للسخرية في مصر تاريخها العريق بقدر ما هى حافلة بالظواهر المتغيرة بتغير السياقات الثقافية والتاريخية والمجتمعية، فلا يمكن القول إن ساخرا مثل «فؤاد الصاعقة» الذي استرعى انتباه الكاتب الكبير عباس محمود العقاد «كظاهرة في صحافة العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين»يتشابه كثيرا مع باسم يوسف الذي يثير الآن جدلا واسعا في المجتمع المصري. وشأنها شأن غيرها من الظواهر، فإن «ظاهرة باسم يوسف» أثارت انقسامات بين مؤيد ومعارض أو بين محبذ ومندد، فيما تقتضي دواعي الإنصاف والموضوعية القول إنه لولا مساحة رحبة من الحرية لما استمرت هذه الظاهرة ولكانت قد وئدت توا. و«ظاهرة باسم يوسف» تنتمي بامتياز لثقافة العصر الرقمي بل إنه كان قد عرف في بادئ الأمر بمواد ساخرة يبثها على الشبكة العنكبوتية قبل أن يجد من يأخذ بيده ويدفعه لشاشة التلفزيون بقناة خاصة. فقد عرف باسم يوسف طريقه مبكرا لشبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي واستخدم موقع يوتيوب لطرح أرائه الساخرة قبل أن يتجه لشاشة التلفزيون وفيما يصفه البعض بأنه «الوجه الساخر للربيع العربي» فإن هناك من يعتبره «ابن عصر الثقافة الرقمية». والعصر الرقمي ذاته موضع سخرية من جانب أدباء في الغرب كما يتجلى في الرواية الجديدة «الدائرة» لديف ايجرز، فيما خط القاص والكاتب الأمريكي الشهير جوناثان فرانزن مؤخرا سلسلة من المقالات كانت بمثابة هجاء حادا لثقافة العصر الرقمي وحمل بشدة على «التحالف المقيت بين النزعة التجارية والتقنية كسمة مميزة لتلك الثقافة الممجوجة»، في نظره. وهذا الفريق في الغرب يأخذ على ثقافة العصر الرقمي «السطحية» والميل «للاستظراف واستسهال تجريح الأخرين» فيما تتحالف الشبكة العنكبوتية مع الفضائيات التلفزيونية الهادفة للربح التجاري «في دائرة جهنمية لايعنيها سوى كسب المال ولايهمها سوى منطق الإعلانات الممولة». الاتهامات تصل لحد القول إن ثقافة الإنترنت أو العصر الرقمي تفضي لما يسمى «بالكائن الجهول» بقدر ما تعبر هذه الثقافة عن «طغيان وسائط التطفل على الخصوصية الإنسانية» فيما بات الإنسان المعاصر «تحت المقصلة الرقمية التي جعلت العالم أكثر ضحالة وبدلا من أن تمنح الكائن الإنساني المزيد من الأبعاد والعمق راحت تقلصه وتسطحه». هذا الكائن الإنساني كما يصنعه العصر الرقمي لا يمكن وصفه «بالكائن السعيد» لكنه يبحث دوما عن ابتسامة وفي وضع القابلية لأن يضحك من أي شيء «ولو من نفسه وعلى نفسه فهو يعلم بينه وبين نفسه» أنه «جزء من عالم يتكاذب وأن كل المرايا التي تحيط به في هذا العصر الرقمي لا تعكس الواقع بدقة» فهى «المرايا الكاذبة»!. ومن ثم فهذه الثقافة الرقمية بجوانبها الساخرة في الغرب موضع نقد عميق ومراجعات جادة واتهامات «بالخضوع المفرط لاستعباد المال وإطلاق العنان لأسوأ الغرائز مادام ذلك يحقق المزيد من الربحية».. وهنا يكون السؤال «هل تتحول ثقافة العصر الرقمي إلى مقصلة للقيم الإيجابية أم أنها ضحية تحامل من فريق من المثقفين غير راض لسبب أو لآخر عن هذه الثقافة الجديدة؟!». لكن تاريخ السخرية دوما يثير الجدل والأمر أبعد بكثير من ظاهرة باسم