بناء البشر عنوان كتاب وجيز ومكثف للأستاذ الكبير حامد عمار، وهو مجموعة دروس كان يلقيها في "سرس الليان"، ودرس فيه بعض مظاهر الخلل في التركيبة المصرية، وفي حياتنا، ولعل أهم درس له، كان عن الشخصية الفهلوية ومثالبها، في دعوة للخروج من إطارها، ومن ثم بناء البشر، يمثل أحد أهم مجازات التطوير النوعي للشخصية المصرية، وهو مصطلح ذاع في الفكر المصري، في ظل فورة حركة القوميات عمومًا، وفي ظل عمليات تشكيل القومية المصرية المتمايزة عن الأطر الجامعة الكبرى، الفكرة الإسلامية الجامعة المؤسسة على الرابطة الدينية الإسلامية والمذهبية السنية، والفكرة العربية الجامعة أو القومية العربية التي تقوم على أساس العرق والدين واللغة والثقافة. وكانت الفكرة القومية العربية أقرب إلى نموذج مثالي يسعى العرب إلى تحقيقه في مواجهة نير الاستبداد العثماني الاستعماري، وفي السعي إلى الاستقلال من الاستعمار الغربي –البريطاني والفرنسي والإيطالي-، من هنا شاع مفهوم الشخصية القومية، والشخصية المصرية كأحد المفاهيم المتخيلة، المستمدة من علم النفس الاجتماعي، والعلوم الاجتماعية عمومًا. من ثم كان بناء البشر، هو محاولة لمقاربة جوانب الخلل في حياتنا، وفي تكوين الشخصية المصرية وأحد كتب السيد يسين الهامة تحليل الشخصية العربية والإسرائيلية. والسؤال لماذا استدعى مجاز حامد عمار الذي عنون به دروسه، وهو بناء البشر وما علاقة الأستاذ العلم فقيد الثقافة المصرية والثقافات العربية، والعلوم الاجتماعية السيد يسين؟ السيد يسين هو أحد بناة البشر، وشريحة وفئة منهم هم الباحثين الشباب النابهين، الذين كان يكتشفهم، ويمد إليهم يد الرعاية على المستويين التكويني الفكري، والإنساني، من حيث تقديم خبراته لهم ولهن دونما منَّ أو استعلاء وإنما في تواضع جمَّ. الأستاذ المعلم باني المؤسسات، وصائغ الأفكار والمفاهيم ذو اللغة العلمية المتميزة، يمثل حالة استثنائية في أدواره العديدة، وعلى رأسها دوره في التكوين المعرفي للباحثين النابهين، في إرشادهم إلى مظان ومتون المراجع الأساسية التي يجب عليهم الاطلاع العميق عليها، من خلال النظرة والمنهج النقدي، الذي لا يتعامل مع مصادره في بلاده، أو الحفظ والاستظهار وإنما من خلال المنهج، ومن ثم كان أستاذ المنهج بامتياز، لاسيما أنه وضع أول كتاب له بالاشتراك مع د. جمال زكي حول "أسس البحث الاجتماعي"، وهو من الكتب الرائدة تاريخيًا في مجاله، والذي أثر على تكوين بعض الباحثين البارزين في علم الاجتماع. من ثم كان الدرس التكويني الأول: للباحثين هو ضرورة الاطلاع والفهم والاستيعاب للدرس الأكاديمي حول المنهج، ودقة استخدام المصطلحات والمفاهيم والنظريات وطرائق طرح الأسئلة والمشكلات والفروض البحثية من الباحث، ومدى ملاءمتها لمشروعه البحثي أو الكتابي. هذا الدرس التكويني الأول، يتلوه ضرورة تكييف المنهج –الغربي المرجع- مع الظواهر والمشكلات والأزمات والأسئلة المصرية والعربية أي إدخال تعديلات أو إضافات أو حذف من المنهج الأصلي، ليكون ملاءمًا لدرس الظواهر المصرية من خلال تحليل الملامح والتضاريس والتعقيدات. من هنا الدرس الثالث: هو ضرورة اللجوء إلى المنهج التاريخي المقارن، ودراسة السياق الذي تدور في إطاره المشكلة البحثية. الدرس الرابع التكويني لدى السيد يسين، هو حثُ الكاتب والباحث على القراءة المنظمة خارج مجال التخصص العلمي في العلوم الاجتماعية لاسيما في السياسة، والآداب، والفنون الجميلة، والموسيقى ... إلخ، أي أن هذه المطالعات والرؤية والاستماع هامة، لكي يستطيع الباحث المتخصص أن يشكل رؤية لواقعه الموضوعي والكوني، وتتشكل لديه حساسية وزائقة لغوية وفنية متميزة، بحيث يكون قادرًا على استيعاب أبعاد المشاكل والظواهر البحثية. هذا الدرس لم يكن نظريًا محضًا، وإنما كان يشير إلى آخر المقطوعات والسيمفونيات لكبار الملحنين العظام الغربيين من بيتهوفن وباخ وشتراوس وكوراسكوف وبرليوز، وتشايكوفسكي ...