باسل عادل: لم أدع إلى 25 يناير على الرغم من مشاركتي بها    سموحة يرد على أنباء التعاقد مع ثنائي الأهلي    وفاة مشرف قطاع الجمرات بالمشاعر المقدسة أثناء عمله في التجهيز لخدمة ضيوف الرحمن    سبب ارتفاع درجة الحرارة بشكل غير مسبوق.. القبة الحرارية (فيديو)    حاتم صلاح: فكرة عصابة الماكس جذبتني منذ اللحظة الأولى    يورو 2024| تصنيف منتخبات بطولة الأمم الأوروبية.. «فرنسا» تتصدر و«جورجيا» تتزيل الترتيب    سموحة يرد على أنباء التعاقد مع ثنائي الأهلي    «زد يسهل طريق الاحتراف».. ميسي: «رحلت عن الأهلي لعدم المشاركة»    حزب الله يحول شمال إسرائيل إلى جحيم ب150 صاروخا.. ماذا حدث؟ (فيديو)    الخارجية الأمريكية: نضغط على إيران لتتعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية    بايدن يحدد "العائق الأكبر" أمام تنفيذ خطة وقف إطلاق النار في غزة    فيديو| مشادة بين محمود العسيلي ومسلم.. والجمهور: "حلو الشو ده"    محافظ شمال سيناء يعتمد درجات تنسيق القبول بالثانوي العام    هشام قاسم و«المصري اليوم»    القنوات الناقلة لمباراة افتتاح يورو 2024 بين ألمانيا وإسكتلندا    الطيران الحربي للاحتلال الإسرائيلي يشن غارة تستهدف موقعا وسط مدينة رفح الفلسطينية    بايدن يزيد من آمال أوكرانيا في الحصول على المزيد من منظومات باتريوت من الحلفاء    ننشر صور الأشقاء ضحايا حادث صحراوي المنيا    تحرير 14 محضر مخالفة فى حملة للمرور على محلات الجزارة بالقصاصين بالإسماعيلية    ضبط مريض نفسى يتعدى على المارة ببنى سويف    الخدمات الصحية بوزارة الدفاع تستعد لتقديم خدمة الإسعاف الجوي خلال موسم الحج    اندلاع حريق هائل بمنطقة الزرائب في البراجيل    هل الأشجار تقلل من تأثير التغيرات المناخية؟.. البيئة ترد    الحركة الوطنية يفتتح ثلاث مقرات جديدة في الشرقية ويعقد مؤتمر جماهيري    برج الجدى.. حظك اليوم الجمعة 14 يونيو: انتبه لخطواتك    ما عملش كدا من الباب للطاق، تعليق قوي من هاني شنودة على صفع عمرو دياب لمعجب (فيديو)    أهم الأعمال التي يقوم بها الحاج في يوم التروية    عيد الأضحى 2024| هل على الحاج أضحية غير التي يذبحها في الحج؟    ما ينبغي على المسلم فعله في يوم عرفة    إصابة 11 شخصا بعقر كلب ضال بمطروح    صحة دمياط: تكثيف المرور على وحدات ومراكز طب الأسرة استعدادا لعيد الأضحى    بايدن يكشف العائق الأكبر أمام تنفيذ خطة وقف إطلاق النار    أماكن ذبح الأضاحي مجانا بمحافظة الإسماعيلية في عيد الأضحى 2024    مصطفى فتحي يكشف حقيقة البكاء بعد هدفه في شباك سموحة    جماعة الحوثي تعلن تنفيذ 3 عمليات عسكرية بالصواريخ خلال ال 24 ساعة الماضية    مصطفى بكري يكشف موعد إعلان الحكومة الجديدة.. ومفاجآت المجموعة الاقتصادية    بشرة خير.. تفاصيل الطرح الجديد لوحدات الإسكان الاجتماعي    مستقبلي كان هيضيع واتفضحت في الجرايد، علي الحجار يروي أسوأ أزمة واجهها بسبب سميحة أيوب (فيديو)    بعد استشهاد العالم "ناصر صابر" .. ناعون: لا رحمة أو مروءة بإبقائه مشلولا بسجنه وإهماله طبيا    يورو 2024| أصغر اللاعبين سنًا في بطولة الأمم الأوروبية.. «يامال» 16 عامًا يتصدر الترتيب    تحرك نووي أمريكي خلف الأسطول الروسي.. هل تقع الكارثة؟    