قادني أحد شوارع الفيسبوك* الرئيسية، وأنا أبحث عن عنوان "حساب" لأحد الأصدقاء؛ قادني لشارع جانبي صامت، له نفس الاسم الأول لحساب صديقي الذى كنت أبحث عنه. هذا الشارع الفيسبوكي لا يتجول فيه أحد منذ سنين، منذ غادره صاحبه ميتا/ منتحرا وهو فى الثلاثين. لم أجرؤ من قبل على دخول هذا الشارع/ الحساب منذ سمعت بخبر موته العنيف. كنت أتقدم بحذر وبصوت خفيض خطوة أو اثنتين داخل هذا الشارع الصامت والهادئ والمزين بإصيصات نبات الصبار، كأنى أسير فى مكان صاحبه نائم، فأتراجع سريعا ولا أكمل رحلتي. كان خبر موته، وما أحاط به، صدمة كبيرة تصل لحد الفجيعة لأصدقائه ولي بالتبعية. لم نتقابل إلا مرات قليلة، عندما التقيته مع أصدقاء مشتركين فى بدايات ألفية التحولات. كانت الألفية لا تزال فى بداية تعثراتها، كأنها طفل لا يزال يحبو ويمكن فى الوقت نفسه أن يقع. مضى عقدان من هذه الألفية تقريبا، وما زلنا نحبو ويمكن أيضا أن نقع فى أى لحظة.
***
أوغلت بخطواتي فى "الحساب"، فى مدينة الموت الافتراضي، متلهفا لأرى سبب هذا الموت العنيف. لاحظت أن الكثيرين من أصدقائه أرسلوا له عقب وفاته مباشرة، بعض الكلمات المطمئنة، حول الجنة التى تنتظره، خلف مدينة الموت هذه. كأنهم يزورونه ويقفون أمام قبره. وهناك ردود من بعضهم على بعض ال"statuses" قام بكتابتها سلفا. تعليقات وصلت متأخرة، أو مبكرة جدا. ربما وثق أصحابها بأنه موجود داخل الحساب ويقوم بقراءة التعليقات، بدون أن يرد. تحول هذا الحساب المفتوح، على الأبدية، إلى مزار يمكن لأى منا أن يدخل ويرى ويعاين حياة صاحبه. لا يتغير شىء فى مدينة الموت هذه سوى صور بروفيلات أصدقائه، كأنها أعمدة إضاءة تصطف على جانبي وزوايا هذا الشارع المهجور، فتطرد الوحشة عنه وعن المدينة. لا شىء ينتهى مع عصر المعلومات، وكل شىء ينتهي أيضا مع عصر المعلومات. إنه يمنح حياة إضافية صامته للموتى، لكي يقتسم معهم أصحابهم بعض الذكريات والرسائل والتعليقات، بينما هم نائمون فى انتظار البعث.
*** سمعت كثيرا من أصدقائه عن نبوغه المهني فى مجالي الجرافيك والإعلان، الذى جذبه للعمل فى إحدى الشركات الكبرى بالقاهرة المتخصصة فى هذا المجال. والتى سيتركها أيضا قبل وفاته بعدة شهور. لاحظت أثناء سيري فى حسابه، أنه خلال السنتين الأخيرتين تقريبا، كان يضع صورة "سيلفي" مُصورة في مرآة؛ كل عدة أيام. كل شىء ثابت فى الصورة، المكان والكادر، بينما الملابس متغيرة، وربما تسريحة شعر مختلفة قليلا، أحيانا بسيجارة أو بدونها، أحيانا بتقطيبة وجه مصطنعة، بنظارة أو بدونها، بحاجب مرفوع، كما ممثلي السينما، أو بدونه. كان يجرب أشكالا وصورا وملابس عديدة على نفس الجسد والحيز اللذين لا يتغيران، كأنه عارض أزياء فى "ديفيليه" أبدي يقام أمام المرآة ولا يُدعى إليه أحد. خلال هاتين السنتين حدثت طفرة فى طريقة ملبسه وتسريحة شعره، عن صورة له وجدتها له فى خزانة الصور المفتوحة أثناء ثورة يناير 2011. أصبح له "ستايل"، مثل موديلات الإعلانات ومجلات الموضة. تغير لون الشعر، وفورمته، واكتسب وجهه بريق النجوم. ربما عمله فى مجال الإعلان جعله ينسخ تلك الصورة النموذجية للنجم، الذى تتسلل فى ثنايا هذا المجال واحتله تماما، والذي أصبح أحد أشكال المثالية الجديدة فى العصر ما بعد الرأسمالي. وربما أيضا حدث تماه تام بينه وبين هذا العالم الافتراضي المثالي فى أناقته ومعجزاته وسخريته وتلاعبه بكل الصور.