إلخ، ويشرح أبعادها ويحللها، أو إلى دواوين الشعر العالمية لاسيما ت. س . اليوت، وعزرا باوند، أو إلى كبار شعراء العربية المصريين والعرب، في تاريخ الشعر العربي أو طلائع قصيدة التفعيلة، أو الشعر الحر، أو قصيدة النثر، من محمود حسن إسماعيل، إلى نازك الملائكة وبدر شاكر السياب، والبياتي وبلند الحيدري وسواهم من المصريين كصلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي وعفيفي مطر، حتى شعراء السبعينيات عبد المنعم رمضان وحلمي سالم وآخرين، والأجيال التالية. كان يشير على تلاميذه إلى الكتابات الصادرة خارج المؤسسة الثقافية الرسمية، كإضاءة، والكتابة الأخرى ... إلخ. كان المعلم الكبير يوظف ثقافته الموسوعية في تعليم تلامذته، وبعض مجامليه في سلاسة وتواضع، على الرغم من أنه كان لا يحب التعامل مع التفهاء ومدعي المعرفة والجهال وهُم كُثر ويتزايدون بعد أن تراجع الطلب الاجتماعي والسياسي على المعرفة والثقافة والتخصص من عهدي السادات ومبارك، وإلى الآن، وذلك لتغلب القيم المادية والطموحات الاستهلاكية الشرهة لأهل السلطة والثروة، ومن يريدون تقليدهم. كان اتساق القول مع السلوك في غالبُ الأحيان، هو درس آخر يقدمه الأستاذ المعلم لتلاميذه، ومن ثم كان نزيهًا، وذو كرامة وجسارة وكبرياء رصينًا في لغته وخطابه. إن رصانة وعمق وبلاغة الأستاذ الكبير السيد يسين، لا تعني أنه كان جهمًا، أو يصطنع الجهامة، وإنما كان شخصية ساخرة، وتميل إلى المضاحكة، وذلك مع أصدقاءه ومحبيه، على نحو لاذع لكن غير مؤذٍ للمشاعر والأحاسيس. شخصية نادرة، صنعت ذاتها بأيديها وكدها وعرقها وكفاحها من أجل المعرفة والتحصيل، والمتابعة الدءوبة لتطورات العالم، ومعارفه النظرية في العلوم الاجتماعية، من سوسيولوجيا القانون، إلى سوسيولوجيا الأدب، وعلمي الإجرام والعقاب والسياسة الجنائية، إلى علم الاجتماع السياسي، والاستراتيجية، ثم إلى درس المستقبل ومتابعة تطوراته وظواهره في نظريات العولمة والتحليل الثقافي .. ومن ثم أسميته "بحارس المستقبل"، الذي يدرس مناهج ونظريات ومفاهيم مقاربة الظواهر والتطورات المحتملة في المسارات المختلفة نحو المستقبل. كان مثال للمثقف الاجتماعي ذو الرؤية النقدية التي يمارسها ببراعة وحذق. الأستاذ المُعلم البناء الأصيل والمُبدع ظل يعمل حتى آخر يوم دهمه فيه المرض وفي عمر الرابعة والثمانين، لأن العمل كقيمة وكفعل وفكر وإبداع هو أداة الحيوية والتألق أيًا كان العمر، وهو درس هام في مواجهة الكسل العقلي والسلوكي، ومن ثم كان دائم الاطلاع على كل جديد، ومن ثم كان يتجول يوميًا كثيرًا على المواقع المختلفة على الشبكة الافتراضية. كان يتعامل مع مواقع التفاعل الاجتماعي راصدًا ومحللاً للظواهر الرقمية الجديدة على نحو نقدي. الأستاذ المعلم، كان أيضًا أحد بناة المؤسسات العلمية وعلى رأسها مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام، ومركز دراسات الوحدة العربية، والمركز العربي للبحوث والدراسات. أستاذ كبير المقام وعظيم السجايا ستذكره الأجيال المختلفة في الجماعات الأكاديمية والبحثية المصرية والعربية، وفي المستقبل لأنه كان أحد حراسه المبدعين. رحم الله أستاذنا الجليل.