5 أعمال للفوز بالمغفرة يوم عرفة.. تعرف عليها    مودرن فيوتشر يكشف حقيقة انتقال جوناثان نجويم للأهلي    حبس المتهم بحيازة جرانوف و6 بنادق في نصر النوبة بأسوان 4 أيام    رئيس "مكافحة المنشطات": لا أجد مشكلة في انتقادات بيراميدز.. وعينة رمضان صبحي غير نمطية    3 مليارات جنيه إجمالي أرباح رأس المال السوقي للبورصة خلال الأسبوع    عماد الدين حسين: قانون التصالح بمخالفات البناء مثال على ضرورة وجود معارضة مدنية    سعر ساعة عمرو يوسف بعد ظهوره في عرض فيلم ولاد رزق 3.. تحتوي على 44 حجرا كريما    عماد الدين حسين يطالب بتنفيذ قرار تحديد أسعار الخبز الحر: لا يصح ترك المواطن فريسة للتجار    سعر الأرز والسكر والسلع الأساسية بالأسواق الجمعة 14 يونيو 2024    وكيل صحة الإسماعيلية تهنئ العاملين بديوان عام المديرية بحلول عيد الأضحى المبارك    دواء جديد لإعادة نمو الأسنان تلقائيًا.. ما موعد طرحه في الأسواق؟ (فيديو)    نقيب "أطباء القاهرة" تحذر أولياء الأمور من إدمان أولادهم للمخدرات الرقمية    محافظ الإسكندرية: قريبًا تمثال ل "سيد درويش" بميدان عام في روسيا (صور)    تراجع سعر السبيكة الذهب (مختلف الأوزان) وثبات عيار 21 الآن بمستهل تعاملات الجمعة 14 يونيو 2024    دعاء يوم التروية مكتوب.. 10 أدعية مستجابة للحجاج وغير الحجاج لزيادة الرزق وتفريج الكروب    حدث بالفن| مؤلف يتعاقد على "سفاح التجمع" وفنان يحذر من هذا التطبيق وأول ظهور لشيرين بعد الخطوبة    قرار جمهوري بتعيين الدكتور فهيم فتحي عميدًا لكلية الآثار بجامعة سوهاج    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رواية السلفي «2» عمار علي حسن
نشر في التحرير يوم 14 - 02 - 2014

يخصُّنا الكاتب والباحث عمار على حسن بنشر روايته الجديدة «السلفى» على صفحات الجريدة، وذلك تزامنًا مع إصدار الطبعة الرابعة من رواية «شجرة العابد»، التى نالت جائزة اتحاد الكتاب منذ أيام وحظيت باهتمام نقاد كبار، وحصلت على عدد كبير من الجوائز فى مجالَى الإبداع الأدبى والفكرى.
ومؤلف «السلفى» كاتب وباحث فى العلوم السياسية، تخرج فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، ولديه عدد من المؤلفات الخاصة بدراسة الجماعات الإسلامية فى مصر والوطن العربى، كما أنه كتب عددا من المؤلفات الإبداعية، منها روايات «حكاية شمردل»، و«جدران المدى»، و«زهر الخريف»، و«سقوط الصمت»، إضافة إلى مجموعات قصصية هى «عرب العطيات»، و«أحلام منسية».
