شىء "ناقص" أو "مفقود"، دائما، مايبحث عنه غناء وجيه عزيز. قد يكون له علاقة بالحزن أو الفرح أو الزعل أو الانبساط أو القلق أو الزهق. غالبا ما يكون "حجم" هذا الشىء قليلا فى ظاهره ولكنه كبيرا فى جوهره، ويعبر عنه بالعامية بكلمة " شويَّة"، دليلا على التواضع، وعدم التكبر حتى فى الزعل أو الحزن أو الفرح أو الانبساط. نصيب "الإنسان" الذى يغنى له وجيه عزيز قليل، سواء من الزعل أو من الفرح. هو إنسان بعيد عن الكثرة أو الغنى الظاهريين، سواء فى الحزن أو الفرح، ولكن من أدرانا بحجم هذا الحزن أو الفرح غير المرئيين. ربما هو "الإنسان العادى"، أنا وأنت، الذى يعيش تحت سقف من الاحتمالات الواضحة، ولا مكان لحدوث تغيير لهذا الإنسان إلا داخل هذه الكمية التى يهبها، بل ويبدعها، بنفسه سواء للحزن أو للفرح. " أنا أصلى زعلان شويه/ مالك ؟/ قلقان شويه/ من إيه؟/ زهقان شويه/ على إيه؟/ أنا أصلى زى بقيت الناس/ ماشى كده عايش وخلاص/ انا اصلى زى بقيت الناس/ بتجنن واتحيَّر واتلخبط واتغيَّر وأقول يا ناس". هذا الإنسان الطريف المتساهل الواضح الذى رأيته فى أغنية وجيه عزير العلامة " زعلان شويَّة"، ليس باكيا كاملا أو حزينا كاملا أو سعيدأ كاملا، بمعنى الاستيلاء على الفرح والحزن والبكاء، بل هو المتواضع فى حزنه وفى فرحه الظاهريين، الإنسان الذى لاتعرف يمناه ماتفعله يسراه، الذى روَّض الحزن والفرح وجعلهما عند مستوى التقبل والرضا بهذا النصيب. يسمى وجيه عزيز شريطا بكامله، من ألحانه، باسم هذه الأغنية "زعلان شوية"، كأنه يصدر نداء لمن يهمه الأمر، بأنه يعرض زعله بصوت خفيض، لأنه يعرف بأنه يشترك مع "بقية الناس" فى هذا الزعل القليل، لذا لايستوجب أن يرفع صوته بالصراخ، بل يهمس ويترك للمستمع أن يفسر هذه الزعل القليل بل ويتعداه إلى جوهره الكبير. داخل هذه الأغنية يصبح هذا "الآخر"، الذى يوجه له هذا النداء على استحياء؛ هو الكورس الذى يستفسر منه عن سبب زعله أو فرحه أو بكاه أو زهقه. دائما فى أغانى وجيه عزيز هناك صوت آخر مع المغنى سواء كان الكورس أو صوتا نسائيا، خاصة فى أغنيته المؤثرة" مالناش غير بعض"؛ يكمل هذه المعادلة الناقصة أو يستقبل الرسالة، كأن هذه الرسالة، أو الاحتجاج الحييى، لايخرج إلا فى وجود هذا السياق الجماعى الذى يبحث عنه المغنى ويريد أن يُسمعه شكواه. ربما هذا الشىء الناقص والمفقود هو مابعد هذه " الشويَّة"، مابعد هذا القليل، هذا الأسى الفرِح الذى يتركه فى قلوبنا غناء وموسيقى وجيه عزيز. هذا التواضع يجعلنا نريد، كجماعة أو كآخر، أن نملأ حياة هذا المغنى أو هذا الإنسان العادى، نكمل له قليله ونجعله كثيرا، أو أننا نعبر من ال " شويَّة" إلى ال " كتير" الذى لايصرح به، لأننا سنمنح له جزءا من انتباهنا وحزننا وزهقنا وفرحنا، لأن هذا الإنسان العادى يستحق أن ننحاز له. أيضا