أنا أعرف الحياة.. ليس فيها حتى نملة وحيدة بريئة.. أو هكذا أفكر بحكمى رجلاً (أنا كنت عشان أكتب عن شخصية، لازم أعرف هى بتشتغل إيه، أنا عارفة أنى ارتبطت بالشغل بدرجة مريضة، لو حزنت أو قريفت أو حصلت أى مشكلة عندى باروح أجرى أفك عن نفسى فى التعب، أفضل أشتغل لحد ما أنسى، والمشكلة مش بتتحل ولا بتتعقد بس بتخلص نفسها، كل اللى بيتعلق بالبنى آدمين رخيص ومؤذى ومالوش تمن ومالوش أمان، الشغل حتى لو مافيش أمان من نتيجته فالتعب مريح، لغاية ما بقى أى مشكلة نفسية عندى معناه أنى ما أشتغلتش، زى ما يكون الشغل حاجة بتحركنى، بتتحكم فيا، يكونشى بقى غريزة). كانت ممددة على الكنبة كأنها مصلوبة أمام طبيب نفسى، تحكى لشخص يبدو أنه صديقها، غير أنها لا تقترب منه بشكل كافٍ لتقبّله عند السلام قبلة رقيقة، ولا تتشارك معه اهتمامات بالدرجة التى تسمح لها بتقبيله بعنف. مها وحسام جمعا فناجين القهوة وتحركا ناحية الشارع، صديقين كفيفين، لن يتعرفا بعد تفّتح البصر، بعملية مصوّرة فى الجرائد معها صورة للطبيب.بعد النزول إلى الشارع، يفقد كل منهما الجزء الصغير الوسخ، ذلك الجزء الذى يحتاج إلى أن يتكلم دون أن يشعر بخجل فادح من الحكى أمام المرآة، فينتعل أقرب أذن تأتى إلى بيته، وينزل إلى الشارع غير قادر على التعرف على أذنه. (مها) كانت طويلة، طويلة لدرجة لفت الانتباه، وعلى الرغم من ثديها الكبير، فإن جسدها لم يحو زوائد دهنية فى مناطق أخرى، وخشب أطرافها كان عريضًا مما نحت فى حركتها جاذبية وإغراء وملائمة لجميع الأذواق. «البنية» من كثرت ما سمعت كلمات إعجاب عن جسمها، انفصل عنها، أصبح يحتاج ويتأجج، أو يُقمع ويتذمر أو حتى يتألم بعيدا عنها تمامًا مستقلًا بحكاياته. لا أحد يعلم فداحة الروح المتعبة من جسد مهمل أو مريض، وضعوا الخطوط الفاصلة دائمًا لحماية الأرواح من الجسد المتخَم ولم يفكر أحد فيهم انكسار الروح من جسد مريض أو مكبوت وكيف تصبح الروح كسيرة تتعكز بأقل طاقة، أقل طاقة تكفى حتى لتدعو إلى الله. لا يهم وظيفة مها، أو كيف تقضى على عضلاتها حتى تنام، المهم أنها كانت تعصر نفسها فى الشغل وتدمى أجنحتها، لم يكن الأمر مبالغًا فى معاناته وقاسيًّا وحادًا مثلما أصوّره لك، كما لم يكن هكذا طوال الوقت، أحيانا كانت تأتى لى فى نوبات كسلها، تتذكر أحداث حياتها، كيف مش عارف مين جرحها وكيف مش عارف مين خانها وكيف بقيت وحيدة فى النهاية، وتبكى وحيدة بريئة أو كأنها وحيدة بريئة. أنا أعرف الحياة ليس فيها حتى نملة وحيدة بريئة، أو هكذا أفكر بحكمى رجلًا يعتقد أنه خبير...! كما أنى أعرف مها جيدا، هى لا تسامح ولا تثق من الأساس، تتعامل مع البشر كأدوات أو وظائف، ويبدو أنها تتخلص منهم سريعًا، بقسوة شديدة لدرجة أنها لا تفعل شيئًا واحدًا مؤذيا ضدهم أو على الأقل ضد من كانوا بيننا...! أنا بقيت معها لسبب بسيط لأنى الوحيد الذى يتفهم أن تقطع كلامه فى المنتصف قائلا: عايزة أروح أشتغل. الحقيقة يا صديقى، مها هذه مغيبة ولا تعرف شيئا عن الحياة، أذكر رعشة جسدها عندما قابلنا امرأة أربعينية، تشكو بصوت عالٍ، أحوالها أمام مطعم الفول والطعمية. ما قالته ست