العتبة الثالثة: امرأة كالنسيم اسم على مسمى.. صبوحة عفيفة.. تقترن فى غفلة من الزمن بالفاجر الجبار
لكننى يا ولدى تركت لها الغرفة والشقة وسلالم البيت وأحذية العابرين الخشنة وجئت هنا لأبوح لك بكل شىء
هنا فى مكانى ستكون السيدة التى أمامى عجوزًا تتوكأ على أيامها الطويلة التى تمر فى هدوء
لكن كرامات الشيخة توالت بمرور الأيام، فكل ما تنبأت به راح يجرى، ووقع أبوك، يا ولدى، فى قلب كراماتها ونبوءاتها، فها أنت قد كبرت، نبت لك شارب ولحية، فحلقت الأول وتركت الثانية. كنت تدوس عليه بالموسى حتى يكاد الجلد يتقشر، بينما أعفيت الثانية من كل شىء إلا مشط أبيض كبير تضعه فى جيب جلبابك الأبيض أيضًا، تغمسه دومًا بين خيوط الشعر فاحم السواد، فينسدل أكثر على صدرك. وكنت كلما سألتك تقول:
هذه سُنة الرسول.
وضحكت ذات يوم وقلت لك:
كان الرسول يترك شعر رأسه مسترسلًا على كتفيه وكان يضفره، فافعل مثله.
كنت تلوذ بالصمت وتقول:
لا أستطيع أن أفعل هذا.
لم؟ هكذا سألتك بصوت لم يخل من غيظ، وأجبتنى بصوت خفيض:
التقاليد.
قهقهت يومها وقلت لك:
كانت بعض تقاليدهم فماتوا عليها فصارت لديكم سُنة.
وامتلأ وجهك بالغيظ، وقبل أن ترد علىّ بما يظهر غضبك واصلت أنا، وسألتك:
ترى لو كان فى «جزيرة العرب» قديمًا حلاقون مهرة ألم يكن من الممكن أن يتغير كل شىء؟
وضربت عليك ذلة ومسكنة واحتار أمرك، لكنك جريت إلى غرفتك وأحضرت كتبا ذات أغلفة مقوية، خضراء وحمراء، وعناوينها مكتوبة بماء الذهب، وقلت لى:
اقرأ، بدلًا من الولع بسيرة الشيخة «زينب» الجاهلة.
فقلت لك:
سامحك الله، تركت الجوهر وأمسكت فى المظاهر الفارغة.
ولما تركتنى ذات يوم وهربت إلى «أفغانستان»، قلت لأمك والألم يأكل روحى:
هكذا قالت الشيخة فى الزمان الأول.
فابتل وجهها بدموع غزيرة وقالت:
يعطى سره لأضعف خلقه.
ولما استبد بنا يأس قاتم، برق أمل خاطف ذات ليلة من قيعان الذاكرة، فانتفضت من مكانى راقصًا، فظنت أمك أننى قد مسنى جنون، أو أننى أهتز من فرط الألم، لكننى استعدت كل شىء كما أمكن لذاكرتى أن تحمله، وقلت لها:
جاء الفرج.
فامتلأ وجهها دهشة، وتمتمت فى سرها بكلمات لم تصل إلى مسامعى، ثم تطلعت لتسمع ما أريد أن أبلغها به.
جلست على الأريكة، ورميت رأسى إلى الوراء، وأنا ألهث، فمى مفتوح عن آخره من الهواء الخارج من صدرى، ومن الأمل الذى استيقظ وغمر وجدانى.
وقتها، يا ولدى، رأيت «الشيخة زينب» تجلس قبالة أمك. لم تكن هى، بل كان طيفها. لم يكن طيفها بل هى. لا أدرى، حتى هذه اللحظة التى أحدثك فيها، إن كان طيفًا أم جسدًا؟ لكن أمك لم تشعر بوجودها. هكذا أدركت لأنها لم تنظر إلى جانبها، لترى ما أرى، ولم تسمع ما قالته لى الشيخة، وهو ما كانت جدتك قد سمعته فى الأيام البعيدة، ورددته كثيرًا أمامى وأنا صغير وهى تضحك، كما استقر فى رأسها وعبّر عنه لسانها، ولا أدرى كيف نسيت هذا وأنا أرسف فى أغلال الدنيا وهمومها، كل هذه السنين.
فجأة جاء ما قالته الشيخة الطيبة، كماء بارد غمر نار صدرى الموقدة، وجعل صورة البيوت القديمة المتداعية تملأ عينىّ، ووجوه الراحلين ومن يكابدون أوجاع الشيخوخة المعتقة، تترى أمامى بلا توقف، ثم تبتسم، وأجد أيادى كثيرة تمتد إلىّ. ثمانية عشرة يدًا معروقة ترفرف، ثم تزحف فى بطء نحو يدى، وواحد وعشرين فمًا تقول فى صوت واحد:
تعال.
