بعد تفجر قضية الفتاوى الشاذة في الفترة الأخيرة بعد تصريحات الشيخ صبري عبد الرؤوف بجواز نكاح الزوجة الميتة، وتلته سعاد صالح بإباحة بعض المذاهب وطء البهائم، انفجرت السوشيال ميديا بعدها بالسخرية، مما دفع الأزهر لاحقا إلى تحويل الشيخ والشيخة للتحقيق داخل المشيخة، وهناك محاولة جادة لتحجيم الفتاوى التليفزيونية، ووضع رخص التجوال التليفزيوني تحت تصرف الأزهر، هم يريدون شيوخ علاقات عامة يعرفون ماذا يقولون وعن أي شيء يمتنعون، وأن يدرسوا ألاعيب رجال الخارجية في التعويم والكلام الساكت والعبارات المطاطة ووسائل الهروب الإعلامي، هم يريدون إعلاميا محترفا برخصة دينية. من متابعة التعليقات على مواقع التواصل وتباين ردود الأفعال المختلفة، فهناك متشددون يرون أنه الدين ولا مجال للنقاش واتباع الهوى، وهناك ملحدون وربوبيون يرون في هذا الأمر انكشافا لسوءات الدين، وهناك مسلمون عاديون منزعجون ورافضون ولكنهم محتارون، ومن هؤلاء وهؤلاء من يراها مؤامرة من الحكومة على الشعب للإلهاء بعيدا عن الواقع الاجتماعي والسياسي المأزوم، وأن يفتحوا له بابا للرغي والكلام، وهذا كلام خطير، ويعني أن هناك قطاعا من الشارع يرى أنها مؤامرة حكومية من النظام نفسه، ومن إعلامه الموالي ليلهيه عن القضايا الاقتصادية والسياسية الهامة، وأن الإعلام متواطئ في هذا الأمر. من المعلوم أن التابوهات الثلاثة هي السياسة والدين والجنس، وإن كانت تلك التابوهات قد كسرت وتهشمت بنسبة كبيرة في المجتمع الغربي، فلم يكن مهما أن يذهب إلى قصر الإليزيه أولاند بعشيقته وقبله ساركوزي برفيقته التي تزوجها لاحقا، ولم تكن مشكلة الأمريكان مع كلينتون ومونيكا، الحدث في حد ذاته بقدر ما كانت مشكلتهم مع كذبه على الشعب الأمريكي في هذه القضية، ولم يهتم الأمريكان بفيديوهات ترامب في مسابقات ملكات الجمال والتي تغلب عليها الإباحية، ولكن ما زال يشغل الشرق قضايا من هذا النوع، وفكرة الإلهاء ليست فكرة غريبة عن الشارع المصري، فقد جسدتها السينما في الفيلم العبقري "الهروب" للفنان أحمد زكي والمخرج العبقري عاطف الطيب الذي خرج بالسينما المصرية إلى فضاءات رحبة بعيدا عن التيمات المكررة وطرح أفكار جريئة ومختلفة. ولكن في النهاية نظرة قطاع من الشارع المصري للنظام بتعمد الإلهاء هو أمر شديد السلبية خاصة بعد ثورتين. النقطة الخطيرة أن الأمر لا يتعلق بظهور منطقة حساسة لفنانة، أو علاقات مشبوهة بين المشاهير من زواج وطلاق وعلاقات خارج الأطر الشرعية، ولكن الأمر الآن يتعلق بالدين أو ما يصر الأزهر أنه الدين، رغم أنه منتج ثقافي. الزاوية الثانية العولمة وخطورتها على الأطروحات الكلاسيكية. فقد عرف الأزهريون من القدم أن الكتب القديمة بها أمور شديدة الغرابة ومثيرة للسخرية وأحيانا مثيرة للغثيان، ولم يتدربوا على النقد، ولكن تعودوا على تقديس كل ماهو قديم وعتيق، وأن المحدثين لن يستطيعوا مقارعة الأقدمين، فإنهم أكثر فهما وعقلاً، وأنه