارات بين بعض الأهالي وبعض رجال الشرطة، وانهار الوضع الأمني تماما مع قيام ثورة 25 يناير وأصبحت الشرطة في أضعف حالاتها، ولم تجد الجماعات الإرهابية أي صعوبة في أن تحتل هذا الفراغ الأمني المروع وتبني قواعد جديدة لها، ولم يكن يمكن أن يضمن لها الحياة والاستمرار وسط هذه الطبيعة الصعبة لولا وجود الدعم المستمر من أهالي سيناء. لن يتوقف الإرهاب إلا إذا عادت سيناء مرة أخرى لتكون قطعة من مصر، وأن نعامل أهلها كمواطنين بعيدين عن الشبهات، يجب على قوات الجيش الموجودة بينهم أن يعملوا على كسب ثقتهم، وأن يرفعوا عنهم العنت الذي يلاقونه من بعض رجال الأمن، وأن تتوجه جهود التنمية إلى هذه المنطقة الفقيرة وأن يكون لشبابها الحق في العمل في أي مشروع يقام، أهالي سيناء يبحثون عن العدل، وعندما يتحقق ذلك نستطيع أن نقتلع جذور الإرهاب.