نطقوها بصوت مبحوح كثغاء الماعز، واحد وعشرون صوتًا، من كل عتبة صوت، تجمعوا وامتزجوا فى صوت واحد، يشبه صوت «الشيخة زينب» تماما. أطلقوا فعل أمر، لم أستنكفه، بل تأثرت به إلى درجة أن وجيب قلبى قد ارتفع، وتفصد العرق من مسام جلد وجهى، وتقاطر فوق قميصى.
نهضت من مكانى، ومددت يدى إلى آخر ما أمكنها، وأمك، يا ولدى، مذهولة مما ترى، وحائزة حيال رجلها الذى كان راسخًا وقورًا منذ قليل، يرتع فى صمته، فإذا هو يهذى. حسبت هى وقتها أننى تائه، أتخبط فى أوهام وهلاوس وضلالات لا أستطيع فكاكًا منها، وكادت تقوم لتغلق باب الغرفة، حتى لا أنفلت فى الشوارع وأنا أكلم نفسى، فينفلت هذيانى، ليعبر باب الشقة الموارب قليلا، وينسكب على سلالم البيت ثم يتوزع تحت أحذية العابرين، فيدوسونه ويسخرون منى، وقد يلسعنى بعضهم بكلمات قاسية.
لكننى، يا ولدى، تركت لها الغرفة والشقة وسلالم البيت وأحذية العابرين الخشنة، وجئت هنا لأبوح لك بكل شىء هنا بين الذين يرقد الزمن فى عيونهم، وهم يتمهلون فى كل شىء. يمكن لثرثرتى أن تتبعثر فى التراب المبلول، فتنبت حكايات عنى وعنك. هنا لن يقول أحد إننى لا أراك وأنا أراك، وإننى لا أحدثك وأنا أحدثك، فما تراه عينى يرونه، وما تسمعه أذنى يسمعونه، حتى لو ما أمام البصر سرابًا، وعند الأذن صمتًا رائقًا. كل البيوت مفتوحة أمامى وأمامك، فلتقف عند العتبات التى تفتح حضنها لكل من يعبرها، ويدلف إلى الداخل غير عابئ بأنينها من خشونة قدميه التى قددتها شمس الحقول، وفرطحها السعى الدؤوب وراء الرزق.
هنا فوق شوارع من تراب نسير سويًّا، يدى فى يدك، هاتها، هى هنا تملأ كفى، لكننى لا أشعر بملمسها. هل تركت جسدك هناك فى صحارى «ليبيا» الشاسعة، لكن ما الذى أقبض عليه الآن؟ هل يمكن أن نمسك الروح بيدنا، تدوس فيها أصابعها؟ ربما هى لأننى أمسكك دون أن أشعر بملمس جسمك الذى أحفظه جيدًا، منذ أن كنت أجلس إلى جانب أمك أساعدها فى استحمامك، حتى آخر مرة أخذتك فى حضنى وجفلت منى قبل أن تغادرنى كل هذه السنين.
لا أدرى، يا ولدى، فأنا أسير مترنحًا من فرط الأسى، لا أمسك شيئًا سوى كلام الشيخة «زينب» الذى رمته بصوت غير صوتها، وكأن حنجرتها قد تبدلت فى ثانية واحدة، ثم تركت جدتى تتقلب فى وحل الحروف. وقبل أن تطير روح الجدة إلى الأفق الأعلى جاءت بأمى، وكررت على أذنيها كلام الشيخة كما نطقته، وكنت وقتها قد كبرت، فأصخت السمع إليها مندهشًا، إذ صار صوتها يشبه صوت الشيخة تمامًا، وأخرجت الحروف من فمها على الطريقة نفسها التى خرجت فى زمن مضى.
