العلاقات بين الثقافات الغربية والإسلام، موضوع بالغ التعقيد والتركيب، وينطوي على محمولات تاريخية عديدة الخطوط والتفاعلات والروافد، والأحكام والصور النمطية المسبقة، والخضوع والتحرر، والانتكاسات، والعنف المتبادل. من هنا تبدو صعوبة أية مقاربة سوسيو-سياسية، أو سوسيو-ثقافية، أو سوسيو-أنثربولوجية، أو سوسيو-دينية، لصعوبة الإحاطة بكل هذه الجوانب المعقدة التي يمكن أن نشير إليها فيما يلي: 1- الإطار التاريخي للعلاقات السياسية والثقافية في العصور الوسطى، وقبل المراحل الكولونيالية والإمبريالية حتى مرحلة العولمة وما بعدها، وهو ميراث وسياقات طويلة ومتعددة الأبعاد والمشكلات والتعقيدات، ومن الصعوبة بمكان استصحابها إلا على نحو محدد في تفسير بعض من المشكلات والإشكاليات الراهنة في العلاقات سواء داخل الدول والمجتمعات الأوروبية، أو مع العالم العربي تحديدًا. 2- الصور الدينية العقائدية الإسلامية المسيحية إزاء الديانة الأخرى، ومواريث الصور الفقهية والتأويلية والتفسيرية حول المسيحية في النصوص المقدسة القرآنية أو في السنة النبوية المشرفة، وفي التفاسير، وفي بعض كتب التاريخ الإسلامي. وصور الإسلام في المسيحية لا سيما في القرون الوسطى، من قبل اللاهوتيين الكاثوليك والأرثوذكس، ثم بعد ذلك في البروتستانتية بعد حركة الإصلاح الديني. من ناحية أخرى لا ينبغي إغفال بعض التصورات حول العلاقات بين المسيحية والإسلام بعد حركة مجمع الفاتيكان الثاني وإمكانية الخلاص خارج الكنيسة لغير المؤمنين بالكاثوليكية خصوصًا والمسيحية عمومًا. 3- الإرث الفقهي الإسلامي واللاهوتي المسيحي يمثل واحدًا من أهم محددات إنتاج الصور النمطية في العقل الجمعي الغربي، والعربي/الإسلامي حول صور الديانة الأخرى وتعاليمها ومن ثم وإدراكها لدى المؤمنين بها، إزاء الديانة الأخرى. هذه الإدراكات المتبادلة تأثرت بالمواجهات والسجالات الفقهية واللاهوتية، وأنماط التنشئة الاجتماعية والدينية في المجتمعات الغربية، والعربية الإسلامية، التي أسهمت في صياغة الخيال الديني لدى كليهما. 4- الحروب الصليبية والاستعمارية الأوروبية أسهمت في صياغة الصور المتبادلة بين المجتمعات الغربية والعربية، حيث الغزو والاحتلال وسياسة المحتل في المراحل الاستعمارية أسهمت في بناء الإدراكات والصور السلبية المتبادلة، لا سيما إزاء الاستعمار البريطاني والفرنسي والإيطالي. 5- صور الرسامين الغربيين وكتابات الرحالة والمستشرقين والروائيين الغربيين حول المجتمعات العربية الإسلامية، والمرأة لا سيما الصور الغرائبية المنتجة حول واقع العرب المسلمين وأنماط معاشهم، وعلاقات الذكورة والأنوثة، لا سيما صور المرأة العربية. من ناحية أخرى إرث الكتابات الغربية الرسمية واللا رسمية عن هذه المجتمعات العربية تحت الاحتلال عن شعوبنا. الخلفيات والأرضيات والسياقات الدينية والسوسيو-تاريخية، وسياسية وثقافية، تمثل أحد تحديات هذه العلاقات، وتغذي الآلات الذهنية والثقافية في إنتاج الصور السلبية المتبادلة بين ثقافاتنا، وثقافاتهم الغربية. 6- المراحل الكولونيالية وما بعدها، وإرثها المؤلم من الاحتلال ونهب الثروات الوطنية لا تزال تلعب دورها السلبي في تغذية المخيال السياسي والديني والوطني في مجتمعاتنا إزاء الدول والمجتمعات الغربية، واستمرارية عمليات الاستغلال الاقتصادي للنفط والفوائض النفطية، والاستثمارات العربية في الولاياتالمتحدة وأوروبا، وصفقات الأسلحة الضخمة من أوروبا وأمريكا للدول العربية لا سيما النفطية. 7- إسرائيل والدعم الأمريكي الأوروبي لها عسكريا وسياسيا، يمثل جرحًا غائرًا في العقل والوعي الجمعي العربي، بين النخب السياسية والمثقفة عمومًا، وبين الشرائح الاجتماعية المختلفة للشعوب العربية، وكرس ذلك الجرح المؤلم فشل مساعي التسوية السياسية بسبب الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة. ما سبق يشكل محركات الإدراك والوعي والصور الذهنية للعلاقات المتبادلة بين الجانبين، إلا أن ثمة محركات جديدة يمكن رصد أهمها فيما يلي: 1- الجاليات العربية والإسلامية في أمريكا وكندا ودول المجموعة الأوروبية، وبروز عدد من الأجيال لا سيما الجيل الثالث المولودين في هذه المجتمعات وأصبحوا يحملون جنسياتها. من ناحية أخرى الهجرة القسرية أو الطوعية للسوريين والعراقيين وغيرهم من أبناء البلدان العربية جنوب المتوسط في أعقاب نشوب الحروب الأهلية، وانهيار الدولة الوطنية الهشة في العراق وسوريا واليمن وليبيا. 