يمكن أن تكون هذه ال "شويَّة"، تعبر عن القلَّة التى تفضح الكثرة، فهذا التواضع أيضا الذى يبحث عنه وجيه عزيز، ومن قبله الشاعر على سلامة مؤلف الأغنية، يمكن أن يكون فضيحة لهذا الجزء المفقود للكثرة النائمة والتى لاتهتم إلا بالظاهر. كان أسهل له أن يقول "زعلان كتير" أو "فرحان كتير" كى يجذب له كل من يحبوا الكثرة والاستزادة من أرصدة الحزن أو الفرح العالية، لكى يكونوا رأسماليين فى حزنهم وفرحهم. ولكنه لايريد أن يكون رأسماليا فى حزنه أو فرحه، هو "إنسان عادى" سيعيش ويموت داخل سياق دائما علاقته ملتبسة بالملكية، وبدرجة مبدعة من الزعل، يمكنه من تذوقه، فتذوق الزعل والفرح مرهون بقدرة صاحبهما على استيعابهما، لكى لايتخم بهما، بل يرشفهما كأنه يرتشف رشفات من قهوته المفضلة. تحولت هذ ال "شويَّة" من مقياس كمى إلى مقياس نوعى. لم أسمع فى أغنية تكرار لكلمة فى مساحة زمنية صغيرة مثل كلمة " شوية" فى هذه الأغنية، كأن الكلمة انفصلت عن معناها، وأصبحت تشكل إيقاعا أو وحدة ضبط للإيقاع مثل رنة الطبلة أو جملة موسيقية شجية. حدث تلاعب بالكلمة وتغير وجهها وانفتح لها طريقا للطرب والتحقق خارج نصيبها القليل من الحياة القاموسية! أصبحت كلمة " شويَّة" تعيش فى هذه الأغنية نوعا من النشوة الصوفية، ودخلنا حرم حضرة وجود آخر للكلمات، وربما الأشياء أيضا. ربما مع التأكيد على هذه ال "شويَّة"، تجد أن هذا الجزء المفقود أو الناقص ليس مفقودا وليس ناقصا بل مكتملا، من كثرة الإلحاح عليه، والترويج له، وربما التمسح به. ربما أجد هنا شبهة انحياز لطبقة اجتماعية وربما يظهر هذا "الإنسان البسيط" خلف "الإنسان العادى"، والذى كان قناعا له. ولكنه ليس تبشيرا بالحزن القليل أو تمجيدا له، وهنا السبب الذى يجعل غناء وجيه عزيز، والإنسان الذى يتحدث عنه، يقع فى نقطة التقاء بين السياسى والإنسانى والشعبى. تتطور هذه ال "شويَّة" إلى مقياس كمى، تتحول إلى مساحة أو وزن، فى أغنية" حتة ناقصة" التى يسمى الشريط باسمها، وهى أيضا من تأليف الشاعر على سلامة. "وكل ما أوزن.. ألاقي لسه ناقص لي حِتَّة/ أحط حِتَّة.. تقل حِتَّة ". نجد أن هذه " الحِتَّة الناقصة" الحائرة ورمزها فى الميزان، ربما تعبر عن حق ضائع، عن عدالة منقوصة ومفقودة. لايأخذ هذا الشخص حقه أبدا، لا فى ميزان حاجياته أو ملابسه، أو فى اختياراته بشكل عام، هناك من يُنقص له فى ميزان الحياة، ويأخذ منه جزءا حيويا من نصيبه فيه. تطور هذا "الزعل القليل" لصاحبه الإنسان العادى ليصبح أداة رؤية لكل الأشياء المنقوصة فى حياته. فى نهاية أغنية "ناقص حِتَّة" يظهر الوجه الآخر لهذه الفُضلة أو "الحِتَّة الناقصة"، نجدها كبيرة وعارمة ومكتملة، خاصة عند الفرح، تتمدد هذه "الحِتَّة" لتحتل القلب كله خاصة عند الفرح." ويوم مانفرح../على الله يفضل في القلب حته".