عفاف: إن الراجل جاى يطلع عليا عقده، أبوه كان إيحه ومعفن، حرمهم كلهم، ولما كبر وربنا بشبشها عليه، ده عامل دلوقت فى الإدارة التعليمية، وأنا بطحن الفول وأجيبه هنا كل يوم، والدنيا ماشية، وفى الآخر تبقى عيشتنا صوم وصلاة وضرب، غيرشى بس بيعاملنى زى العيال، يقفلى التلاجة بقفل، وميأكلنيش لو كلمته كلام النسوان، ما النسوان كلها بتقوله، ولا هو أنا بس اللى لازم تحس أنها وسخة يعنى عشان بتتكلم. مها تنتفض وترتعش غير مصدقة، بأن ست عفاف تعرف نفسها أكتر من بنت المدارس والكليات، ثم قالت لى: هى الناس بتتجوز عشان الجنس؟ وعندما تفتح أنثى ثلاثينية فمها متعجبة من أمر كهذا، يصيبك خللها بقريفة، قريفة شديدة، للدرجة أنك سترد عليها باستهزاء: أمال بيتجوزوا عشان يلعبوا عشرة طاولة؟ تصر على تعجبها لدرجة تثير جنونى وتزيد: مش عشان يعملوا مشاريع سوا فى الشغل والحياة ويتكلموا ويتشاركوا الحاجات ويحبوا بعض....كان ردى عليها: احا عشان يتكلموا...؟؟..!! وهكذا توالت الحوارات بيننا على مدار سنتين، أنا أسخر منها، وهى تتناوب على تغييب نفسها عن نفسها والتصرف وكانها غير موجودة، أو موجودة فى جسد آخر، جسد يسبب لها ستة علاقات عاطفية فى 24 شهرًا. لكى تحصل على المغفرة من أى خطيئة، ويصبح الدنس أصيلًا بدرجة لا تؤنبك، اقتنع من داخل أعماقك أن ما اقترفته بدون فرامل غريزة، فرض عين وواجب وزيّل الجملة ب(لم تكن لدى حلول أخرى)، ويا سلام لو قلت: ماقدرش أعيش من غير (كذا) تبقى برنس. هكذا قال لى أصدقاء كثيرون عن خيانتهم لزوجاتهم، هكذا سمعت من بعض القتلة المتسلسلين مثلا فى الأفلام، وهكذا تحدّثت مها عندما أنهت علاقتها بحسام، حسام الذى عاشت معاه كما قالت أحلى أيامها. (حسام بيخنقنى فى الشغل ومافيش بينا مشترك كفاية، وكان لازم العلاقة تنتهى، أنت عارف إن الموضوع عندى غريزى ماقدرش أعيش من غير الشغل، الشغل الكتير الحر، ده لمصلحتنا إحنا الاتنين كان لازم تنتهى العلاقة دى). رغم أنهما داما ثلاثة أعوام، كحبيبين لطيفين، ورغم أنى لا أصدق مسألة غريزة العمل هذه، فلم أصدقها، وتركتها ترتع فى مهاوى التحقق والإنكار حتى أتت لى ذات يوم. كان الجو هادى فى مكتبى، الموظفين خلعوا بدرى، تاركين المكاتب ملمّعة، كنت أتعافى من طلاقى غير آسف على أى شىء، دخلت مها وكانت تبدو أنها سكرانة، تقول بصوت عالٍ: الحاجات بتحصل جوا البنى آدم وهو مش واخد لباله، فاكر ست عفاف، كانت جلبيتها زرقا ووسخة وفيها خرم على دراعها، محل الفول ده أصلًا كان معفن، إحنا إيه اللى كان بيودينا هناك، عشان نسمع وليه مجنونة بتحكى حياتها لناس ماتعرفهاش، كانت لابسة إيشارب أسود من تحته حردة، كان وشها باين عليه طحن الفول، شغلانتها يعنى، وهى بتتكلم بتشوّح فى صوتها بألم وفقر وجوع وقهره، ههاههاهاهااه ست عفاف، فاكرها ياض اللى شفناها الصبح وإحنا نازلين سوا، وأنا اللى سبت الجواز: عشان مافيش مشترك هىء لا فى فيشة، ست عفاف كانت فاهمة صح، عرفنا كل حاجة عنها وقالت اسمها وهيه ماشية كأنها بتمضى على الحكاية، على أساس إننا هنصاحبها، ما إحنا برضه مش هنصاحب وليه مجنونة م الشارع وكمان بتقول الحقيقة! ثم