ترى من كان يتكلم وقتها يا ولدى؟ فأنا لا أعرف هل حلت روح الشيخة فى هذه اللحظة فى لسان جدتك؟ أم أن الأصوات القديمة التى سبق أن امتزجت وأعطت صوتها للشيخة قد تجمعت من جديد لتعطى الصوت نفسه إلى جدتك؟
سمعتها أمى، التى هى جدتك، وتعجبت مما آل إليه صوت أمها، فاقتربت منى وقالت:
كأننا نودع الشيخة «زينب».
فهززت رأسى صامتًا، وتركتها تمسح دموعها، وتكمل:
كلتاهما تبشرك بأيام عصيبة.
مددت يدى وكفكفت دموع أمى، وأنا أقول لها:
خليك مع الله.
كنت أواسى نفسى وأواسيها. بل أواسيها وأواسى نفسى، وظللت سنوات طويلة وأنا أرفل فى عزوبيتى منتشيًا بشمخة الصبا والشباب، ولا يكدرنى سوى تذكر كلام الشيخة «زينب» الذى أعادته جدتك، وحفظته أمى على قدر ما وسعها، وجمعت أنا منه ما قدرت عليه، بعد أن سمعته ذات ليلة فى بيت «غندور» مخاوى الجن. لكنه كان يأتينى فى المنام كابوسًا قاهرًا.
فى هذه الليلة البعيدة تكلمت «الشيخة» بلسان غير لسانها، ولا أدرى، يا ولدى، من كان يتكلم وقتها؟ هى أم قرينتها فى عالم الجن؟ أم يا ترى ملاك طاهر حل بجسدها أو كان يرعاها؟ أم شىء نائم فى رأسها واستيقظ فشطرها نصفين، وصارت اثنتين؟ أم كنت أنا أتخيل أو أتوهم فى شرودى وحزنى؟ أم كانت خاطرة اجتاحتنى كطوفان غادر؟ لا أدرى، لكننى أعى كل ما قيل حتى هذه اللحظة عن العتبات الواحدة والعشرين، أو الواحدة والعشرين عتبة. وما قيل، يا ولدى، قالته الشيخة، عتبة وراء أختها، ونحن ننصت حتى انتهت. لا أزال أعرف ما تفوهت به، ويمكننى أن أتلوه على مسامعك الآن بلا أدنى عناء، وها هو:
العتبة الأولى: أنا، وصهريج بيتى، الذى سيهدمه الطامعون، دار معلق فى وجه الريح له عتبة غير العتبات، وهذه فقط التى أكشفها لك، لأنها جلية كشمس نهار الصيف، منها البداية، ولا رجوع إليها، وبعدها حيرة مقيمة.
العتبة الثانية: الرجل الذى لا صلى ولا صام، لكنه صمت وهام، إلى أن جاءه اليقين، فركع وجاع، لتسمو روحه وتنخطف على بعد خطوات من السفر الأخير، بعد أن كان يجرى من تحت قدميه ماء، ويمد بيده ماء إلى العابرين وهو يبتسم تائهًا.
العتبة الثالثة: امرأة كالنسيم، اسم على مسمى، صبوحة عفيفة، تقترن فى غفلة من الزمن بالفاجر الجبار، وتعاند الألم، وترعى الظل، وتتركه ليرطب رؤوس العابرين فى لفح الهجير.
العتبة الرابعة: راعى الغنم الذى يطوق الحكمة بذراعيه حتى لا يخطفها السفهاء، يعيش حتى ينحنى ويدفن رأسه فى قدميه، ويجحده من كان يطيعه، ويعطيه ظهره متجهمًا، لكنه يقابل هذا بابتسامة تقطر بمحبة دائمة، لتغسل أوجاع المشيب.
العتبة الخامسة: الصخرة العنيدة كبغل هرِم، والمسنونة كإبرة صدئة، تصير رملًا ناعمًا فى لحظة خاطفة، تستريح للمسه الأقدام المجهدة من طول الترحال. والوجيه المغرور يتواضع، ويلملم العبوس الذى أقام على وجهه سنين، ليفرش البسمات، ويتبدل شره المستطير خيرًا عميمًا.