*** توقفت قليلا أمام مجموعة صور شخصية له، متداخلة ومموهة، مثل العلامة المائية، بصور أخرى لمغن عالمي ولآخرين، بالإضافة لعلامات أخرى ورموز دينية صوفية. فى هذه المجموعة من الصور أصبح الوجه قريبا من التأويل. تحول إلى صفحة مياه تشف عن مجموعة من الرموز تتحرك تحتها، كلغة غارقة، تريد أن تتماسك وتتجانس وتطفو. هذه المجموعة المتنافرة/ المتجانسة من الرموز، بما فيها الوجه، أشعرتني كأنه يريد أن ينفصل بهذه الحصيلة الرمزية، كبلد مستقل، بعيدا عن تداعيات السياسة وهزائمها بعد ثورة يناير وتحولات 30 يوينو. *** هناك صورة دالة ستقابلك عند بداية الرحلة فى هذا الشارع الفيسبوكي المهجور، وهى صورة جموع فى مظاهرة موضوع فوقها سماعة عليها علامة مائلة تشير لوضع غلق الصوت mute، كأنه يغلق متعمدا صوت الجموع. ربما لم يعد يؤمن بها، وربما تحولت لصوت مشوش على ذات تريد العزلة أو الهدوء أو النجاة. وربما أن هناك من أغلق الصوت ولم يعد صوت الجماهير مسموعا. ***
أثناء سيري فى الحساب شعرت بأن هناك زائرين صامتين مثلي يسيرون بجوارى فى هذا الشارع ولا يتركون أثرا، ويبحثون مثلي عن سبب هذا الموت المفاجئ والعنيف، وهم الآن يقرأون هذا الكلام.
*** إنه تاريخ جديد للانتحار، ليس كالذى رأيناه فى أجيال مثالية سابقة، وإن كان ممسوسا به، وجعل صاحبه يقف فى نفس المكان العدمي الذى وقف فيه سابقوه. لم يكن لصاحب الحساب تاريخ سياسي لكى يورثه الحسرة والتألم الذاتيين، مما يدفعه لأن ينفخ فى ذاته. ولكن يبدو أن هذا التاريخ السياسي قد صُنع على عجل خلال ال18 يوما الأولى للثورة، وبدوره صنع حلما مثاليا أيضا على عجل، ومن ثم صنع ذاتا مثالية على عجل، تتألم على ضياع هذا الحلم، ويمكن أن تفارق جسدها فى أى لحظة تشعر فيها بالضياع واللا جدوى. ربما ليست هذه كل الحقيقة، ربما توجد الآن ذات مثالية جديدة بدون دوافع أخلاقية أو سياسية. هناك شىء أبعد من المثالية وله قوة تأثيرها فى هدم النفس، يتفاعل بعمق مع العزلة والوحدة والفراغ الذى يتمدد فيه كل شىء، ليصنع حاجزا للصوت"mute" عن كل العالم المحيط.
***
هناك صورة أخرى داله تقابلك فى منتصف الشارع تقريبا، وتتكرر بأشكال مختلفة. إنها سخرية من صورة ليوناردو دافنشي التى ترمز لخلق آدم. حيث يظهر الخالق وهو يمد سبابته ليلامس سبابة آدم لينفخ فيه الروح عبر هذا التلامس. هذه الصورة الشهيرة تحولت عنده صاحب الحساب الغائب إلى صورة ساخرة ذكية، لاأعرف هل هو صاحبها أم أحد غيره، فلقد استبدل يد الإنسان بتلك اليد الرقمية التى تصاحبنا أثناء عملنا على شاشة الكمبيوتر، وتقوم بفتح اللينكات والصور. ربما هى يد "آدم" الرقمية الحديثة، التى ربما تتحدى يد الخالق، تقف ضدها ولا تتواصل معها لتكتمل الدائرة، وتتسرب روح الخالق إليها. ربما هي علامة انفصال بين عالمي الإنسان والخالق، الروح والجسد، المحسوس واللا الضاغطة والمدمرة، تتخلق من هذا التناقض- وليس من رغبة التماهي فى عالم محلق كما فى الماضي، وإن وجدت بعض التماسات بينهما- إما أن تصبح خالقا أو تصبح مجرد شىء مادى يتم التلاعب به على شاشة الكمبيوتر وفى أسواق الحياة. *** يسهِّل عالم الجرافيك التلاعب بالصور. اتسع مجال الخدع والاختراع. يمكنك أن تذهب بالصور إلى أقصى تطرف لها. بسهولة يمكن أن تضع صورتك داخل يوتوبيا أو داخل جحيم، سيكونان جزءا من حياتك بعد ذلك، اليوتوبيا أو الجحيم. يمكن أن تخلق بكل سهولة واقعا بديلا، وتعيش فيه، مع ملاحظة جفاف وإحباط وثبات وهزيمة الواقع "الأصلي"، والذى لم يعد هو نفسه أصليا. يخلق الجرافيك عالما افتراضيا متكامل الأركان، وربما له القوة ليمتص صاحبه ليدخل فيها كأحد أبطاله أو أحد أعدائه. آخر "بوست" لصاحب الحساب كان عبارة عن صورة لشخص عملاق، هو الوحش فى فيلم "الجميلة والوحش"، "Buaty & the Beas" ربما هو نموذج لإنسان أعلى مهزوم، جاث بيديه وركبتيه على الأرض، كأنه خارج منها، أو كأنه وقع فى مصيدة نُصبت له، بينما رأسه منكسة، ويحوط بجسمه من كل جانب جذور وفروع الأشجار التى تناثرت حوله بسبب وقوعه. كتب فى توصيف حالته بجانب هذه الصورة: أشعر بالجحيم. هناك أجيال جديدة من الشباب، ممسوسة بالابتكار الرمزى، عملت طفرة فى التصميمات، والتى اتسع مجال التقدم فيها حتى وصل لحد ملامسة سقف الهوس والإعجاز. هناك تطور مذهل وإبهار وخلق يحوط هذا العالم الرمزي المجرد ليصنع صورة ذهنية/ حجاب، لمن يعمل بداخله، عن العالم الأصلي، وفى الوقت نفسه هو عالم هش يتكون من نبضات غير ملموسة. *** فى إحدى حارات هذا الحساب المهجور وجدت صورة لصاحبه وقد خلع على جسده زى مصارع أو جندى رومانى، حاملا لجمجمة فى يده. هناك مجال مفتوح للتلاعب بصورتك والإضافة والحذف منها، كأنك خالق تعيد تكوين الجسد ولكن بلا ثخانة، أو روح. تتلاعب بالأساسيات، وتدمجها فى رموز شتى لايصل بينها شىء، كأن الجسد تحول للوحة من الكولاج، كل جزء ينتمي لفكرة ورمز، وبدون أى وحدة تجمع بينها. سحر تكنولوجيا التصميم الجرافيكي أنها سمحت بالتلاعب بكل شىء، وبالسخرية من كل شىء. لقد أتاحت هذه التكنولوجيا صورا للمثالية، بدون أن تدري، بدون حضور السياسة أو الأخلاق كوسيط لهذا العالم المثالي. ربما صنعت هذه التكنولوجيا صورة لإنسان أعلى متجاوز لا هدف له من حصيلة السخرية والابتكار والإبداع. *** هناك ملاحظة أخرى داخل هذا "الحساب"، تخص أيضا حضور التكنولوجيا ودلالاتها: صورة لموبايل من "الجيل الذكي"، تهشم زجاجه تماما. صورة مؤثرة جدا بالنسبة لي، تبين نظرة صاحبها للأشياء من زاوية جديدة وحزينة، ومدى هشاشة هذه الأشياء وتلبُّسها بحس إنساني. *** صادفت أيضا فى طريقى وأنا سائر وصول صاحب الحساب لعامه الثلاثين. وهو بالنسبة لى "سن اليأس الروحي أو النفسي، عند الرجال، قبل أن يبدأوا دورة حياة جديدة، خالية من المستحيل . هذا السن هو الذروة الأولى من سلسلة ذروات باتجاه اكتشاف عمق الحياة وعبثيتها وجدواها. الوصول إليه يعنى ضمنيا الاقتراب من مجهول، لم يكن مُدركا قبل هذه السن، كان ذائبا وسط قوة تدفق موجة العمر الأولى.
*** ربما يكون هناك سيناريو آخر مختلف تماما عن كل مالاحظته وتوقفت أمامه؛ هو السبب فى هذا الموت الاضطراري العنيف الذي ألم بصاحبه. فالموت لا يبحث عن أسباب، لأنه كامن فى مئات مئات مئات التفاصيل التى تحوط بنا، ولكننا ل نراه، إلا فى لحظات التحول وتأمل الحياة من خارجها.
***
كنت حذرا جدا وأنا أتجول فى الحساب، كأني أسير على حقل ألغام، لا بد أن أعرف تماما موضع بناني وهى تتحرك فوق البوستات والصور، أخشى أن أضع علامة " إعجاب" غير مقصودة على كلامه، فأحيي شيئا من الماضى لا يجب أن يحيا. جاءني الإحساس بأني أسير وسط مقبرة كبيرة، أتحسس الترَب عن يميني وعن يساري خشية أن أصطدم بإحداها. توقعت أيضا أن يخرج شبح صاحب الحساب الغائب من إحدى الزوايا ليقول لي: ليس لك الحق فى أن تتجول فى حديقة موتي. ولكن فى النهاية شعرت بأنه عائش، يرافقتى ويدلني ويكشف لي، ولم أعد خائفا من السير وسط ليل المقبرة. الكل يعيش داخل الفيسبوك، والكل ميت أيضا. إنه مدينة مفتوحة على الأبدية، بكل معانى الأبدية من فناء وحياة وخلود. __________________
*هناك مقال بعنوان "ميدان جوجل" للكاتب هيثم الورداني نُشر فى العدد الثامن من مجلة "أمكنة"، يتماس فى البناء الخارجي مع هذا المقال، حيث يتحول المجال الافتراضي لمكان حقيقى مادى نقتفي فيه بعض الآثار.