نامت على المكتب، نامت وتركت زراعيها الخشبيتين مرتخيتين كما لم أرهما من قبل. أما حسام بعدما توفى والده، حصل على ميراث لا بأس به، مئة ألف جنيه، من خلالها تدّرب عند محامٍ شهير وأصبح زراعه اليمنى، يتولى مسؤولية كل شىء فى المكتب، ترك أمه فى السيدة زينب، أمه لم تنس وفاة ابنتها الصغرى، ظلت تردد سخطها على العالم وعلى الله أنه أخذ فلذة كبدها منها، أمه أثارت جنونه، بالتشفى اللاذع فى كل مصيبة تحدث: أحسن خليهم يدوقوا المرار اللى أنا شفته، كانت تخنقه، هرب من ذكريات وفاة هويدا ومن زحام السيدة زينب ومن حزن أمه الذى تعاطف معه تارة وتعصّب عليها مرات أكثر، مما أثقله بشعور بالذنب، نهايته حسام وجد فى مها وجمالها ملاذًا له، تحمّل كونه صديقًا يسمعها وتغلق الهاتف فى منتصف حكاياته، خرج من ظلامه والتفكير فى الموت بينقى مين؟ بأن ينشغل بوساوسها وجملها المتكررة وعلاقاتها الكثيرة، ثم وقعا فى غرام بعضهما البعض وتزوجا، كانت تحبه وتقبله بعنف وترتمى فى أحضانه لدرجة أن ينسى تحضير قضايا المكتب، لكن هى لا تنسى أبدا جدول أعمالها، ولا تتوانى عن تكرار كونها أصغر نائبة مديرة بنك فى مصر، كان حسام يوبخها: بكون «بيريوس» بنكًا يونانيا، وسوف يوشك على الإفلاس، وكان يستغل حبها للأدب، وخوفها من دخول عالم الكتابة لاعتقادها، أن الكاتبات المتحققات قبيحات ويذبلن سريعًا، وهى تحب وجهها وتخاف عليه من تجاعيد السجائر، فى آخر شهر لهما قبل الطلاق، ازدادت المزايدات بينهما، وازدادت متطلبات كل واحد، حسام يصاب بسعار جنسى بعد فترات عمل طويلة فى المكتب، بينما تتركه لتنام سريعًا حتى لا تتأخر على البنك فى اليوم التالى، وكلما أصر هو على قربها منه، ازدادت عنادًا وكبرياءً واقترابًا من الكتب، ظل هكذا، حتى شعرت بالتهديد، وتطلقت منه، بحجة غياب المشترك و.. و.. و...، فعلت مثلما تفعل مع كل من يدخل حياتها، إذا كانت تركت بيت أبيها بحجة أن كلية تجارة إنجليزى صعبة وتحتاج إلى تركيز بينما أهلها مشغولون بجوازات أخوتها، وهذا يشتتها أو ربما يهيجها جنسيًّا، مها لا ترحم بدافع الغريزة، (غريزة العمل)، تركت حسام وانفصلت عنه كأنها تشقّ روحه، أخذ وقتًا طويلًا يتعافى من الطلاق، غير آسف على الأيام الفائتة، لأنه وياللعجب يقول: إنها كانت حنونة وشبقة وطيبة، بالطبع بعد الطلاق، احتاجت مها إلى صديق فى حياتها، ولم يرفض حسام أن يعود إلى الدور الذى يفتك بكرامته ومشاعره وسيطيل من مدة التعافى، لكنه لا يستطيع أن يرفض لها طلبًا، لم يرها متألمة ولا حزينة بعد الطلاق، كات تنتعش، خصوصا بعدما عرفت طريقًا للكتابة ولمعت عيناها كلما نشروا لها أقصوصة صغيرة فى جريدة ثقافية تافهة وشهرية يقرؤوها خمسة أنفار على الأغلب هم العاملون بالجريدة، كان حسام يغضب أحيانًا ويتلذذ بآلام كل واحد تركته حبيبته -مثلما كانت تفعل أمه- كما أنه كان سعيدًا للغاية، ومتشفيًّا فى مها، عندما أتته سكيرة، غائبة الوعى، كأنها تعيد بقصة الست عفاف كل كرامته المهدرة، تابع حسام يديها المتدليتين من على المكتب الملّمع بعدما خلع الموظفين، ولاحظ أن يديها مرتخيتان على المكتب كما لم يرهما من قبل..