(1) في كتابه العمدة "تاريخ العربية السعودية"، يرصد المستشرق الروسي "أليكسي فاسيلييف"، واقع البدو، في القرن الثامن عشر، قبيل تأسيس الدولتين؛ السعودية الأولى والثانية، وهو واقع ملئ بالقسوة والشدائد، من جهة، وببذور الأمل الموءودة من جهة أخرى. اتسمت البنية الاجتماعية مثلا بعنصرية واضحة؛ انقسمت القبائل إلى خدم وسادة، احتل رعاة الإبل المرتبة الأولى في السلم الاجتماعي فهم الأكثر حرفية في القتال والإغارة و القدرة عل اكتشاف مراعي جديدة في الصحراء، ثم رعاة الأغنام، وبعدهم المزارعين في الواحات، وفي الأسفل يظهر الصناع والحدادون و النساجون، ثم مرتبة العبيد والمعتوقين الجدد. وتراتبية الطبقات تعني أن الطبقات الأسفل خاضعة وتدفع ضرائب وإتاوات ومنقوصة الحقوق. وفي كل وقت كانت القبيلة معرضة لخطر الموت والفناء، نتيجة الجفاف والمجاعات أو السيول، وبالطبع جراء معارك الاقتتال المستمرة من أجل المراعي والغنائم. وإزاء هذه التحديات المستمرة، كان على قيم البداوة و البقاء أقوى حتى من تأثير الدين، التي تقضي قواعده بحرمة الدماء، والاقتتال والترويع. لم تكن الصورة قاتمة تماما لسنوات طويلة؛ فداخل القبيلة الواحد كان هناك بذور للديموقراطية وتوزيع السلطة، شيخ القبيلة يحكم بعد الشورى، وقد يتعرض للثأر أو العزل، ومن حق أصغر عضو أن يجهر بشكواه، ويعترض، ويضغط و إذا لم يعجبه الحكم يرحل لقبيلة أخرى، كما يتحول الشيخ الوجيه لفرد عادي مطيع أمام سلطة العقيد أي القائد العسكري عند دخول القبيلة في معركة. (2) الشكل الاجتماعي للجزيرة ظل مجمدا على عنصريته قرونا عديدة، وبالمثل قوى الإنتاج والاقتصاد حتى القرن الثامن عشر. وسياسيا أيضا كان المشهد بائسا، فحتى هذا الشكل الفطري من الديموقراطية أيضا تعرض لانتكاسات؛ حين تحول راكبو الإبل وحماة القبائل إلى مركز قوى قطرية، أسسوا مدنا بحاميات من العبيد والمرتزقة، لم يعد يهتمون برضا الصغار، ثم طوعوا الشريعة لخدمة السلطان. مع تحلل وتعارك القبائل وجمودها اقتصاديا و اجتماعيا، كان الجو مهيئا ومشجعا لظهور موحد جديد، وسريعا وفي ظل حسابات إقليمية ساعدت على ذلك، منها ضعف التواجد العثماني، وبروز الأيديولوجية الوهابية ظهرت الدولة السعودية الأولى، ثم الثانية والثالثة. ظهرت الثروة البترولية، وما أعقبها من آمال للتعليم و الاستقرار، ودمج القبائل، فربما تنجح الثروة فيما نجحت فيه الأنهار والخصوبة، حينما حولت العراق تاريخيا مثلا إلى قبر للبداوة، يرحل إليه الرعاة من الجزيرة بقيمهم و غاراتهم ، ثم يعرفون الاستقرار، ويخلعون ثياب الصحراء الخشنة. (3) بعد 84 عاما من التأسيس، للدولة السعودية الثالثة يعيش نحو 3 مليون شيعي، سعودي في مناطقهم التاريخية كقبائل من الدرجة الثانية في السلم الاجتماعي، محرومون من كعكة السلطة والثروة، فيما يحرم أبناء الأديان الاخرى من حقوقهم في التعبد، ويظل نظام الكفيل للعمال المستقدمين كمعادل موضوعي ثقافي للعبيد أو المعتوقين القدامى. وبينما بقي التأثير الثقافي التاريخي للبداوة اجتماعيا، توقف الزمن عند شيوخ القبائل في الطور القديم لأصحاب الحاميات، عندما اختفى صوت المعارضين، والمجاهرين بالشكوى، ومعهم أيضا التوازن العسكري المدني. بين العقيد والشيخ. (4) العام الحالي شكل مستودع خيبات اقتصادية وعسكرية للمملكة، يكاد ينتهي وهي تفقد تأثيرها تدريجيا في الصراع السوري، مع فقدان حلب، وبالمثل اليمن، بينما تتصاعد الخسائر اقتصاديا وفق الأرقام المعلنة، فصدرت الموازنة العام لسنة 2017، بزيادة مخططة للإنفاق العسكري قدره 50.8 مليار دولار. وهذا الرقم الضخم برره وزير المالية السعودي محمد بن عبد الله الجدعان بقوله:" لا حدود لإنفاق المملكة من أجل الدفاع عن حدودها وأراضيها" الموازنة صدرت بعجز مالي قدره 52.8مليار دولار، وهو رقم لو استمر ، فستكون المملكة في غضون سنوات معدودة، على شفا فقدان احتياطها النقدي الضخم البالغ نحو 616 مليار دولار. (5) وسط هذه التوترات العسكرية والاقتصادية الجديدة، والاجتماعية القديمة تأتي الأخبار، سريعا لتفسر النشاط السعودي بجوار سد النهضة المهدد لأمن مصر المائي، ففي تقرير مهم لموقع "أصوات مصرية" التابع لرويترز، يقول إن المملكة فقدت 4 أخماس مخزونها من المياه الجوفية، وستتوقف زراعة القمح تماما هذا العام، و البديل هو أثيوبيا، التي طرحت 7 مليون فدان للاستثمار الزراعي، هناك يظهر الرجل السعودي الغامض محمد العامودي، من أم أثيوبية وأب سعودية، يعد بالتبرع ب100 مليون دولار لإكمال سد النهضة، ويدفع 200 مليون أخرى لاستصلاح منطقة أحراش. يعود التاريخ مرة أخرى للحظة ما قبل التأسيس. بدوي يبحث عن مرعى جديد، ليبقى مزدهرا، حتى لو كانت الغنائم، مأخوذة من لحم أخيه.