يوسف وثقافة العصر الرقمي وإلا لما تصدى كاتب ومفكر في حجم وقامة عباس محمود العقاد لتناول ظاهرة «فؤاد الصاعقة»! ماذا قال العقاد عن هذا الصحفي الساخر؟. يقول عملاق الثقافة المصرية والعربية عباس محمود العقاد «إذا كان سبب من أسباب السمعة مانعا للكتابة عن أحد فهذا الكاتب الصحفي أولى الناس بالسكوت عنه ولكنه أحق الصحفيين بالكتابة عنه إذا كان تاريخ الأدوار الكتابية في حياة الصحافة عندنا موجبا للكتابة عن صاحب الدور». وفي سياق طرح تناول فيه هذا الشخص المثير للجدل، أضاف العقاد «كان أحمد فؤاد صاحب صحيفة الصاعقة الأسبوعية أشهر الصحفيين من أبناء جيله في تمثيل ذلك الدور الذي عرفناه في صحافتنا بعد ظهور الصحف السيارة عندنا وانتشارها في أواسط القرن ال(19)، وإذا وجب أن نختصر أسماء الصحف التي يصح أن نطلق عليها صحافة الهجاء الاجتماعي في اسم واحد، فاسم فؤاد الصاعقة هو ذلك الاسم الذي لا يزاحمه شريك مثله في هذه الصناعة». كان الناس يعرفون اسم «فؤاد الصاعقة» ولا يعرفون اسم «أحمد فؤاد»، إذا انفرد بغير هذه القرينة وقد يكتفون باسم «الصاعقة» ولا يزيدون فيعرف قراء الصحافة من يريدون، وكان فؤاد الصاعقة، كما يوضح العقاد ممثلا في المجتمع المصري لدور واحد على صورتين: صورة تظهر في محيط الأدب الشعبي وهى صورة «الأدباتي» المتجول بين بلاد الريف والحضر، و«صورة مفصحة» من هذا الأدباتي وهى صورة «الأديب الأريب» المحتال لعيشه في لغة المقامات. وإذا كان القوم في الغرب الآن يتناولون البعد الاقتصادي للسخرية في العصر الرقمي، فها هو العقاد قالها منذ زمن بعيد «إذا أردنا أن نترجم هذه الصناعة بالأسلوب الاقتصادي لتفسير الأدب والتاريخ، فالصحفيون من طائفة أحمد فؤاد هم محصلو ضريبة الوجاهة والهيبة في المجتمع الجديد»!. ويوضح العقاد الأمر بقوله «إذا كان لنا أن نتخيل في هذا المجتمع سلطانا من السلاطين الأقدمين، فإن هؤلاء الأدباتية يخدمونه بالرقابة على أصحاب الجاه والهيبة، فيحيلهم بتحصيل الضريبة لحسابه من جميع هؤلاء هربا من تكلف المغارم والوفاء بحق الجزاء الصريح»، لافتا إلى أن «هذه الوظيفة لم تكن مخجلة لأصحابها ولا كان أصحابها يكتمونها ويدورن حولها». وكان «فؤاد الصاعقة» - كما يضيف العقاد - أبرع هؤلاء الجباه في استغلال وجاهة الوجيه وهيبة المهيب شفويا وتحريريا بغير عناء وهو عالم بحدود العرف والقانون مع كل طبقة من تلك الطبقات، وكانت صحيفة الصاعقة أسبوعية كما تقول رخصتها أو يقول عنوانها. لكنها في الواقع لم تكن أسبوعية ولا يومية ولا شهرية ولا سنوية، وإنما تصدر «كلما وجدت الضحية التي تؤدي ضريبة الجاه والهيبة سواء من هذه الضريبة ثمن الثناء أو ثمن الهجاء أو ثمن النجاة من التهديد والوعيد». وكان «فؤاد الصاعقة» كلما لقى العقاد يقول له «أنا أعلم أنك لا تخافني كما يخافني فلان وفلان.. وكل ما أرجوه منك ألا تجهر بذلك أمام هؤلاء ودعنا نأكل عيشنا معهم يرزقنا الله وإياك»!. كان «فؤاد الصاعقة» ظاهرة في الحياة الثقافية المصرية في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، وبعيدا عن هذه الظاهرة وزمنها وسياقها التاريخي، تحول مقدم البرامج