ليس في الإمكان أبدع مما كان، ولذلك عمدوا إلى فكرة الصفوة والعوام، والعوام بالنسبة لهم هم كل من لم يقرأ هذه الكتب حتى لو كان دكتورا في الجامعة في أي تخصص آخر، وافتكسوا فكرة "ليس كل ما يعلم يقال"، وأن تلك المعلومات للخواص، وأنهم يخرجون من بطون الكتب، ما يناسب هؤلاء العوام ويخفون الباقي، ويكفوا على الخبر ماجور ليكون السر في بير. واستمرت الأسرار في البئر أكثر من ألف سنة منذ عصر التدوين وحتى الآن، وكان من السهل أن يهيلوا التراب على أي شخص يخرج من البئر أي سر من الأسرار ويذيعه، ليكذبوه ويدَّعوا أنه مارق، وأن هذا ليس من الدين في شيء، ويضغطوا عليه للاعتذار والتراجع، وهذا ما حدث مع الشيخ صبري عبد الرؤوف وتراجع واعتذر، ولكنهم لم يلحظوا المتغيرات، إنها العولمة، ذهب المشاغبون إلى بطون الكتب وأخرجوا ما بها، وبسرعة البرق خرجت مصورة بفقراتها بأسماء الكتب ورقم الصفحة، بحث قدمته "اليوم السابع"، وبحوث أخرى قدمتها مواقع إلكترونية أخرى، وأعطوا السماح بتحميل هذه الكتب للتأكد، وكلها لشخصيات هامة مثل مفتي الديار السورية، أو الشراح الكبار للمذاهب الشافعية والحنبلية. والأمر أصبح جدا لا هزلا، إما رفع الحظر عن تلك الكتب ورفع القداسة، واتهام الأقدمين أو بعضهم بأنهم انحرفوا عن الفكر القويم، ليس على مجال التعميم، ولكن على مجال التخصيص، أو فلنقل بعض كتاباتهم، وأنهم محل للبحث والنقد، وأن كل ما دُون هو قيد المراجعة والنقد، بما فيها العلوم المؤسسة، كعلم الرجال وعلم الحديث وعلوم أصول الفقه وعلوم التفسير واللغة، وهذا أمر يقلق الأزهر، لأنه سيهدم مدرسة النقل من جذورها لينشئ مدرسة فلسفية جديدة على أسس بحثية مختلفة، وسيتحول رجال الدين إلى مجرد رجال بحث علمي ليس لهم قداسة، لأنهم رغم أنهم يقولون إن الإسلام ليس به رجال دين، ولكن الحقيقة غير ذلك، فهم رجال دين، والدليل أنه لم يفكر أحد في تقبيل يد العالم الجليل الدكتور أحمد زويل رحمه الله، ولكن الكثيرين يقبلون يد شيخ الأزهر ومن دونه من المشايخ، ولا يفعل هذا عوام الناس في القري، ولكن على مستوى إعلاميين كبار ورجال فكر وثقافة، إذا الأمر لا يتعلق بمجرد علم، ولكن بمستويات تقوى وقداسة تكتسب لأن علمه يتعلق بعلوم أطلقوا عليها علوم الدين، وبالغ آخرون بأن جعلوا العلوم الأخرى علوما دنيوية حقيرة، وعلوم الدين تؤهل للآخرة، كأنهم يملكون صكوك الغفران، وجواز المرور بعباداتك إلى القبول. وربما سيدفع هذا الأمر بالذهاب إلى ما هو أبعد من ذلك وهي مساحة تدخل الدين في الحياة العامة، وما المساحة التي قال عنها النبي الكريم: أنتم أعلم بشؤون دنياكم، في قضية تأبير النخل، وبين ما يتعلق الأمر بالدين، وأنا أذهب بهذه المساحة إلى كل أمور السياسة والاقتصاد والاجتماع والتشريع هي من أمور الدنيا، التي يكون الرأي الجمعي من خلال المؤسسات، وهو رأي الأمة بناء على الواقع المعاش وضغط الاجتماع هو المرجع في هذا الشأن، وأن نستأنس بما ذهب إليه الأقدمون في أمور الحياة، وما كان منه صالحا لا مانع من استمراره. سيقول أحدهم وما تركت للدين؟ أقول تركت لهم الوعظ وتغذية أمور الامتلاء الروحي والعلاقة المتصلة مع الله، لتخفيف ضغوط الحياة الصعبة على الأفراد، والدفع إلى الأخلاق الكلية من الصدق والشجاعة والمروءة والإيثار والأخوة وبر الوالدين وكل ما هو أخلاقي وإنساني، ومساعدة المجتمع في حل مشكلاته الصعبة من عنوسة وبطالة ويشارك مؤسسات المجتمع المدني في التنمية. الشيخ صبري عبادة وكيل الأوقاف ذهب إلى جواز زواج المسلمة من كتابي على الهواء في قناة الأوربت يوم الأحد 17 سبتمبر. يبدو أن ذنب الشيخ محمد عبد الله نصر الذي ما زال يقبع في السجن وإسلام بحيري الذي سجن عاما وخرج يطارد الأزهر الآن، وشيوخه يتعرضون للتحقيق والمطاردة، الآن سعاد صالح وصبري عبد الرؤوف، وسابقا عبد الله رشدي وسالم عبد الجليل، وربما يأتي لاحقا صبري عبادة، مع حفظ الألقاب للجميع، كما طارد ذنب نصر حامد أبو زيد، الأزهر في وقته، فقد فرق الأزهر بينه وبين زوجته بحكم قضائي نصر حامد كان وراءه الشيخ عبد الصبور شاهين، ولحق الشيخ عبد الصبور شاهين الضرر لاحقا عندما كتب كتاب "أبي آدم"، وقال فيه إن آدم له أب وأم وفرَّق بين البشر والإنسان العاقل، وأن بداية الإنسان العاقل هو آدم، ولكن كان له أب وأم من البشر، وصنع مقاربات مع نظريات التطور، وعندما عارض روايات منتشرة، ومتأصلة لدى الجمهور العريض من الشارع المسلم رغم ضعفها وهوانها، ولكنه كان كاشفا لحجم الخديعة التي يفعلها الشيوخ بالعوام، عن طريق التكرار الملح على روايات مكذوبة، لتصبح مع الوقت جزءا لا يتجزأ من الدين والعقيدة، كفره البعض وفسقه آخرون، ونال من الأذى ما نال. في النهاية أتمنى على الأزهر أن يدرك حجم التغير الكبير من تأثير العولمة، فبطون الكتب تخرج يوميا إلى مواقع التواصل الاجتماعي، والكثير منها من الصعب دحضه أو الدفاع عنه، فالأمر أيسر من ذلك بمنتهى السهولة ترفع القداسة عنه، ويصبح أمرا ظنيا لا مجال ليقينيته، وأن إعمال العقل في النصوص، ورفض كل ما هو ضد العقل وضد الإنسانية وتنتهي المشكلة، أما المناورة التي يستخدمها بعض المشايخ بأننا لا نفهم اللغة، وأننا أغبياء ففكرة شاذة وغريبة، لأنك تحدث 300 مليون مواطن عربي من 2 مليار مسلم، ناهيك بالعالم ذي المليارات السبعة، فأي ترجمة لتلك النصوص سيجعلها محط سخرية وانتقاد، فإذا كنت جرأت على اتهام العربي بعدم فهمه لغته الأولى التي يتحدث بها، فماذا ستفعل عند ترجمة تلك النصوص المنافية للعقل والإنسانية للعالم بلغاته المتعددة، وللعلم فالقضية الأخيرة لفت العالم أجمع، وعرفوا أنها موجودة في كتب معتمدة ومن مشايخ كبار. الأمر لا يحتمل أي تأخير، يجب مراجعة شاملة لطريقة الدراسة في الأزهر، والتركيز على العلوم الإنسانية والفلسفية، ومعايير وطرق البحث العلمي الحديثة، لنخرج جيلًا مختلفًا، إما هذا وإما فالأزهر سوف ينهار.