كيف يمكن أن نغري مرشحا محترما للدخول في معترك هذه الانتخابات الرئاسية القاسية وهو يعرف أنه خاسر مقدما؟ الانتخابات الرئاسية ليست شيئا هينا، دائما ما تكون صعبة، وتزداد درجة الصعوبة إذا كان المرشح قادما من خارج السلطة، لأن الإدارة الحاكمة بأكملها تناوئه، والشرطة تستعد للقبض على أتباعه في أي وقت، كما أنها تتطلب أموالا كثيرة، ويكفي أن الشرط الأول للترشح هو الحصول على توكيل من 30 ألف شخص من محافظات مختلفة، وهو رقم هائل وسط أناس ليس لديها الوعي السياسي الكافي، ويكلف قدرا من المال في بلد كل شيء فيه قابل للبيع والشراء، هذا غير نفقات الدعاية وهي عالية والجهد البدني الذي يتطلب من المرشح أن يتحرك في طول البلاد وعرضها، فهل يمكن أن يتمخض كل هذا الجهد عن لا شيء، أن يظفر مرشح الدولة بكل شيء، ويخسر مرشح المعارضة كل شيء، وعليه بعد ذلك أن يبتلع هزيمته ويركن إلى الظل؟ من يطيق هذا الأمر؟ في كل مرة تتحدث وسائل الإعلام، وأغلبها تتحدث بلسان السلطة، عن حاجتها لمرشح للانتخابات فهي تعني أنها بحاجة إلى كومبارس، وأي شخصية محترمة ستشعر بالإهانة إذا ترشحت وفق هذه المقاييس، وسيظل الحال كذلك، كلما تقدمت شخصية للصف الأول لا يكون هذا حقيقيا، ولكنه يؤدي دورا مرسوما له، ثم يختفي بعد ذلك، خديعة أخرى، لا الشخصية حقيقية ولا الحدث فعلي، هناك دائما شيء زائف يتم تمثيله على المسرح السياسي. لكي يكون هناك مرشح حقيقي، لا بد أن يوجد قدر من التعويض له، وإذا راعينا هذا الأمر يمكن أن يخرج النظام من المأزق الذي نعاني منه الآن، وربما نظفر جميعا بنوع من الانتخابات الحقيقية. حتى تستقيم العملية السياسية لا بد من وضع أدوار حقيقية، صادقة قليلا، إيجاد منصب ثان يستحق خوض الانتخابات الرئاسية من أجله، موقع آخر للعمل العام يستمد قوته من أصوات الناخبين، يحدث نوعا من التوازن لمنصب الرجل الأوحد الذي يجلس على قمة هرم السلطة، وربما هنا يمكننا الاستفادة من النظام الرئاسي في فرنسا، ولا أعلم صدقا إذا كان هذا النظام ساريا أم لا، ولكن لا بد أنه تغير عندما تغيرت قوانين فترات الرئاسة، فقد كانت مدة الرئاسة تبلغ سبع سنوات، وإذا تم انتخاب الرئيس للمرة الثانية تبلغ هذه المدة أربعة عشر عاما كاملة، مدة طويلة ومملة ولا تطاق مهما بلغت براعة الرئيس، لذلك قرر الفرنسيون تخفيض المدة إلى خمس سنوات، بحيث يكون مجموع الفترتين عشر سنوات فقط لا غير. ليس هذا بيت القصيد، ولكن في النظام الفرنسي كانت الانتخابات تتم على دورين، الاقتراع في الدور الأول يكون مفتوحا يدخله كل المرشحين، ولكن بعد فرز الأصوات يتم اختيار اثنين، الحاصلين على الأعلى تصويتا، لا يهم فارق الأصوات بينهما، المهم أنهما من أعلى الأصوات، ويتم عقد الجولة الثانية بينهما، حيث لا يوجد خاسر، لأن الفائز بالمركز الأول في عدد الأصوات يصبح رئيسا للبلاد، ومن يحتل المركز الثاني يصبح رئيسا للوزراء، ويعطي هذا النظام قوة جديدة للمنصب الثاني، فالشخصية التي تحتله سيكون لها رصيد شعبي، وعلى قدر مهم من الاستقلالية وليس مجرد