أصيب صمويل بيكيت رائد مسرح العبث بحالة ضحك هستيرى بعد أن تناهى إلى سمعه، وهو فى العالم الآخر، أن شرطة "مصر الجديدة" ضبطت مواطنًا يحمل عشرة كيلوجرامات سكر، فقامت بعرضه على المحامى العام الأول لنيابات شرق القاهرة الذى أخلى سبيله بكفالة ألف جنيه، وأمر بتحويله لمحاكمة عاجلة بتهمة احتكار سلعة تموينية مدعومة والتربح منها. الخبر منشور فى جريدة الشروق صباح الأحد الماضى، ومذكور به رقم المحضر المحرر لمتهم فى الخمسين يملك مقهى. قرأت الخبر وتخيلت صمويل بيكيت وهو يمزق كل ما كتبه من مسرحيات لأن الواقع اليومى المعاش فى جمهورية مصر العربية صار يفوقها غرابة وعبثية. الرجل لم يقم بتخزين مئات الكيلوجرامات من سلعة تموينية لكى يتم التعامل معه كمحتكر. كما أن القانون لا يجرم شراء سلعة تموينية مدعمة من مستحقيها، لأن شرط وقوع الجريمة يحدث فقط عند الحصول على تلك السلعة من الموزع مباشرة دون وجه حق، وهذا ما يحتاج إلى دليل لإثباته. المواطن الذى يبيع كيس السكر الذى حصل عليه ببطاقته التموينية لشخص آخر لا يرتكب جريمة لأنه حصل على دعم من الدولة ومن حقه أن يتصرف فيه كيفما يشاء، وهذا القهوجى ربما حصل على تلك الأكياس بالشراء من مستحقيها المصابين بمرض السكر والراغبين فى الحصول على حقهم ناشف من الدولة. "ممكن والا لأ؟". ممكن بالطبع، ولكن شركة قطاع الأعمال التى تبيع زيت التموين المدعوم لرجل أعمال من خلال وسيط تجارى ترتكب معه جريمة حقيقية يعاقبهما عليها القانون. سأشرح لك ذلك بالتفصيل فيما بعد، ولكن انظر معى الآن للتعليقات المكثفة لقراء جريدة الشروق على خبر القهوجى المتهم "محتكر السكر" تجد أنها تكفى لكتابة عمل مسرحى كوميدى لصمويل بيكيت بعنوان "واحد شايب فى الخمسينة" وبطله قهوجى فى الخمسين من عمره متهم بحيازة السكر، وإليك بعض تلك التعليقات: "اللى راكب ميكروباص وداخل على كمين ومعاه كيس سكر يرميه من الشباك". "المحامى العام الأول مش كفاية، ليه ما حولوش القضية للنائب العام؟". "مش عيب عليك تبقى قهوجى وتشيل عشرة كيلو سكر؟" وأضيف من عندى "خليت إيه للحلوانى اللى ممكن يخبى عشرين كيلو ويتحكم ف أسعار البسبوسة؟". قارئ آخر إسكندرانى يقول "حد يبلغ الست انشراح لحسن صوتى راح". "عشرة كيلو بحالهم يا مفترى؟ الحمد لله إنهم مسكوك قبل ما تخرب البلد". أما أخف التعليقات دمًا فى رأيى: "لو محامى شاطر ممكن يطلعه من القضية دى تعاطى مش اتجار". المشكلة الحقيقية أن العبث لا يكتفى بمرمطة الغلابة فى النيابات وقاعات المحاكم لحيازتهم بضعة أكياس من السكر أو جركن زيت تموين وحسب، ولكنه يصدر أيضًا القرارات والقوانين التى تتيح للمحتكر الحقيقى فرصة أكبر لكى يمارس استغلاله فى حماية الدولة. قرار وزارة الصناعة الصادر فى مطلع هذا العام بوضع الحديد على قوائم السلع المحظور استيرادها جعل أحمد عز يحتكر تجارة الحديد ويتحكم فى أسعاره بمفرده فى السوق. أى أن الحكومة صنعت بإرادتها وضعًا احتكاريًّا قانونيًّا لسلعة استراتيجية يحصل منتجها على دعم للطاقة من الدولة وعلى تسهيلات وإعفاءات لا حدود لها ولا يوجد فى الأسواق من ينافسه. هذه ليست حماية للصناعة المحلية، ولكنها حماية لمنتج محتكر، وإتاحة الفرصة له لكى يطحن عظام المستهلك بالقانون. لم أصدق عينى عندما قرأت طلب استجواب وزير التموين الذى قدمه النائب هيثم الحريرى بشأن قيام إحدى شركات قطاع الأعمال ببيع زيت التموين المدعم لوسيط يعيد بيعه لشركة حديد عز لاستخدامه فى عمليات التبريد! مرفق صورة من طلب الاستجواب لمن يريد الاطلاع على التفاصيل. أى رأسمالية تلك التى تقتل المنافسة وتفرض على الأسواق سلعة يحتكرها منتج واحد تمنحه الطاقة الكثيفة الرخيصة، والتسهيلات الخرافية، وزيت التموين المدعم، وتسانده ليتفوق على منافسيه بقوة القانون؟ الرأسمالية التى تتسامح فى جريمة بيع وشراء عشرات الأطنان من مواد تموينية مدعومة من المنبع لكى يستخدمها محتكر فى غرض لم تدعم من أجله، هى نفس الرأسمالية التى تعتقل صاحب المقهى الذى يحمل عشرة كيلوجرامات من السكر وتتهمه بالاحتكار والتربح. مقال التفاؤل الذى كتبه المهندس أحمد عز فى المصرى اليوم له ما يبرره، فكيف لمن يحتكر سوق الحديد بمعاونة الدولة أن يتسرب إلى قلبه التشاؤم؟ نجيب محفوظ يجلس فى العالم الآخر مع صمويل بيكيت ويشرح له ضاحكًا كيف يمكن أن تتحول رواية "السكرية" التى تضمنتها ثلاثيته الشهيرة إلى حرز يقدم للنيابة كدليل اتهام فى أيامنا هذه، لأن مواطنًا ربما يتم ضبطه وهو يحمل نسخة منها فى حقيبته! صمويل بيكيت يموت من كثرة الضحك فى العالم الآخر وهو يكتب مسرحيته الجديدة "واحد شايب فى الخمسينة". يموت حرفيًّا وليس مجازًا. ستسألنى كيف يموت ميت؟ سأرد عليك قائلاً "يعنى هى دى الحاجة الوحيدة اللى حضرتك مش قادر تبلعها؟" انظر حولك لترى كل الأمور وقد صارت عبثًا فى عبث على عبث.