2- تنامي ظواهر ومنظمات الإسلام السياسي الراديكالية التي تمارس العنف والإرهاب على المستوى العولمي، لا سيما بعد 11 سبتمبر، من القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية "داعش"، وبوكو حرام، والسلفيات الجهادية في دول المغرب العربي. 3- العمليات الإرهابية الدامية المتعددة في بريطانياوفرنساوألمانيا وبلجيكا، التي أشاعت مستويات عالية من الترويع والخوف، وبروز مؤشرات على ظهور خطاب الكراهية إزاء المسلمين، وإعادة إنتاج الصور النمطية عن الإسلام والجاليات المسلمة، وقضايا الاندماج الداخلي. 4- انضمام بعض الشباب المسلم من الجنسيات الأوروبية إلى تنظيم داعش الإرهابي، وانتقالهم إلى العراق وسوريا عبر تركيا، وتطويرهم أداء المنظمات الإرهابية في مجالات الرقمنة، وترويج أيديولوجيا التوحش لداعش، وقدرة هؤلاء الشباب ذوي الجنسيات والأصول الأوروبية على إشاعة جاذبية لدى الشباب العربي والمسلم، وبعض الشباب الأوروبي الأصول العرقية والقومية في الانتماء التنظيمي لداعش، أو في الانتماء الأيديولوجي لأفكارها، والتحول إلى ذئاب منفردة، تقوم بعمليات إرهابية وتنسبها داعش لها. 5- فشل بعض الأنظمة الشمولية -ذات السند الأيديولوجي الديني- والأنظمة التسلطية العربية في الوفاء بمتطلبات التنمية المستدامة بكل أبعادها لغالب مواطنيها من ناحية، وفي تجسير الفجوة بين الأجيال الشابة، وبروز أزمة هوية بين الانتماءات الوطنية- على تعدد مصادرها وأبعادها- والانتماء الديني الاختزالي وفق سياسة الهوية الأحادية حول الدين/ المذهب التي روجتها الجماعات الإسلامية السياسية والراديكالية، والمؤسسات الدينية، وبعض النخب السياسية الحاكمة. ناهيك بالسياسات الدينية المتزمتة التي اتخذتها النخب الحاكمة والمؤسسات الرسمية الدينية والأيديولوجية على نحو أدى إلى تمدد هذه الجماعات، وبنائها لشبكات اجتماعية، يسرت حضورها بين القواعد الاجتماعية الشعبية وبعض شباب الفئات الوسطى - الوسطى، والوسطى - الصغيرة. من ناحية أخرى تهميش بعض المناطق الطرفية والمحافظات / الولايات من الناحية التنموية، مما سمح بتمدد الأيديولوجيا الدينية المتشددة، وإنتاج أرضيات للتجنيد السياسي، ومن تلك المناطق الحدودية والوسطى، والجنوبية التونسية، مما أدى إلى ذهاب أكثر من أربعة آلاف شاب وشابة تونسية إلى داعش. ثانيًا: أوروبا والإسلام: حقائق ومجازات اللحظة الراهنة 1- تشكل مشكلات الهجرة القسرية واستيعابها ولو على نحو مؤقت، أحد أكبر مشكلات بعض المجتمعات الأوروبية -ألمانيا مثالاً- لا سيما في مجال الاندماج والتعايش بين خلفيات ثقافية، وقيمية ودينية متغايرة، في ظل توترات كامنة حينًا، وسافرة حينًا بين بعض الشباب العربي والمسلم، ونمط الحياة الغربي. 2- مشكلات اندماج بعض أبناء الأجيال الجديدة -الجيلين الثاني والثالث من أبناء المهاجرين- في النظام الاجتماعي، وبعضها يعود إلى عدم نجاح سياسات الاندماج الداخلي، ومن ثم تهميش بعض هؤلاء الشباب إلى ضواحي المدن الكبرى في فرنسا، وبلجيكا. 3- تدفقات قوارب الهجرة من جنوب المتوسط إلى شماله -إيطاليا على سبيل المثال- وما تشكله من خطورة محتملة من المنظورين الإيطالي والأوروبي على الأمن الداخلي. 4- بروز الشعوبية لدى بعض النخب السياسية الأوروبية لا سيما اليمين واليمين المتطرف -فرنسا، وهولندا، وبلجيكا- في ظل شعبوية ترامب الرئيس الأمريكي، وهي شعبوية تتغذى في بعض منابعها من التوترات الناجمة عن عسر الاندماج الاجتماعي لبعض العرب والمسلمين في أوروبا داخل التركيبة الثقافية والاجتماعية والسياسية، ناهيك بفشل وفساد بعض القيادات الحزبية للتيارات اليمينية على نحو ما ظهر في الانتخابات الفرنسية الأخيرة. من ناحية أخرى حالة السيولة السياسية الجديدة، وانعزال النخب اليسارية واليمينية التقليدية عن الكتل الاجتماعية الرئيسة، على نحو أدى إلى ظهور ماكرون وتيار إلى الأمام. من الصعوبة بمكان مقاربة علاقاتنا مع الدول الغربية معزولة عن تاريخ مفعم بالاستغلال والنظرة الفوقية، ودعم هذه الدول لنخب سياسية استبدادية وتسلطية وفاسدة في عالمنا العربي تفتقر إلى الشرعية السياسية، والكفاءة، ودولة القانون.