اغمض عينيك من فضلك وتخيل معى، من حقنا أن نحلم قليلا، والحمد لله أن الأحلام ما زالت بالمجان، أنت الآن فى بيتك، دخلت إلى الشرفة أو طللت من النافذة لتجد عربة كبيرة لجمع القمامة تقف وسط شارعك، ينتشر حولها ستة رجال من جامعى القمامة يعملون بهمة ونشاط، وشخص آخر وراءهم بلاسلكى يتابعهم ويحثهم على الإسراع، نصف الساعة وصار شارعك نظيفًا كما لم ترَه من قبل، يتجمع بعض الجيران غير مصدقين ما يحدث، أحدهم قال: خير اللهم اجعله خير، وثان: ده حلم ولّا علم، وثالث: ماذا حدث فى الدنيا؟ قال بعضهم، لعل مسؤولا مهما سيمر من المكان، واستنتج آخرون أنهم ربما ينوون تصوير فيلم فى الشارع.. إلخ. هذا ما حدث الجمعة الماضية أمام بيتى، ولا أعرف إن كان بالنية أن يتكرر ثانية أم لا. لكنه لا شك كان حلمًا جميلًا، أتمنى لو يتحقق فى كل شوارع مصر. اعتدت دائمًا فى سفرى أحيانا أن أسمع تعليقات رائعة من الآخرين عن مصر، بمجرد معرفتهم بأنى مصرية، قد تدمع عيون وهى تسرد ذكرياتهم الجميلة فى فترة إقامتهم بمصر، أو تتسع ابتسامات الرضى وهم يقصون رحلاتهم الداخلية فى ربوعها الدافئة، ولكن أن يصفعنى أحدهم بسؤال مفاجئ عن أحوال القمامة فى مصر، فذلك ما لم أحسب حسابه، فوجدتنى أستوضح السائل بمقصده، قال: لقد كنت أعيش بمصر فى السبعينات وأذكر أنه كان لديكم مشكلة فى القمامة فى الشوارع. وألهمنى الله أن أجيبه بإجابة لا تفتقد الصدق، فقلت له إن هذه المشكلة كانت موجودة فى الماضى، ولكن الوضع الآن أفضل بكثير -ليغفر لى الله كذبى- وذكرت له حديقة الأزهر التى كانت من قبل مقلبًا للقمامة وتحولت بجهود وتوصية السيدة سوزان مبارك إلى حديقة غناء، تزخر بالأبنية الجميلة ذات الطراز التاريخى المصرى، يفخر بها كل مواطن. لا أعرف لماذا يعتاد البعض منا إلقاء القمامة من نوافذ السيارات والأتوبيسات، وشرفات المنازل، سائرا كان أم واقفا فى يده ورقة، أو كوز ذرة، أو علبة مياه غازية فارغة، أسهل شىء هى أن يلقيها بطول ذراعه دون أن يكلف نفسه النظر إليها ليرى كم شوهت المكان. لم تعد هناك فروق كبيرة بين أحياء شعبية وأحياء راقية، القمامة منتشرة فى كل مكان، وليست وحدها، بل تحتفى بها الحيوانات الضالة فتزيد من تشويه المكان، ناهيك بالأماكن الأثرية، والمتنزهات المقامة على ضفة النيل، القمامة هناك متناثرة على جوانب الطرق كمعلم من معالم القاهرة، تشوه الخضرة والجمال، ولا ينجو منها مشهد نهر النيل الخالد تلوث مياهه وضفافه وصورته فى أعيننا. إذا كان منطق بعض الذين يلقون القمامة بلا وازع من ضمير أن المكان فى الأصل متسخ وأنهم ليسوا الوحيدين فى ذلك، ولماذا هم وحدهم الذين يجب عليهم الحفاظ على النظافة، فما منطقهم فى إلقاء هذه المخلفات فى الحدائق وفى الشوارع النظيفة أصلا، أهو الحقد؟ أهو نوع من كراهية الوطن؟ أهو نوع من الانتقام؟ أم هى مجرد عادة سيئة غبية حملهم عليها الجهل، الجهل بالمضار التى يمكن أن تصب فوق رؤوسهم من جراء هذه الأفعال، أو تصب فوق رؤوس غيرهم من الأبرياء. يقال إن القاهرة وحدها تنتج 13 ألف طن من القمامة يوميا، وأنه وفقا لدراسة أجراها معهد بحوث الأراضى والمياه والبيئة فى مصر، وأن طن القمامة الواحد من الممكن أن يبلغ ثمنه 6000 جنيه مصرى لما يحويه من مكونات مهمة يمكن أن تقوم عليها صناعات تحويلية كثيرة. وهناك تجارب كثيرة لإعادة تدوير القمامة لإنتاج سماد عضوى، وهذه العملية تدر أرباحا كثيرة للقائمين عليها وتوفر فرص عمل لكثير من الشباب. وإذا فرضنا أن الأفراد سيلتزمون برمى القمامة فى الأماكن المخصصة لها، فسيكون لدينا مشكلة أخرى حقيقية وهى أن وزارة البيئة غير قادرة على جمع كل ما ينتج من أطنان القمامة يوميا، وهى فقط تقوم بجمع ثلث هذه الكمية، وهذا يفسر ظاهرة امتلاء وتكدس القممة فى الصناديق العمومية فى بعض المناطق. العلم هو الحل، نعم، فلا بد من توعية المواطنين من خلال وسائل الإعلام، من خلال دور العبادة، من خلال المدارس والجامعات، بأهمية النظافة، محاولين زرع ثقافة جديدة فى العقول، ثقافة النظافة من الإيمان، وربطها بحب البلد والانتماء، فكما يحافظ كل منا على نظافة بيته، يحافظ أيضا على نظافه شارعه وكل مكان يسير فيه. وبعد ذلك يأتى دور الحكومة فى جمع هذه القمامة، والاستفادة منها، بإنشاء مصانع عديدة لتصنيع السماد العضوى التى تعتمد على القمامة، وتوعية المواطنين بضرورة فرز وتصنيف القمامة فى منازلهم، وتخصيص صناديق كبيرة للقمامة بالشوارع مصنفة، للورق، والزجاج والبلاستيك والمعادن، والمخلفات العضوية، كل على حدة. لا بد من عربات قمامة مطابقة للمواصفات العالمية، لك أن تتخيل عربات الفمامة غير المغطاة وهى توزع القمامة المتطايرة منها على الشوارع التى إن نجت من أيادى الإهمال لن تنجو من إهمال سيارات القمامة غير المغطاة. هل من مجيب؟ ألا يلاحظ المسؤولون عن نظافة القاهرة شيئا من هذا؟ أم يسيرون مغمضى الأعين؟