بعد رحيل الشاعر الكبير أحمد فؤاد نجم مباشرة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «الفاجومى» عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، وهو عبارة عن سيرة الشاعر الذاتية، والتى كتبها نجم منذ سنوات، ونفدت طبعتها الأولى من الأسواق. والكتاب يزيد على 500 صفحة من القطع الكبير، ويسرد فيها الشاعر الراحل حياته منذ ولادته، حتى رحيل والده وهو فى السادسة من عمره، ثم التحاقه بملجأ الأيتام الذى قابل فيه طفلا آخر وهو عبد الحليم شبانة، والذى صار الفنان الكبير عبد الحليم حافظ، وتعلما معًا قراءة الشعر والموشحات، وبعد خروج نجم من الملجأ تفرقت بهما السبل. ويحكى الشاعر التحاقه بالعمل فى السويس، والتقاءه بالعمال الذين قاوموا ضد الإنجليز، وكانت ثقافة نجم ما زالت تستمد عافيتها من الروايات البوليسية، حتى أرشده أحد العمال المثقفين إلى رواية «الأم» للكاتب الروسى مكسيم جوركى، بعدها عرف نجم طريقه إلى الثقافة الجادة، ولكن الحياة لم تنصفه، فدخل السجن الجنائى إثر اشتراكه فى تزويره لبعض الأوراق، وكان هذا عام 1959. وفى السجن التقى بالكاتب الروائى عبد الحكيم قاسم، والناقد سامى خشبة، والكاتب والمحلل السياسى حسين شعلان، وهؤلاء ساعدوا الشاعر فى تبصيره بموهبته التى بدأت تنمو وتكبر داخل السجن، وبدأ يكتب شعرًا ينال إعجاب من حوله، وعندما خرج من السجن عام 1962 بدأ فى تحضير ديوانه الأول، وساعده الروائى والكاتب يوسف السباعى فى توظيفه فى منظمة التضامن الأفرو آسيوى ب12 جنيها، وقال له السباعى: هذا المبلغ من الممكن أن تأكل به العيش الحاف، أما الغموس فعليك أن تسعى لتوفيره، وبالفعل صدر ديوان نجم الأول «صور من السجن والحياة» عام 1964، مع مقدمة للدكتورة سهير القلماوى، والتى أشادت بهذه الموهبة الجديدة. بعد ذلك يتحدث نجم عن التقائه بالشيخ إمام ومحمد على وسعد الموجى، ثم يسرد نجم فى لغة شائقة وقائع تكوين الثلاثى العظيم الذى لعب دورًا كبيرًا فى تثوير الحياة السياسية المصرية، ودخول شعراء آخرين لتعويق مسيرة هذا الثلاثى، وكذلك يحكى أبو النجوم عن سر الكراهية الشديدة التى يكنها الشيخ إمام للإذاعة المصرية، حيث عانى كثيرًا منها، وذاق مقالب مهينة له، ويكتب كذلك عن اهتمام الكتاب والمفكرين مثل فؤاد زكريا ومحمود أمين العالم ورجاء النقاش بهذه الظاهرة الوليدة، ورجاء النقاش له قصة طويلة يحكيها نجم بتفاصيل مدهشة، ويلاحظ قارئ المذكرات أن هناك قصصًا وحكايات تتناثر بين السطور، ولا يفصح عنها نجم، ولكنه يشى أو يوحى بها، ومعظمها تدل على محاولات خطف الشيخ إمام منه، واستجابة الشيخ إمام لذلك، وتراخيه أمام محاولات الاستقطاب هذه، ولكن الظروف تعيدهما مرة أخرى لنفس المعترك الجماهيرى، والعلاقة التاريخية التى لم تنبن على أبعاد شخصية، ولكنها تشتد وتتماسك بفعل اشتعالها بين الجماهير،وتجد هذا القدر من الاحتفاء من قبل الصحافة والإعلام والمثقفين والمفكرين. إنها ظاهرة تاريخية استعصت على الاستقطاب والاستيعاب، وكان هناك ضوء بعيد تنجذب إليه هذه الظاهرة وتحققه يومًا بعد يوم. وهكذا يكتب نجم بكل جوارحه عن اللحظات التى ولدت فيها الأناشيد والقصائد والأغانى، وكذلك يكتب عن الدموع التى ذرفها فى لحظات الفرح، وفى لحظات الحزن، ويكتب عن الأصدقاء الذين خانوه، والأصدقاء الذين آزروه، وكذلك يسرد المخون الثقافى الذى تعرف عليه فى بداية الأمر، ويكشف عن انحيازه فى بداياته للشاعر أحمد شوقى، وابتعاده عن بيرم التونسى، هذه الانحيازات التى تغيرت فى ما بعد، إنها سيرة مثيرة لشاعر لم ينحن فى يوم من الأيام إلا لله ثم للوطن.