التلفزيونية الساخرة باسم يوسف إلى ظاهرة مثيرة للجدل وحتى للدعاوى القضائية في العصر الرقمي. وثمة تساؤلات حول هذه الظاهرة ومدى أصالتها وإمكانية استمراريتها ورسوخها في الحياة الثقافية المصرية، وهى تساؤلات من قبيل هل هى ظاهرة عابرة في زمن عابر وقلق من أزمنة العولمة ومجرد محاكاة لبرامج أمريكية ساخرة، خاصة البرنامج الذي يقدمه جون ستيوارت، أم أن الظاهرة تعبر عن أصالة احتجاجية يمكن أن تشكل إضافة للحياة الثقافية المصرية؟! وهل ينتمي اداء باسم يوسف لما يعرف تاريخيا في أوروبا بالكباريه السياسي، أم أنه ينتمي للمسرح أو التلفزيون والإنترنت؟!. وتأتي «ظاهرة باسم يوسف» في سياق عالمي مأزوم ويبحث بسبل جديدة عن إجابات جديدة لأسئلة الديمقراطية، فيما تظهر حركات جديدة تجسد هذا القلق المعولم مثل حركة احتلوا وول ستريت في قلب الرأسمالية الأمريكية التي تقود العولمة. وأثارت الحلقة الأخيرة من «البرنامج» لباسم يوسف العديد من الانتقادات في الصحف ووسائل الإعلام، سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة، فيما قال عبد الناصر سلامة رئيس تحرير جريدة «الأهرام» «لن يقبل المجتمع أبدا استمرار استخدام ألفاظ وإيماءات خادشة للحياء في وسائل الإعلام». وأضاف «إذا كان الهدف تحطيم الرمز والنيل من القامة لأهداف تبدو واضحة، فإننا أمام كارثة يجب تداركها فورا ويجب عدم التمادي فيها تحت أي مسميات أو مبررات»، معتبرا أن «مجتمعنا لم يعد يتحمل أخطاء أكثر من التي فرضت وتفرض علينا طوال الوقت.. ولسنا في حاجة إلى المزيد». ووفقا لبيان نشرته صحف ووسائل إعلام فإن إدارة قنوات سي بي سي أكدت عدم رضاها عن الحلقة التي قدمها الإعلامي الساخر باسم يوسف يوم الجمعة الماضي، مضيفة أنها تابعت ردود الفعل الشعبية بعد الحلقة الأخيرة من البرنامج والتي جاءت في معظمها رافضة لبعض ما جاء في هذه الحلقة. وفيما نوهت بمواصلة ممارستها لحرية الإعلام كاملة ودعمها لثورتي 25 يناير و30 يونيو- شددت إدارة هذه الشبكة التلفزيونية على أنها ستظل داعمة لثوابت الشعور الوطني العام ولإرادة الشعب المصري وحريصة على عدم استخدام ألفاظ وإيحاءات أو مشاهد في برامجها تؤدي إلى الاستهزاء بمشاعر الشعب المصري أو رموز الدولة المصرية. والطبيب المصري باسم يوسف الذي ولد عام 1974 يعبر عن أرائه بلغة الجسد أفضل بكثير من التعبير بالكلمة، سواء كتبها أو قالها، وإذا كانت ظاهرة باسم يوسف تكشف عن سطوة ثقافة الفرجة التلفزيونية فإنها بحاجة لنقاد يحددون على وجه الدقة موقعها وموضعها مما عرف في سياقات ثقافية - تاريخية أوروبية بظاهرة الكباريه السياسي وهى بالحقيقة الموضوعية سياقات مغايرة ومختلفة عن السياق المصري الراهن. ففي خضم الاحتقانات الاجتماعية - السياسية - الاقتصادية التي ضربت ألمانيا في بداية ثلاثينيات القرن العشرين ازدهر ما عرف بكباريه القنافذ وبات أحد أهم الكباريهات السياسية التي عرفتها أوروبا. وبلغت الكباريهات السياسية ذروة عالية في عهد الإمبراطور الألماني فيلهلم الثاني عندما خفت الرقابة، وفي تلك الأيام لم يكن على المغني الشعبي أو الممثل الكوميدي إلا أن يضع مونوكولا على عينه