سكرتير تنفيذي تحت يد الرئيس يعينه كما يشاء ويرفده حين يشاء. هذا التعديل أليق ما يكون بالنظام المصري، بل إنه مطلوب لخلق قاعدة من المتنافسين على المنصب الذي لا يطرقه أحد، كما أننا في حاجة لشخصية قوية تمثل ساعدا مهما للرئيس، لا أن تعمل تحت إمرته، تفكر وتبدع وتضيف إلى فكره ولا تكتفي بتنفيذ أوامره. مشكلة انتخابات الرئاسة هي أنها تدور حول منصب واحد لا يقبل القسمة، شبه محسوم، مؤمم لمرشح بعينة حتى قبل أن تبدأ الانتخابات، لذا فإن الانتخابات القادمة تبدو عبثية وبلا فائدة تقريبا وستكلف الدولة أموالا طائلة دون عائد غير تأكيد سلطة الرجل الذي يحتل هذا المنصب بالفعل، ولكن هكذا يقول الدستور لا بد من إجراء الانتخابات ولا بد من فوز مرشح بها حتى ولو كان وحيدا، وأن يحصل على 5% من الناخبين على الأقل ليتولى الفترة الثانية من رئاسته، ورغم هذه النتيجة شبه المضمونة فما زال أنصار الرئيس قلقين، غير مرتاحين لسير هذه العملية ويريدون إخراجها عن مسارها الديمقراطي، المعتدلون منهم يطالبون بوجوب إعداد مرشح مناسب ينافس الرئيس على المنصب، ومناسب هنا تعني أن قدرته على المنافسة لا ترتقي إلى مستوى الفوز ولكن تبقى في مستوياتها الضعيفة، وتكون قدرته على تحمل الإهانات عظيمة، فنحن نعرف من التجارب السابقة أن وسائل الإعلام ستصب عليه كمًّا هائلا من الاتهامات والشتائم لا طاقة لبشر بتحملها، وهذا ما حدث مع المرشح حمدين صباحي في الانتخابات الماضية، فقد تم اغتياله معنويا وتشويه كل تاريخه، وحتى الآن ما زال أي تصريح يدلي به يقابل بالرفض والاستنكار، أما المتطرفون من معسكر الرئيس فهم يريدون تأجيلها عاما أو عامين، أو إلغاءها وتحويلها إلى مجرد استفتاء متواضع كما كان يحدث سابقا، وفي سبيل ذلك هم مستعدون لتغيير الدستور أو إلقائه في الزبالة إذا كان هذا ممكنا. منصب الرئاسة في مصر ما زال مطلقا، هناك قمة واحدة يعلوها رجل واحد، في يده كل السلطات وتحيط به هالات التقديس، تقاليد تعود في جذورها إلى أيام الفراعنة عندما كان الحاكم نصف إله، ربما لم يكن يريد ذلك، ولكن هذا هو الوضع الذي يراه فيه الموالون، وبالتالي فلا يجوز نقده أو منافسته، وهي الخطيئة التي يراها كل من تحدثه نفسه بالاقتراب من هذا المنصب، يوجد دائما زعيم أوحد، لا يوجد حوله إلا فراغ من الوجوه، فتحت القمة مباشرة لا يوجد شيء، لا صف ثان من الرجال ولا ثالث ولا رابع، يوجد فقط عند السفح عدد من المعاونين، وزراء وساسة ومديرون ومنتفعون، وجوههم متشابهة ومهامهم متداخلة ولكنهم لا يملكون القدرة على اتخاذ القرار، القرار يأتي دائما من الأعلى ويسير في اتجاه واحد، لذا من النادر أن يولد من مجال العمل السياسي شخصيات بارزة يتعرف عليها الناس ويرشحونها لمرات قادمة، والنتيجة أن الوزراء يأتون، ويذهبون دون أن نعرف أسماءهم أو نتذكر وجوههم، الوحيدون الذين يتمتعون بالشهرة هم الذين يتم الإمساك بهم وتقديمهم للمحاكمة. لذا أدعو للأخذ بنظام المنصبين، من أجل أن يكون هناك انتخابات حقيقية، وأشخاص حقيقيون وليس مجرد "كومبارس".