العتبة السادسة: حاملة الأفراح والأتراح النائمة فوق سطور تعانق الأبيض الفارغ، تعبر سريعًا، فى غفلة من الزمن، قنطرة هشة بين الصبا والكهولة، لتمضى حياتها قاسية فوق أرض بور، منتظرة العابر الذى خطف عذريتها فى لحظة وهرب بعيدًا، ولم يرسل لها سوى جمرات من عظمه المتفحم راحت تتساقط، بلا رحمة، على وجهها الذى قددته الأيام العصيبة.
العتبة السابعة: الأسود الرائع المنبوذ، الذى يميط الأذى من طريق أناس يوجعونه بهجرهم، تتحقق له الهيبة بفضل ورعه وأخلاقه، ومن أجل هذا يرمى كثيرون أحجارًا فى بحيرة آسنة، فتهتز، ويتبعثر العفن تباعًا، ليأكله صهد الشمس، وموجات الريح، ويتدفق الماء النمير.
العتبة الثامنة: الحائر بين نصف اسمه، وكل رسمه، يرق كالنسيم ثم يهيج كالعاصفة، وينقل قدميه بين أرقام مبعثرة، ويجلس ليملمها فى حضنه متوهما أنه يمتلك كل شىء، لكن يولد من يصلبه من يعلمه أن العلم لا يجافى الجمال.
العتبة التاسعة: جنوبى صغير، تحط الصحراء على رأسه، وتتناثر فوقها أحراش عفنة، تتساقط يابسة بمرور الأيام على كتفين عريضين، يرتفعان ويملآن جلبابًا فضفاضًا، يهفهف بين وردة وعود ريحان، بعد أن تنغرس القدمان فى الأرض الجديدة، وتنبت الجذور المقطوعة.
العتبة العاشرة: المسكين الذى يتغرب سابحًا فى بحار الرمل والحصى، ويدع أزهاره جائعة، تجف وهى ملقاة إلى جانب جدران سوداء محنية، والبطون التى تئن فارغة لا تجد سوى العبد الصالح ليملأها، فينفتح طريقًا واسعًا لم يجد به الخيِّرون، فيذهب الجوع، وتكبر الأجسام، وتملأ عيون من كانوا لا يرونها أبدًا.
العتبة الحادية عشرة: فاتنة طيبة، ذات قلب موصول بالسماء، وحظ مطمور فى سابع أرض. تحبس عشقها الغض، لكنه لا ينام، ولا يشيخ، فتهدهده وتروض أحلامها الجامحة، لتمضى حياتها رتيبة. حين تشرق يسيل لعاب كثيرين فتجبرهم على أن يلملموا رذاذ رغباتهم المتوحشة ويتحسروا، غير عارفين بأن وجدانها لا يحمل إلا صورة شخص واحد، ولا يردد إلا صوتًا واحدًا، يقول بلا انقطاع: الله محبة.
العتبة الثانية عشرة: جسد يفور، وعقل يغور، لصبى نزق، يعطى ظهره لعجوز ورث عنه عينيه الشرهتين، وأنانيته المفرطة، وبطنه الذى لا يشبع. فى يوم يمضى إلى رحلتين، واحدة قصيرة الزمن والمسافة إلى رغيف ناشف، وثانية إلى لقمة طرية، مغموسة فى الدم واللهيب، تأخذه هذه إلى النهاية المحتومة، ويفتح وراءه نوافذ الأسئلة الصعبة.
العتبة الثالثة عشرة: العازف الذى تتمدد على أوتار قلبه ربابة أكبر منه عمرًا، يوقعه المدعى الكاذب فى نار الحيرة، فتأخذه أنت إلى رحلة قصيرة، تتساقط فيها الحروف فوق رأسيكما، ويعود منها منشرح الصدر، فتصدح موسيقى، تخرج من فوهات داره، وتنساب فى الشوارع والحارات لتروى نفوسًا عطشى.
العتبة الرابعة عشرة: الرجل الذى يخرج الدخان من أنفه وأصابعه ويصادق القادمين من عالم الغيب، ستقصده أنت ذات ليلة لتنزع الشوك من صدرك، والحنظل الراقد فى فمك، لكنه سيهديك تحت سقف العتمة حزمة من الشوك، وكومة من الحنظل، وستسمع عنده صوتى، الذى أودعته فى رحاب الدنيا، بعد أن فارقتها بزمن طويل، فتستعيد الواحد والعشرين عتبة من جديد، لتمضى نحو حضور الغياب، وغياب الحضور.