ويتحرك على المسرح بخطوات عسكرية حتى يجعل المتفرجين يضجون بالضحك حتى قبل أن ينطق بكلمة واحدة!. وعندما هزمت ألمانيا في الحرب العالمية الأولى زادت السخرية وتصاعدت ظاهرة الكباريهات السياسية، حتى أصبحت كباريهات برلين السياسية ذات شهرة عالمية وكان الزوار الأجانب يحرصون على مشاهدة عروضها الساخرة، فيما بدأ نجم الكاتب والشاعر والمخرج المسرحي الألماني برتولت بريخت يسطع في هاتيك الأيام. كتب بريخت عددا كبيرا من النكت المزدوجة، أو التي تفهم على وجهين أحدهما بسيط والآخر خفي ودقيق، كما اشتهر في هذا المجال الفنان الألماني فيرنر فينك الذي كان برنامجه لا يزيد عن مونولوجات يلقيها بأسلوب بارد ومهذب في الظاهر ولكنه في الباطن أشبه بالسهم الخارق الحارق!. فالكباريهات السياسية كظاهرة ثقافية وليدة الحاجة للضحك والرغبة في السخرية من السلطة أو التهكم عليها، وكلما زادت ضغوط السلطة وممثليها في الأجهزة البيروقراطية، كلما ازدادت حدة التهكم بصور خفية وأشكال غير مباشرة وعبر المعاني المزدوجة وأساليب التورية. وكأن الكباريه السياسي بذلك كله يتحول إلى متنفس للتوترات والاحتقانات بقدر ما يسعى للتعبير عن رد فعل رجل الشارع أو المواطن العادي حيال من يملكون السلطة. ولكن ظاهرة باسم يوسف وإن حملت بعض سمات ظاهرة الكباريه السياسي المعولم، فإنها تأتي في سياق ثقافي - تاريخي مصري يختلف كثيرا عن السياق الثقافي - التاريخي الذي أفرز ما عرف بثقافة الكباريه السياسي، ولعلها بما تثيره الآن من جدل مصري - عربي تختلف أيضا عن المسرح الكوميدي - السياسي، وإن جمعتهما لافتة معالجة الشأن السياسي بأساليب انتقادية. فباسم يوسف ظاهرة انترنتية - تلفزيونية من ظواهر عصر الثقافة الرقمية ولم تولد على خشبة المسرح والأداء المتلفز له بمقارباته ومعالجاته الانتقادية يختلف بلا ريب عن أداء نجم كوميدي مثل عادل إمام أو نجوم سطعت في سماء المسرح الكوميدي، مثل فؤاد المهندس وسمير غانم وعبدالمنعم مدبولي ونجيب الريحاني، كما أن برنامجه التلفزيوني يختلف عن المسرح الانتقادي السياسي للفنان المصري الراحل فايز حلاوة والسوري محمد الماغوط والرحابنة في لبنان. ومع ذلك، فإن هناك من يعتبر أن ما يقدمه باسم يوسف أقرب لمسرحية مختصرة ومتقنة تعالج اليومي وتتحرك معه دون انفصام عن تفاعلاته وتفاصيله، فيما استفادت الظاهرة بشدة من إمكانات التلفزيون التي ولجت بها للبيوت لأن المعالجات المسرحية مهما بدت شجاعة وعميقة تظل قاصرة عن مواكبة الأحداث والتطورات اليومية. وفيما يتحدث بعض المتحمسين لظاهرة باسم يوسف عن إبداع جديد يسد ثغرة في المعالجة الانتقادية التي كان الإعلام العربي بحاجة لها مع إشادة بالقدرة الاستثنائية على توظيف لغة الجسد، فإن هناك في المقابل وسواء على مستوى الشارع أو وسائل الإعلام، من يتحدث عن الظاهرة في إطار المراذلة التي طفت على سطح الحياة الثقافية والسياسية المصرية في العصر الرقمي. ستبقى مصر أرض المرح البريء بشعبها المحب للحياة وصانع الفرحة في كل درب رغم قسوة التحديات وصخب المراذلات.. الجرح عميق لكننا بالبصيرة نعرف الطريق وأحلى الأماني مازالت تنتظر في ثنايا الزمن!.