تبدو مصر هذه الأيام كأحد المخلوقات الأسطورية، عملاقة الحجم، التى بينما يتيح لها حجمها الضخم ومكوناتها «الجيوبولتيكية» ميزة القدرة على شغل فراغ كبير فى موقعها الاستراتيجى مما يقلق أعداءها وأصدقاءها على حد سواء بسبب قدرتها على التأثير الواسع والمتنامى فى محيطها ودوائره المختلفة، فإن هذا الحجم بمكوناته المعقدة يبدو فى نفس الوقت وكأنه يثقل حركتها وقدرتها على تحقيق التوازن بين أحمالها الثقيلة ومحاولة نقل أقدامها الضخمه قدما فى ظل مثابرتها الحثيثة لضبط وتوجيه التصرف بشأن أولوياتها والتعامل معها بالحرص الواجب بحيث تتقدم إلى الأمام بدلا من التراجع للخلف نتيجة لثقل الحمولة ومخاطر فقد البصيرة الواضحة لموضع خطواتها! قد يبدو هذا الوصف معقدا وثقيلا على النفس، كما أن البعض قد يفسر كلماتى بوصفها تدل على التشاؤم من المستقبل القريب، ولكنها فى واقع الأمر تقع فى نطاق التفاؤل الحذر والحرص على التقدم إلى المستقبل بخطى واثقة وثابتة حتى وإن بدت للبعض بطيئة وعديمة الحركة، ولا شك أن عبء النجاح فى دفع هذه الدولة «الثقيلة» على الطريق الصحيح يقع على عاتق الحكومة ومؤسسة الرئاسة بصفتهما التنفيذية ناهيك بجهود الأطراف المعنية الأخرى مثل الأحزاب السياسية والقوى الثورية المجتمعية والحركات الشبابية على اختلاف أنواعها وتوجهاتها نحو مستقبل أكثر إشراقا وديمقراطية. والأثقال التى تقع على كاهل الدولة المصرية حاليا تبدأ بالتحديات السياسية مرورا بالاقتصادية ولا تنتهى بالاجتماعية وتتنوع ابتداء بدستور يؤسس لدولة مصرية ديمقراطية حديثة مرورا بانتخابات برلمانية ورئاسية ناهيك بحد أدنى للأجور والمعاشات وصولا إلى تحقيق الأمن فى الشارع المصرى حتى تتوافر الظروف المسبقة والمتطلبة لاستعادة حيوية وقدرة الاقتصاد المصرى الذى بدون استعادته لعافيته سيسقط مشروع التحول الديمقراطى المصرى ويذهب إلى غياهب النسيان. ونأتى هنا لمربط الفرس وهو الإجراءات التى يجب أن تبادر الحكومة الحالية باتخاذها لتثبيت مشروعيتها باعتبارها حكومة مستجيبة لمطالب الشارع المصرى الذى قرر النزول بالملايين للدفاع عن مكتسباته الثورية فى حرية الرأى والعدالة الاجتماعية واحترام الكرامة الإنسانية ونتيجة للضغوط المجتمعية فقد بدأت هذه الحكومة الطريق الطويل للاستجابة للمواطن المصرى البسيط بتحديد «الحد الأدنى للأجور» وهى خطوة مشكورة ومقدّرة فى السعى الحثيث والشاق والطويل جدا جدا لتحقيق العدالة الاجتماعية المنشودة، ولكن للأسف فإن هذا ليس كافيا بمعايير الصراحة والشفافية والمكاشفة فالمبدأ ليس عليه أدنى خلاف ولكننا من حقنا أن نعرف كيف سيتم تدبير المبلغ الضرورى لتحقيق هذا المطلب المجتمعى الذى ندعمه جميعا، وعليه فإنه من المحتم على حكومتنا الرشيدة أن تعلن كيفية التعامل مع هذا الالتزام المالى الضخم، وهل هذا سيلقى بأعباء على بنود أخرى فى موازنة الدولة أو يترتب عليه إعادة ترتيب أولويات أهدافها الاقتصادية؟ بكلمات أخرى نحن نحتاج فى أسرع وقت ممكن إلى خروج السيد رئيس الوزراء وفريقه الاقتصادى المعاون من أعضاء هذة الوزارة ليشرحوا للشعب المصرى بلغة بسيطة ومباشرة كيف سيتم تحقيق الهدف النبيل وما الثمن الذى يجب أن نتحمله جميعا ليصبح هذا الحلم حقيقة وإلا فستسيطر على الرأى العام هواجس أن تكون هذه الخطوة الإصلاحية شديدة الأهمية هى مجرد إصلاحات «تجميلية» من الصعب أن تتجسد على أرض الواقع ويقصد بها تهدئة المواطن المصرى المكافح إلى حين، ونحن بطبيعة الحال لا نفترض ذلك، بل نثق بحسن النوايا من جانب القائمين على الأمور، ولكننا قد وصلنا إلى المرحلة التى نرغب فيها بالاطلاع، كما يقال فى مجال القضاء ليس فقط على «الحكم والحيثيات» بل ومعرفة أيضا «الصيغة التنفيذية» لهذا الحكم العادل برفع الحد الدنى للأجور متذكرين أنه ربما «سوء الظن من حسن الفطن»! فنحن سيداتى وسادتى لن نقبل بإصلاحات «تجميلية» بل نريد دائما ونطالب بمصارحتنا بالحقائق حتى ولو كانت أليمة وبهذه الطريقة فى المكاشفة الأمينة يتم تجسير هوة عدم الثقة الموروثه بيننا وبين حكوماتنا العتيدة عبر الزمن، وكما يقال فى الأمثال «صديقك من صدقك لا من صدّقك» وأنا أضيف إليه مقولة أخرى هى حكومتك الرشيدة والشرعية هى من «لا تكذب ولا تتجمل» بل تخبرك بالحقيقة مباشرة، وبكده تبقى قدمت السبت وأكيد إحنا من جانبنا سنعطيها ليس فقط «الأحد» ولكن أيضا بقية أيام الأسبوع فوق البيعة!