العتبة الخامسة عشرة: تكبر شجرة التوت أمام باب الرجل الطيب، الذى يحلم بزمن يرعى فيه الذئب مع الغنم، والعجل مع الشبل، لكن أحلامه النبيلة تذهب سدى، وكل ما يقوله للناس يشعرون كثيرًا أنه بلا جدوى، لكنه يربى الأمل دومًا، فلا يموت أبدًا، بل يجلس تحت الأغصان الهائمة فى نسيم عليل ملفوفًا ببقايا الشمس العائدة إلى بيتها، يوزع التوت بيمناه، والرجاء بيسراه.
العتبة السادسة عشرة: حين يدخلك العيش تقصد صانعة البهجة محمولًا فوق رغبة جامحة وتلال من الظنون وأنت تمنِّى نفسك كثيرًا بأنك ستقضى منها وطرًا. لكن الجذابة الفاتنة تصدك وتردك، وترى منها وجهًا غير الذى رأيته من قبل أو كنت تنتظره، فتعود كاسف البال، لكنك تربح عصمة من الرزيلة، وتجنى حكمة ستعيش معك إلى أن تلقى الله.
العتبة السابعة عشرة: الرجل الذى يتصرف بلا حياء فيتساقط لحم وجهه بلا انقطاع يقف أمام بيوت الله مادًّا يده ولسانه، ليهمس فى آذان كثيرين فيسوقهم إلى المحرقة. تقصده أنت ذات ليلة تحت جنح الظلام، وفى رأسك اختلاط بين سؤال عن الغائب الحبيب وآخر، يشغل الناس ولا يعنيك، عن الكنز المخبوء، لكن أسئلتك لا تذهب، بل يولد غيرها، وتنتهى الطرق من تحت قدميك فى فراغ.
العتبة الثامنة عشرة: الحارس الصلد يخور ذات ليلة، لأن أصحاب اللحى خرجوا عليه فى الليل البهيم، ليقولوا لمن يطاردونهم بلا هوادة: نحن هنا، وخيّروه دون أن يتفوهوا بكلمة واحدة بين أن يموت أو أن يموت، فاختار إحدى الموتتين، وعاش بقية حياته كسيرًا، لا صناعة له إلا اجترار هذه اللحظة القاسية.
العتبة التاسعة عشرة: رفيق الطفولة الكذوب، الذى يفارقك فى الصبا بعد أن يبتلعه أصحاب اللحى الخفيفة، يروغ منك حين تلجأ إليه ملهوفًا لتبل ريقك بأى خبر عن الحبيب الغائب، تقف أمام بابه، بينما يتطاير حولك غبار السنين وأزهار كالقطن ترقص فى شبه الدائرة المألوفة لديك، فتملأ عينيك حكايات مفرحة من أيامك الغضة، فلا تلبث أن تهشها، وتعود لتسقط فى بئر أحزانك.
العتبة العشرون: الطيب الذى يدفن وجهه فى الذهب الأحمر المعلق عند طرف الأرض الغربى سيعطيك المفتاح من بين سطور الكتاب المُكَرم، وعليك أن تجد الباب، وأنت تائه بين الصحو والمحو.
العتبة الحادية والعشرون: هنا فى مكانى، ستكون السيدة التى أمامى عجوزًا تتوكأ على أيامها الطويلة التى تمر فى هدوء، وستكون أنت قد غزا الشيب فوديك ومفرقك. هنا قد تجد كل شىء بين يديك، أو فى رأسك، صلب وهواء امتلاء وخواء، فتريث ولا تظلمنى، فليس كل الغائبين لا نراهم، وليس كل الحاضرين نراهم، والحاضر فى غيابه أفضل من الغائب فى حضوره، فلتسكن أوجاعك باسم الله، ولتهدأ نفسك بفضله.. ولتعرف أن لكل بداية نهاية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.